أشتات

ملامح المشروع اللغوي عند المسيري

د. مسعود حامد

اقتضى التأسيس للمشروع اللغوي عند عبد الوهاب المسيري إبراز المرجعية المعرفية والإطار النظري الذي يقدِّم الأدوات العلمية والمنهجية الكافية لإيجاد إجابات علمية دقيقة للتساؤلات الكبرى في الثقافة الإنسانية، لاسيما تساؤلات المعنى والمدلول ورؤية العالم والإله. 

حدد المسيري عددًا من المفاهيم والإجراءات التطبيقية لتفعيل المعطيات النظرية في الواقع الفعلي، فبيّن منذ الصفحات الأولى بالكتاب أن المنظومة التوحيدية قائمة على علاقة فريدة بين الدَّال والمدلول، فهي علاقة متصلة منفصلة في آن معًا، وأن هناك مسافة ما بينهما لا تصل للقطيعة النهائية ولا للمطابقة، مشيرا إلى سيره على نهج أجداده حينما أثيرت قضية خلق القرآن؛ إذ تمّ نقلها من حيز اللغة إلى العقيدة، وتحوّلت قضية اللفظ والمعنى إلى قضية معرفية، وهو عين ما يفعله مع قضايا الحلولية والاتحاد والبنيوية والتفكيكية والحداثة وما بعدها، مستحضرًا جذوره المعرفية ورؤيتها للعالم.

   – إدراك التحيز وكشف المسافة:

  عند المسيري:” ملء المسافة بين الدَّال والمدلول جهد إنساني محض يسميه المسيري حتمية الاختيار  أو الاجتهاد الإنساني ومن ثم تحيز” فالمرء لا يمكن أن يختار الشيء ومقابله مرة واحدة وفي لحظة واحدة؛ لذا فاختياره لشيء ما تحيز والمجاز أن الثبات النسبي للغة على عكس الواقع الذي يتسم بالتغير السريع، ما يعني أن المسافة بين اللغة والمجاز واسعة، والمجاز من صميم نسيج اللغة، وهو لا يعكس الواقع وكأنه آلة تصوير، بل هو مثل الفلتر الذي يلون المادة التي تمر من خلاله”

2- إعادة اكتشاف تراثنا المعجمي

ولتجاوز ذلك يدعو المسيري لعدم ترجمة الدوال كما هي حرفيا أو نقلا استلابيا؛ إذ يشدد على ضرورة: إعادة اكتشاف المعجم العربي بكل إمكاناته اللفظية والصرفية والدلالية وإعادة بعث دوال قديمة ضمرت وطغت عليها مصطلحات نتجت عن الترجمة الحرفية والتبعية المعرفية، وهو نمط من التعريب ينطلق من الثقافة العربية لا المعجمية فحسب، وعلى وعي بطبيعة الأساس المعرفي للغة؛ فقد دعا المسيري إلى ضرورة إعادة اكتشاف المعجم العربي بكل إمكاناته اللفظية والصرفية والدلالية، واستنطاق النص لوصف علاقة الناقد بالنص. ودعا صاحب “اللغة والمجاز” إلى تأسيس علوم إنسانية وهيكل مصطلحي لا تكون نقطة ابتدائها الاسم، وإنما الفعل أو المصدر أو اسم المعنى الذي يمكن اشتقاق فعل منه (اجتماع-قيام) على عكس الاسم الجامد.

التّوليد الدّلاليّ وهو ما يعنينا في الحالة المسيرية: ويبحث في الدّلالات والمفاهيم الّتي تولّدها مفردات اللغة وتراكيبها. وهو:” مبنيّ على الجمل على المعنى والأدوات والجمل وبعض قضايا الصّرف وفقه اللغة. إن الهدف من التوليد ” تجاوز عملية النقل والتوصل إلى بديل، وعلاوة على ذلك تتسم اللغات السامية بأن الفعل أساسي فيها، ومن هنا فإني أرى أن يحتل الفعل مكانا مركزيا في العلوم العربية”

  -استنطاق النص:

رغم أن مصطلح استنطاق النص معروف ومشهور في الأوساط الأدبية (تجدر الإشارة إلى أن الفيلسوف الفرنسي، وأحد الماركسيين الجدد، لوي التوسير (1918-1990) استحدث مصطلح استنطاق النص لوصف آلية تتشكل بها الذات البشرية (تُشيّد) بوساطة بنى أو نصوص سابقة لها (موقف بنيوي) فإن له عند المسيري تصورا خاصا يعدّ الأقرب إلى نهجه.

  ويلاحظ وجود بعدين متناقضين: واحد موضوعي (حدود– منطق)، والآخر ذاتي (نطق– تحدَّث وكلمة استنطق التي تعني “يجعله يلفظ وينطق بوضوح” تحوي البعدين الموضوعي والذاتي، فنحن إذا قلنا استنطق الناقد النص” فإننا نقول في واقع الأمر” إن الناقد قد جعل النص يبوح بمعناه وشكله”.

فالنص بدون الناقد لا يمكنه أن يقول (أو ينطق) بشيء. ولكن العكس أيضًا صحيح، فالناقد لا يمكنه أن ينطق أو يقول أي شيء بدون النص. إن الناقد الأدبي لا يمكنه أن يقول ما يود أن يقول بدون العودة للنص، والنص لا يمكنه أن يبوح بمعناه بدون الناقد الأدبي.

فكلمة “استنطق” تحل إشكالية الذات والموضوع والنص والواقع، فهي تقع في المنطقة التي تلتقي فيها الذات (الناقد) بالموضوع (النص).

 وتهدف عملية الاستنطاق المسيرية إلى محاولة تجاوز ثنائية الواقع الفني والواقع الموضوعي والشكل والمضمون، بحثا عن النمط المتكرر أو الموضوع الأساسي المتواتر الكامن الذي يضفي الوحدة على العمل، ويربط عناصره بعضها بالبعض، دون أن يكون موجودًا بشكل مباشر، وهو مفهوم وثيق الصلة بمصطلح (النموذج الإدراكي التحليلي) والذي يتبناه المسيري لحل كثير من المشكلات التي تواجه قارئ النص أي نص، وأي دارس للظواهر الإنسانية والاجتماعية.

 –  تركيبية الظاهرة الإنسانة واللغوية:

انتقد المسيري دعاوى عدم الالتفات إلى الثوابت الإنسانية وقيمها في الدرس العلمي، منتقدا الزعم بأنه حينما نتعامل مع ظاهرة اقتصادية يجب استخدام معايير اقتصادية فقط، وحينما نتعامل مع ظاهرة سياسية يجب استخدام معايير سياسية فحسب، كل ذلك يؤدي إلى ضمور المرجعية الإنسانية،

بلغة إنسانية الإنسان وعلى نصّه”  هذه الرؤية عاجزة تمامًا عن تفسير الظواهر الإنسانية، فهي لا ترى فارقًا بين الإنسان والطبيعة/المادة، بل تراه جزءًا لا يتجزأ منها، خاضعًا لقوانينها، مذعنًا لحتمياتها،

كما أننا نذهب إلى أن ثمة فارقًا جوهريًّا بين الإنساني والطبيعي، وأنه لا يمكن تجزئة النشاط الإنساني وتفتيته وتشريح كل مجال بمعزل عن المجالات الأخرى”.

وفي معرض نقده للبنيوية وللعلامة سوسير يؤكد أن طرح الأخير يكرس لأسبقية اللغة على العقل الإنساني (وهذا يقبل أسبقية المادة على الإنسان وهو ما يعني إزاحة الإنسان عن مركز الكون، وإبعاده عن ممارسة دوره الذي خلق من أجله بما يُمثل شكلًا من أشكال العداء للإنسانية.

ورغم إدراك المسيري للعودة إلى المعجم العربي بثقافته، وبعث الدوال التي ضمرت، وطغت عليها مصطلحات نتجت عن الترجمة الحرفية والتبعية المعرفية للغرب، ورغم رفضه مصطلح الدال؛ كي لا تتورّط في المدلول للتغلب على التحيز الغربي للمصطلح، فإن إسهامه التطبيقي في هذا المحور يكاد يكون ضئيلا، وقد اكتفي بأمثلة قليلة.

    • ظلّ المشروع اللغوي معنيًّا بالكليات والمطلقات على حساب التفاصيل، فيما يبدو للباحث، لدرجة أن المفاهيم الإجرائية التي ذكرها تكاد تكون مكررة في شتى كتبه، بدون إيجاد مفاهيم خاصة مستقلة بمشروعه اللغوي. وربما كان ذلك متعمدا بغرض توحيد المعايير. 

    •   ينطلق المسيري من الاعتقاد القائل بأن هناك نموذجا إدراكيا معرفيا، بمثابة الإجراء التوليدي الكفيل بتفجير مختلف ينابيع البنى الرمزية التي يهبها الإنسان للظواهر.

وفي إطار السعي الحثيث لتعقب هذا النموذج، ينطلق الكاتب من فرضية مفادها أن هناك ترى اللغوي والديني والنفسي، على اعتبار أن الصورة مجازية أداة للتعبير وللإفصاح عن رؤية الإنسان للكون من جهة، ووسيلة للانتقال من اللغوي إلى الديني (رؤية الإله) إلى النفسي (مضمون الإدراك) من جهة أخرى.

ويعد النموذج الإدراكي التفسيري عند المسيري أهم مفاتيح فكره في قضية المنهج، إذ يتأسس وَفْقـًا لعمليات التجريد والتنسيق التي تدخل ضمن اختصاصات العقل التوليدي،

ومعنى هذا أن العقل ليس آلة فوتوغرافية صماء تسجل الصورة وتنقلها كما هي بدعوى الموضوعية، بدون أدنى عمليات التنسيق والربط. بل، إن للعقل دورا فعالا في عملية إدراك الواقع. وبالتالي فهم الظاهرة في حالتها الكلية.

 – تتسم صياغة الجهاز المفاهيمي لمشروعه بالقدرة التوليدية لا التراكمية. لكنه، كما اتسم بالشموليَّة في الرؤية، والنظرة المتكاملة للنَّص في علائقه مع السياقات الاجتماعية والثقافيَّة والنفسية بدون إغفال أي جانب من جوانبها، ويمتاز أيضًا بانفتاحه على التشكيلات الممكنة للنَّص الواحد، وهو ما أطلق عليه استنطاق النص.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى