أشتات

وقفة مع مقولةِ عثمان: ماكنت لأخلع ثوبًا ألبسنيه الله

أحسب أنَّ ذلك المنهج واضح الدلالة في أنَّ الحاكم في الإسلام قائم على اختيار النَّاس ورضاهم، بيد أنّ ثمة من قد يقول إن الخليفة الثالث عثمان بن عفان – رضي الله عنه-  له منهجٌ آخر في الحكم، وتنسبُ إليه مقولة: “ماكنتُ لأخلع ثوبًا ألبسنيه الله”، فكيف يمكن أن تفسّر تلك المقولة التي يوحي ظاهرها بأن الحاكم في الإسلام مختار من السَّماء، ولا تجوز منازعته، لأنها تصبح منازعة لإرادة الله!

وأقول: مما لاشكَّ فيه ابتداءً أنَّ لتلك المقولة ملابساتها الخاصة، ولم تكن لتمثل منهجًا إسلاميًا عامًا في  فلسفةِ الحكم،  في أيّ مرحلة من المراحل. وأول دليل دامغ على نفي ذلك عن منهج الإسلام في الحكم، أن المصدر الأول لذلك الحكم وهو القرآن الكريم وجّه النَّبي – صلى الله عليه وسلَّم-  بوصفه  القائد والحاكم والخليفة والإمام القدوة الحجة الأول إلى عكس ذلك، أي أنه مجرّد بشر يوحى إليه، وقد كان يستشير أصحابه، ويرجع عن رأيه أحيانًا، إلى أحسن الآراء المعروضة منهم، أو إلى رأي أهل الخبرة والرأي فيهم، مالم يكن وحيًا.

وقد يتعرّض للخطأ في ممارسته فيأتي الوحي ليصوّبه توًّا، كما مرّ بنا، ثم ها هما الخليفتان الراشدان الأولان من بعده، أبو بكر وعمر صرَّحا بعكس تلك المقولة تمامًا، -كما رأينا- . ولا يُعقل أن يتخلّف أمر  كهذا عنهما، لو كان أساسيًا في منهج الحكم في الإسلام، ناهيك عن أن يصرّحا بخلافه، ويطبقا عكسه، بل إنَّ الخليفة الأول أبا بكر – رضي الله عنه-  زَجَر من ناداه بخليفة الله، وأمره أن يصفه بخليفة رسول الله!

وها هو عثمان ذاته يخالف تلك المقولة لو أخذت على ظاهرها مرسلة هكذا، فهو من أول يوم قبل فيه بالخلافة لم يخطر بباله ذلك المعنى (الثيوقراطي)، بل قبل بأن يختاره أهل المدينة، أو يرفضوه، بوصفهم عينة ممثلة لإرادة الأمة في الأمصار المختلفة،  بعد أن مرّ عليهم عبد الرحمن بن عوف- رضي الله عنه-على مدى  ثلاثة أيام بلياليهن، لا يغتمض بكثير نوم ولا راحة، بل بصلاة ودعاء واستخارة، حتى يستقر أمر الأمة على خليفة يسوس شأنها الأعلى. وقد وضع اسم عثمان مع المرشّح الآخر علي ابن أبي طالب – رضي الله عنهما- فمالت الأغلبية إليه، كما في الرواية التاريخية التي أوردتها قبلًا، عن ابن كثير، وهي في أمهات المصادر التاريخية الأخرى عند السُّنة والشيعة وسواهما، فهل يمكن أن تصبح  النتيجة مختلفة عن المقدّمة؟!  بل الأغرب من ذلك أنَّ عليًا يعتذر- كما في تلك الرواية التاريخية ذاتها أن يسوس الأمة مطابقًا للمنهج التفصيلي لأبي بكر وعمر، على حين لم يتردّد عثمان في  قبول ذلك! بعد أن خطب عبد الرحمن بن عوف في المنتخِبين  والمرشَّحِين بقوله:

” أيها النَّاس، إني سألتكم سرًا وجهرًا بأمانيّكم، فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين، إما علي وإما عثمان، فقم إليَّ يا علي، فقام إليه فوقف تحت المنبر، فأخذ عبد الرحمن بيده، فقال: هل أنتَ مبايعي على كتابِ الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر؟

قال: اللهم لا، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي، قال: فأرسل يده، وقال: قم إليَّ يا عثمان، فأخذ بيده فقال: هل أنتَ مبايعي على كتابِ الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر؟

قال: اللهم نعم! وهنا يتضح مدى الوهم الذي وقع في شركه من ذهبَ إلى أنَّ عثمان يعتقد كهانة أو (ثيوقراطية) في حكم الإسلام. بل المفارقة أن نجد عليًّا هو الذي تحفظ أن يتابع المنهج التفصيلي لأبي بكرٍ وعمر، على حين سارع عثمان إلى الموافقة،  وهو ما يؤكّد أنه لا فرق في جوهر الحكم بين منهجه ومنهج من سبقه ومن يليه، إلا في مسالة ذات ملابسات خاصة، وهي قبوله بالرضوخ لمطلب المتمردين (الانقلابيين) المطالبين بخلعه، وسيأتي الكشف عن تلك الملابسة لاحقًا.

ثمَّ إنَّه رغم اشتهار أسس اختيار الحاكم في الفكر السياسي الإسلامي  فلم تورد هذا المعنى (الثيوقراطي) على الإطلاق، حيث رضا الأمة عبر بيعة علنية، شرط أساس في منهج الحكم الإسلامي، وغدا الصندوق الانتخابي اليوم بديل تلك البيعة، إذ يحقق مقصد الرضا على نحو أدق.

ومنهج الاختيار وفق رضا الأمة وبيعتها هو الذي درج عليه الخليفتان الراشدان قبله أبو بكر وعمر، كما هو شأن الخليفة الرابع علي ابن أبي طالب، من بعده، وكذلك سرى ذلك العرف، عبر العصور الإسلامية اللاحقة، أيًّا ما شاب بعض حقبها من انحراف، عبر الحكم الجبري، أو العاض، ونحوهما، كما صار من المقرر في الفكر السياسي الإسلامي أن عزل الحاكم المسلم يتم في أحوال معيّنة، إن توفرت القدرة على ذلك، ومن أبرزها، وقوعه في الكفر البواح، أو فقدانه القدرة الفعلية على التصرف في شؤون الحكم، أو وقوعه في الخيانة العظمى بيقين. وذلك يؤكّد بدوره انتفاء خرافة (الثيوقراطية) هذه، في منهج الحكم في الفكر السياسي الإسلامي من الأساس، وإذن فكيف قالها عثمان وما ملابساتها؟

عثمان 1 وقفة مع مقولةِ عثمان: ماكنت لأخلع ثوبًا ألبسنيه الله

من الواضح لمن تتبع فتنة العصابة المتمرّدة التي أحاطت بدار الخليفة الرَّاشد عثمان- رضي الله عنه-  مطالبة إياه بالتنحي- وليس من بينهم واحد من الصحابة المعروفين، أنهم دبّروا أمرًا بليل، بعد أن تنادوا من بعض الأمصار، بغير مسوغات حقيقية مشروعة، تقتضي المطالبة بالخلع دفعة واحدة، خاصة وأنَّ ثمة رواية حديثية، صححها بعض المحّدثين المعاصرين كالشيخ محمَّد ناصر الدين الألباني- رحمه الله- مفادها أنَّ استجابة عثمان لهم  تعني مخالفته لتوجيه النَّبي – صلى الله عليه وسلّم- له، وذلك أمر خاص به دون غيره من الخلفاء قبله أو بعده -بطبيعة الحال- .ويمكن أن تعدّ هذه  الرواية من  دلائل النبوة . ونصها عند ابن ماجه والحاكم وأحمد عن عائشة – رضي الله عنها- عن النبي – صلى الله عليه وسلّم – أنه قال له:

“يَا عُثْمَانُ، إِنْ وَلَّاكَ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ يَوْمًا، فَأَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تَخْلَعَ قَمِيصَكَ الَّذِي قَمَّصَكَ اللَّهُ فَلَا تَخْلَعْهُ “

وكرّر -صلى الله عليه وسلم-  عليه ذلك ثلاثًا.

ويروى أنَّ حوارًا قد دار بين عثمان وعبد الله بن عمر  في تلك الأثناء بدأ بقول عثمان لعبد الله بن عمر:

انظر إلى هؤلاء يقولون: اخلع نفسكَ أو نقتلك.

فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: أمخلّدٌ أنتَ في الدنيا؟

فقال: لا.

فقال: هل يزيدون على أن يقتلوك؟

فقال: لا .

قال: هل يملكون لك جنة أو نارًا؟

فقال: لا .

فقال ابن عمر -رضي الله عنه-: فلا تخلع قميصًا قمّصه الله لك، فتكون سنة، كلما كره قومٌ خليفتهم خلعوه، أو قتلوه”.

ومع يقين عثمان بأن تلك ساعة استشهاده أو تكاد، خاصة أنه كان قد تجاوز الثانية والثمانين من عمره -حينذاك-واستحضاره أنه أحد العشرة المبشرين بالجنة،  فقد ورد أنه استحلف كل من أراد من الصحابة وأبنائهم، أو حتى من غلمانه أن لا يقفوا في وجه من أصرّ إلا على قتله، ووعد غلمانه بالإعتاق من فورهم إن هم استمعوا لنصحه، ولم يشهروا سيفًا في وجه المتمرّدين، – إن أصرّوا على اقتحام داره وقتله  -لأن شخصيته اشتهرت بالزهد، رغم ثرائه، أوَ ليس هو الذي قال فيه النبي – صلى الله عليه وسلّم- :” ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم”! بعد أن رآه قد جهز جيش غزوة  العسرة، من خالص ماله. وقد كانت غزوة غاية في الابتلاء والفتنة، لولا أنَّ الله قيض عثمان وماله لها ورجالًا آخرين ممن صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فأنزل الله:

{ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد أن كاد يزيغ قلوب فريق منهم، ثم تاب عليهم، إنه بهم رؤوف رحيم} (التوبة:117).

وقبل ذلك كانت حدثت مجاعة بالمدينة في إحدى السنين، فأقبلت إحدى قوافله التجارية الكبرى للمدينة، فهرع إليه التجار من كل ناحية يرغبون في شراء بضائعه، فأبى بيعها، وآثر إخراجها كاملة في سبيل الله!

وحاصل ما سبق يؤكّد أنَّ ما قاله عثمان وما سلكه لا يخرج عن  منهج خاص  به وحده – رضي الله عنه-  ليس أكثر، نظرًا  إلى تلك الملابسات، التي من أهمها أنَّ أولئك المطالبين بخلعه موصومون بـ (النفاق) في الحديث الشَّريف، وهم من المتمرّدين الخوارج، الذين يُفتتون كيان الأمة أينما حلّوا، قديمًا أو حديثًا، ولا يمثلون إرادة الأمة بحال، كما يحاول بعض الكتّاب من الطائفة الشيعية، أو العلمانيين، أو غير المحققين أن يصوّر الأمر.

نعم, قالها عثمان في وجه من يصفهم بعض المؤرخّين بـ(الثوّار)  وهم – في حقيقة التوصيف- انقلابيون قتلة، وجماعة عنف بامتياز، وفق الأعراف الديموقراطية اليوم (داعشيون وتكفيريون  وقاعدة – إن شئتم-)، إذ  استخدموا العنف  في أبشع صوره، لتحقيق مطلبهم،  ولم ينادوا سلميًا بالتغيير- كما نعبِّر  اليوم- وذلك حين لم يقبلوا بغير المطالبة بعزل الخليفة عثمان، أو قتله، فحاصروا داره، وارتكبوا من الموبقات بشاعة ودموية، وانتهاكًا للحرمات،  في سبيل إرغامه على الاستجابة لمطلبهم المشبوه، ما يندى لجريمتهم جبين التاريخ والإنسانية، حتى قتلوه وهو صائم. وتقول كثير من الروايات التاريخية إن دمه تقاطر على المصحف حتى استقرّ على قوله – تعالى- : {فسيكفيكهم الله} (البقرة:137) (2).

إنَّ شخصية بذلك الزهد والإعراض عن الدنيا، وتلك المواقف الكبيرة المتتالية في خدمة الإسلام ونبيه والمؤمنين، ورفض الدفاع عن نفسه في ذلك الموقف الحرج، لا يمكن أن يكون منطلقها في تلك المقولة حرصًا على البقاء في كرسي الملك، أو تشبثًا بالدنيا وزخرفها- ناهيك عن أن يكون منهجًا في الحكم عامًا- وإلا كان دافع عن نفسه وسلطانه وأهله بكل ما أوتي من قوة، وقبل دعوة الصحابة للدفاع عنه، بل استنجد بأتباعه ومناصريه في كل الأمصار والبقاع.

وصفوة القول: إنَّ تلك الشواهد الحقيقية المطلقة العامة المؤكّدة من القرآن والسنّة الصحيحة، ومسلك الخليفتين قبله، والخليفة الرابع بعده، تشهد جميعها بأنَّ الحاكم في الفكر السياسي الإسلامي فرد تختاره الأمة بمحض رضاها، ووفق عقد اجتماعي محدّد، يلتزم به، ويعدّ مخالفًا له في حال عدم الوفاء به، كأي عقد بين طرفين. وأيّما تعلّق بتلك الحالة الاستثنائية الخاصة  بعثمان بن عفّان، بغية إسقاطها على  فلسفة الحكم العامة في الفكر السياسي الإسلامي فهو ضربٌ من الانتقاء الاستثنائي غير المنهجي، وشغب  غير موضوعي على المنهج الكليّ العام، يتعلّق بمقولة استثنائية واحدة، ذات حيثيات وملابسات خاصة،  من بين منهج عام متناغم متكامل، على خلافها.

الهوامش:

1- يُستحسن مراجعة التلخيص الجيّد للحادثة الذي كتبه الدكتور راغب السرجاني في موقع قصة الإسلام: {الرابط}، مقتل عثمان وفتنة أبداً، 1/5/2006م (دخول في 20/10/2016م).

أ.د أحمد الدغشي

أ.د أحمد محمد الدغشي أستاذ الفكر التربوي الإسلامي بجامعتي صنعاء - اليمن وإغدر (الحكومية) التركية لديه ٢٤ كتابًا منشورًا، وكتب أخرى تنتظر النشر. -حاصل على جائزة رئيس الجمهورية التشجيعية للبحث العلمي في ٢٠٠٩م. -شارك في عدة فعاليات وأنشطة فكرية وتربوية في العالم العربي وفي أوروبا وأمريكا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى