المدونة

القراءة والكتابة والطقوس!

أظن ما من كاتب ولا قارئ إلا ولديه طقوسه الخاصة، هناك علاقة عميقة بين القارئ والطقس الذي يحب أن يقرأ فيه، بين الكاتب والطقس الذي يمنحه الإبداع عند الكتابة.

في 2016 كنا في دورة طويلة الأمد، كانت مدتها سنة كاملة، كانت عن الكتابة، والقراءة، من ضمن تلك الجلسات الأسبوعية كان لنا جلسة مع كاتب شهير معروف، كانت جلسته عن طقوس الكتابة والقراءة، وكان مما ذكره أن بعض الناس يحب أن يقرأ في الأجواء المفتوحة، وهناك من يحب القراءة في الأماكن الضيقة المغلقة، وهناك من يحب أن يقرأ وسط الضوضاء مبررًا ذلك بأنَّ العقل الواعي يتحفز أكثر فيها، وهناك من يحب القراءة في الأضواء الخافتة أو الحمراء، وهناك من يحب القراءة والقهوة والشاي بجواره، والعجيب أن بعضهم لا يشرب القهوة ولا الشاي، لكن طقسه هكذا، وهناك من يحب القراء في المقاهي، وهناك من يحشر نفسه في زاوية مكتبة عامة، وآخر لا يهنأ إلا في أحد المساجد القديمة، وآخر يسافر لمدينة بحرية كي ينجز كتابًا ما، والرقم عشرين يسافر للقرية كي ينجز بحثه في تلك الأجواء القروية، طقوس كثيرة تتعلق بالقراءة لا يكفي المقام لذكرها وذكر تفسير أصحابها لها، ومثل ذلك ما يتعلق بالكتابة، غير أن المهم هو لفت النظر لتلك الطقوس، والنظر في فاعليتها في حياتنا كقراء أو ككتَّاب يعالجون كلا الأمرين.

شخصيًا أرى أن الكاتب أقدر على الكتابة في أي طقس كان، وفي أي جو يكون؛ بمعنى أن طقوسه أكثر سعة من القارئ، وتمنحه قدرة أكبر للتدوين والإنشاء، وهذا يرجع لكون الكاتب مجرد متلقي لما يملي عليه ضميره، وما يخبره به قلبه، وما يمده به عقله، والكاتب الذي لا يكتب من منصاته العميقه؛ هو الذي يصيبه التشوش والتشوه اللفظي والفكري؛ فتراه مضطربًا، ويبحث عن طقس صافٍ للكتابة يجمع شتاته، ويسكن اضطرابه؛ أما صاحب الضمير المفكر؛ فيعلم أنه مجرد ناقل من العقل الواعي للحيز المقصود بالكتابة، تأمل ابن القيم رحمه الله؛ يكتب أعظم كتبه وهو بعيد عن كتبه، وفي مفازة من الأرض مكشوفة، وبين جملة من المسافرين، وفي ظروف متعبة ومرهقة، ومع كل تلك الطقوس غير المهيئة؛ إلا أنه أنتج أهم كتبه وأكثرها سمعة (زاد المعاد في هدي خير العباد)، كانت القوة المدركة أعظم مدد له، والحضور النفسي أهم عناصر إنتاجه، والضمير المتحفز أكبر دافع له نحو الانتاجية، فالكاتب مهما ضاقت طقوسه أو اتسعت؛ يبقى العنصر المؤثر لديه ثراؤه العلمي والفكري والأدبي (الثراء الثقافي كما يعبرون)!

وأما القراءة فهي قد تتلاءم مع الطقوس بحسب قدرات الناس العقلية، ومن تجربة شخصية؛ أستطيع أن أجزم أنه كما أنَّ لكلِّ قارئ طقسه؛ فكذلك لكل كتاب طقسه؛ فالكتب الفكرية العميقة؛ تحتاج لطقس أكثر هدوءًا، خالٍ من المقاطعة، بعيدٍ عن المنغصات، طقس يضع الأسئلة، ويثير الاستفهامات، ولا يلتفت لأي تزاحم يقطعه عن مواصلة المسير، ومثل ذلك، الكتب ذات البعد العلمي الصرف، وماهو في مسار التحفظ، وما هو في نسيج التخيل وبناء القصة؛ كالرواية مثلًا، فالرواية ذات الفصول الطويلة، تحتاج لطقس هادئ يمنحها الفهم في عقل القارئ المقبل عليها؛ فالشاهد أن أي كتاب من هذا النوع يحتاج لطقس خاصٍ مفعم بالسكون التام، ولا أرى (رأي شخصي) أن القراءة لمثل هذه الكتب في جوء صاخب مليء بالحركة أو الضجيج تنفع صاحبها، ولديَّ شعور أن الكتاب من هذا الفصيل صوتُه هادئ جدًا، ومؤلفه كتبه بحذر تام، وضجيجه مهما يكن يبقى خافتًا أمام أي ضجة من حوله، وفي نظري أن قوة صوته تصل وتستقر كلما أسكتنا الأصوات من حوله!

وهناك كتب طقسها مفتوح، ككتب الأدب المنظوم، والقصة القصيرة، والتوجيهية الإرشادية، وما هو في هذا المسار الذي لا يحتاج لتركيز عقلي مكثف!

ونهاية هذه الجلبة؛ أن ثَمَّة فروق بين طقوس الكتابة والقراءة، والناس في ذلك مذاهب شتى، وصلاحية شيء للبعض لا يعني صلاحيته للبعض الآخر، ولست بحاجة في هذه العجالة أن أؤكد أن ما كتبته هنا هو انطباع شخصي خلقته الممارسة، وكملت أعضاءه تجارب الناس المسموعة؛ أعني تجارب من لهم صلة بالباب؛ لكنه يبقى مجرد تجربة، وأقل مستويات الإفادة من التجارب؛ بعث الأفكار في الأذهان، ودعوة المماثل منها للانضمام إليها!

وأخلص؛ أن المهم من ذلك كله؛ هو تركيز كل منا على طقوسه، لأن التهيئة النفسية تبعث على العمل، وترفع مستوى الإبداع في حياة القارئ والكاتب، كما أن عدمية وجود طقس معين؛ هو طقس عدمي غير مُكْلف، ولا يعني ذلك أن المرء خالٍ من طقس، بقدر ما يعني خلوه من تبعية الكلفة!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى