المدونة

في شأن تحقيق التراث ونشره

في العربيةِ تراثٌ زاخرٌ جليل، حريّ بالنَّشر، جدير بالقراءة، قد قامت عليه أجيال تحوطه وترعاه، وتؤدي فيه حقّ الأمانة .

وقد حفلت دور الكتب القديمة بنفائس منه يُزهى بها كلّ من متّ إليها بسبب . كان يقرأها الناس مخطوطة ويرون جهد النسّاخ في صيانتها من حيث الورق، والخط، والتجليد حتّى دخل عصر الطباعة، وعَرف به الكتابُ انتشارًا واسعًا، ومدى بعيدًا. وعرفت أوربا إقبالًا على تحقيق تراثها اليوناني والروماني ونشره، وإخراجه من دوره القديمة إلى ضياء الحرف المطبوع .

وكان لابدّ أن تنشأ لها قواعد وأصول وهي تزاول التحقيق والنَّشر من أجل أن يكون العمل سليمًا صحيحًا مؤديًّا ما يُرجى منه من إعادة الآثار القديمة على نحو ما تركها عليه أصحابها ، أو أقرب ما تكون إلى ذلك .

ولمّا نشأ الاستشراق، وسعى رجاله إلى تعلّم العربية ونشر آثارها في التاريخ، واللغة، والأدب، والدِّين، كان له فيما استقر في الثقافة الأوربية من أصول تحقيق المخطوطات ونشرها ما انتفع منه وهو يقرأ الآثار العربيّة القديمة من أجل تفهّمها وإذاعتها، وجعل السَّبيل إليها مشرعة؛ إذ لا خير في نشر يشوّه الأصل، ويباعد من الفهم السَّليم .

وقد كان لجملة مدن أوربّيّة أثر حميد في ذلك ، تجيء ليدن في طليعتها؛ إذ نشرت كثيرًا من كتب الأدب، واللغة ، والتاريخ ، نشرًا سليمًا حسنًا.

لقد أحسن أولئك المستشرقون القيام على الآثار العربيّة ، تحقيقًا ونشرًا، وكان رائد كثير منهم بواعث العلم، ونوازع الإتقان وكأنّهم بمرأى ومسمع من الأثر الكريم: إنّ الله يحبّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه .

ثمّ عرفت مصر منذ القرن التاسع عشر سعيًا حثيثًا نحو التحقيق والنشر، وكان رائد الناهضين به الصدق والأمانة، وحبّ العربيّة في رفيع آثارها، مع علم رصين لا يداخله وهن؛ إذ لم يكونوا ممن يتخذ سبيل التربّح والاتّجار بما حقّه الرعاية والصيانة .

وقد كان لدار الكتب المصريّة القديمة وللعاملين فيها أيادٍ بيض جديرة أن تذكر فتشكر.

ولم تلبث أن وجدت طبقة سامية من أهل العلم نهضت بشأن التَّحقيق والنشر نهضة واسعة؛ كان منها الشيخ أحمد محمد شاكر ، والشيخ محمود محمد شاكر، وعبد السَّلام محمد هارون، ومصطفى جواد، وعلي جواد الطاهر، والسَّيد أحمد صقر، ومن يضارعهم في علوّ المنزلة من حيث ضبط النَّص، وحسن رعايته، وأمانة الأداء، فأخرجوا للنَّاس آثارًا أدبيّة لا يبعد عنها الكمال كمثل البيان والتبيين، والحيوان، والموازنة، وما أشبه ممّا قراءته متعة وفائدة .

وقد تولت نشر ذلك دور جليلة، رصينة النهج كمثل دار المعارف بمصر، ودار الكتب والوثائق القوميّة، ومكتبة الخانجي، وما أشبه ممّا يتنزّه عملها عن الخطأ، ولا يعرف إلّا الصواب. وإنّك لتقرأ الكتاب تصدره الدار من هذه الدور فلا تجد فيه ما يعزى إلى خطأ في الطباعة فضلًا عمّا هو فوق ذلك .

ولقد كان يحدو أولئك المحقّقين، وتلك الدور حرصٌ شديد على العربية وتراثها، وأن تُنشر آثارها بريئة ممّا يعيب، نقيّة ممّا يَشين حتى يعرف الأبناء صنيع الآباء على ما هو عليه؛ فلا غرو أن يكونوا موضع ثناء جزيل، وذكر جميل .

وكان ينبغي للأمر أن يطّرد، وأن يخلف ذلك الجيل الكريم جيل آخر لا يقلّ عمّن سبقه علمًا وأمانة؛ غير أن الأمر جرى على خلاف ما يُرجى، وطفق ينحدر من ذروته تلك التي بلغها إلى وهدة سحيقة، فتضاءلت الأمانة، ووهى الضَّبط، وشاعت أنماط من الزلل، وصار الكتاب يخرج من المطبعة مجلَّدًا مذهَّبًا ، صقيل الورق، لكنه مشحون بما يسوء من الخطأ.

وإذا كان الجيل السَّابق لا يُقدم على تحقيق أثر ونشره حتّى يحيط بنسخه المخطوطة خُبرًا، وحتّى تكون تحت يده يقرأها، ويعيد قراءتها من أجل أن يلين صعبها، وينفتح مستغلقها، ويستقيم فهمها، إذا كان ذلك الجيل هذا شأنه فإنَّ في من أتى بعده من لا يرجع إلى أصل مخطوط، ويكتفي بطبعة قديمة يعدّها أصلًا، ومن لا يُعنى بضبط الشِّعر، وإذا ضبط وقع في الوهم، وفيهم من يمرّ عليه اللحن فلا يدرك وجه الصواب فيه، وفيهم من يسطو على آثار محكمة قد جلتها يد صناع فينزع منها مواطن العلم ويخرج النص مجرّدًا، ثمَّ يسمه باسمه .

وقد تردت في ذلك دور نشر تبتغي الربح وتُغفل الأمانة، وتنسى ما ينبغي من رعاية تراث الأمّة ، وتيسّر سبل الجهل …!

قال صاحبي: لو كان أمر إدارة الثقافة بيد أهلها لأُخذ على يد من يتخذ التراث متجرًا يتربّح منه، ولا يؤدي فيه حقّ الأمانة والعلم …!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى