حفريات معرفية

جناية المصطلحات على المفاهيم

(1)

تقع المفاهيم في قلب الصراع والتدافع الفكري، وتتعرض للتحريف والتشويه والتحوير والاختزال والتحجيم وصولاً إلى تقويض المفهوم واغتيال وجوده المعنوي، وتتم عمليات الهدم والتحجيم للمفاهيم بوسائلَ وطرقٍ متعددة، ومن أخطرها وأقواها في التمويه: اعتماد التعريفات القاصرة والجائرة للتعريف بالمفهوم وتحديد ماهيته.

والسؤال هنا: كيف يمكن أن يتحول التعريف (المصطلح) من قولٍ شارحٍ للمفهوم إلى أداةٍ لتحجيم واختزال المفهوم وتقويض معناه؟

ثم هل يصح في ميزان النظر الأبستمولوجي (المعرفي) أن يفترض الباحث في المصطلح أنه مرآة صادقة للمفهوم، فينطلق منه في تحديد ماهية المفهوم دون أن يكلف نفسه عناء مراجعة المفهوم في أصوله ومصادره الأولية، وسياقه الدلالي، وتطوره التاريخي، ومعرفة مدى تأثير التيارات الفكرية والتحيزات المذهبية في تشكيل المفهوم وقولبته وإكسابه سمات وملامح قد تقترب من روحه وحقيقة معناه وقد تبتعد عنه إلى درجة التغاير والتناقض؟

واضحٌ هنا أَننا نستبعد فرضية التماهي والتماثل والتطابق بين (المفهوم) و(المصطلح)، وهي الفرضية التي سيطرت على كثيرٍ من الذهنيات المعرفية وحالت بينها وبين إعمال النظر والتحقيق في معاني المفاهيم وتمييز الصحيح عن السقيم، وانعكست آثارها على المفاهيم فأصابتها بحالةٍ من التكلس والجمود تتنافى مع طبيعة المفاهيم الحية والمتجددة.

(2)

وبداية نحتاج للتفريق بين (المفهوم) و(المصطلح)؛ فكلمة (مفهوم) هي اسم مفعول، والمعنى: حصول الفهم؛ وبالرجوع إلى مادة (فَهم) نجدها تدل على ثلاثة معانٍ مجردة وهي: العلم والمعرفة والعقل؛ يقال: فهمت الشيء؛ أي علمته وعرفته وعقلته[1]. فالمفاهيم إذن هي معانٍ عقلية كلية مجردة، ومناجم غنية بالمعاني المستودعة.

وأما الاصطلاح فمعناه الاتفاق؛ يقال: اصطلح القوم على كذا؛ أي اتفقوا. ومنه قوله في الحديث: “ثمَّ يصطلحُ الناسُ عَلى رجلٍ كَوَرِكٍ على ضِلَعٍ”[2]. ومن هذا الاستعمال جاءت كلمة (المصطلح) لتدل على اتفاقٍ جماعيٍ على وضع لفظٍ ما بإزاء معنى، وبعبارة أخرى: “حصول الاتفاق بين أصحاب التخصص الواحد على وضع معانٍ محددة تعبر عن المفاهيم العلمية لذلك التخصص”[3]. وقد يشيع استخدام المصطلح، أو يظل مجاله التداولي مقصورًا على أصحابه الذين اصطلحوا عليه.

ولأنَّ الاصطلاح ينشأ عن اتفاقٍ بين جماعةٍ من الناس قلّت أو كثرت، فقد رأى ذوو النظر والتحقيق أن المفاهيم الشرعية كالصلاة والزكاة والصيام والحج لا يصح أن يقال في تعريفها هي في الاصطلاح كذا، وإنما يقال: تعريفها شرعًا كذا؛ لأنها حقائق شرعية لا مصطلحات تواضع عليها جماعة من الناس، فهي ناشئة عن وحيٍ إلهي، لا اتفاقٍ جماعي[4].

وفي حديثه عن الفرق بين (المصطلح) و(المفهوم) يرى العلامة الأصولي المفكر الأستاذ الدكتور طه جابر العلواني أن المصطلح يعني أن “يصطلح جماعة من الناس تجمعهم حرفة أو مصلحة أو سواها على إطلاق لفظ بإزاء معنى أو ذات، لا يُنازعون فيما اصطلحوا عليه حيثُ لا مشاحة في الاصطلاح. أما المفهوم فهو شيءٌ آخر يختلف عن الاسم ويختلف عن المصطلح، إنه أشبه بوعاءٍ معرفي جامع يحمل من خصائص الكائن الحي أنه ذو هوية كاملة قد تحمل تاريخ ولادته ــــ ويغلب أن يكون تقريبيًا ــــ وصيرورته وتطوره الدلالي، وما قد يعترضه أثناء صيرورته من عوامل صحة ومرض وعمليات شحن وتفريغ وتخلية وتحلية”[5].

(3)

وأما مقولة “لا مشاحة في الاصطلاح” فلا يصح أن يشغب بها في وجه التحقيق لمعاني المصطلحات وبيان مالها وما عليها؛ ذلك أن الاصطلاح الذي لا مشاحة فيه هو ما قصد به واضعوه تقريب فنٍ من الفنون، أو توضيحه وتسهيل الحصول على مطالبه، أو ضبط قواعده ومباحثه، فهذا يقال فيه: “لا مشاحة في الاصطلاح” وأما إن عمد البعض إلى حمل دلالة الألفاظ الشرعية على تلك الاصطلاحات الخاصة الحادثة، فهنا تقع المشاحة ولابد.  وكذلك الاصطلاحات المتعلقة بالعلوم المدنية، فهذه تنمو مع نمو المدنية والحضارة، والمجال فيها واسع، ولا مشاحة فيها. وأما الاصطلاحات التي تتضمن معانٍ باطلة أو مناقضة للحقائق الشرعية أو تحريفًا وتشويهًا أو اختزالاً للمفاهيم الأصلية، فهذه فيها المشاحة كل المشاحة؛ قال الإمام ابن القيم (ت751هـ): “والاصطلاحات لا مشاحة فيها إذا لم تتضمن مفسدة”[6].

وإن إمعان النظر الدقيق في المفاهيم وفيما يقال من تعريفاتٍ لها يمكنه أن يكشف عن عددٍ من الاختلالات التي تكتنف العلاقة بين (المصطلحات) و(المفاهيم)، ومن ذلك: إنتاج صورٍ ضعيفةٍ ومختزلةٍ للمفاهيم لاسيما مع التعسف في تعريف المفاهيم إجرائيًا بدعوى الاهتمام بالواقع كما هو الشأن في البحوث التجريبية والإمبريقية[7]، ولذلك ليس من الحكمة أو الرصانة البحثية في شيء أن يظلّ الباحث يدور في حلقة التعريفات الاصطلاحية معتبرًا إياها التعبير الصحيح والنهائي عن المفاهيم، وفي لفتة ذات دلالة لما نحن بصدده وجدنا الفيلسوف الإنجليزي المهتم بمفهوم الحرية إشعيا برلين Isaiah Berlin (1909 ــــ 1997) يقول في  كتابه: “أربع مقالات في الحرية” Four Essays on Liberty: “لن أناقش أكثر من مائتي تعريف للحرية”[8].

22 جناية المصطلحات على المفاهيم

(4)

وتختلف النظرة إلى المفهوم وتتعدد المسالك النظرية الموصلة إلى فهمه، ومن أشهرها المسلك المنطقي الذي يتوخى إيجاد تعريفات تحيط بماهية المفهوم وتميز ماهيته عن غيرها من الماهيات، والتعريف هنا يسمى حدًا. ويعتبر الحد المنطقي (الأرسطي) أتم مسلك للتعريف في البحث الفلسفي، وبناؤه لا يقوم على المعنى اللغوي للفظ/ المفهوم، وإنما على محاولة الإحاطة بالمفهوم وتحديد ماهيته تحديدًا يتميز به عن غيره، وكثيرًا ما يستخدم في التعريف بالعلوم والفنون (موضوعات العلوم)، وأما المفاهيم الفكرية كالحرية والعدالة والمساواة ونحوها من المفاهيم التي تعبر عن قيمٍ حضارية إنسانية عامة، أو تلك المفاهيم التي تعبر عن أفكارٍ وقيمٍ لدى ثقافةٍ أو حضارةٍ ما، فهذه أوسع من أن تعرف بالحد المنطقي، وعند صياغة تعريفات اصطلاحية لها تراعى العلاقة اللغوية الوثيقة بين (المفهوم) و(المصطلح)، والمصطلحات هنا  “دوالٌ على المفاهيم، وهي أطر تصورية وتعبيرية للمفاهيم، وإطاريتها هذه تقوم في اللغة وبها”[9]. ولا يشترط هنا في (المصطلح) ما يشترط في (الحد) من التحديد للماهية، ولذلك فكل حدٍ هو مصطلح، وليس كل مصطلحٍ حدًا.

والمقصود أن يكون  الباحث ذا يقظةٍ عاليةٍ ونظرٍ فاحصٍ في التعريفات الاصطلاحية، وأن لا تحجبه تلك التعريفات عن المضي قُدمًا في اكتشاف المفهوم وسبر أغواره، والتنبه لما قد يكون تعرض له المفهوم من تحجيمٍ أو تشويهٍ أو تحريف، وإن من أبسط القواعد وأشهر المناهج المسلوكة في التعريف بالمفهوم أن يجمع الباحثُ عددًا من التعريفات للمفهوم ليسلط الضوء من خلالها على المفهوم من زوايا متعددة، ووجهات نظرٍ مختلفة، وهنا قد يجد الباحث نفسه أمام سيلٍ من التعريفات التي تحاول تحديد ماهية المفهوم، أو صياغته في مؤشراتٍ وعناصر قابلةٍ للملاحظة والقياس، وبإمكان الباحث أن يختار من بين تلك التعريفات ما يراه الأقرب إلى بناء المفهوم، كما يمكنه أن يجترح تعريفًا جديدًا، والمهم هنا أن تكون لدى الباحث القدرة على تفحص المفهوم واستجلاء معناه في بنيته وبيئته الأساسية، ولن يتأتى ذلك دون الحفر في الحقل الدلالي، والبحث في نشأة المفهوم وسيرورته وما اكتنف تلك النشأة والسيرورة من ملابساتٍ ومؤثراتٍ أسهمت بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ في تأطير المفهوم بمعانٍ قد تقترب من حقيقة المفهوم وقد تبتعد عنها.

(5)

يقال: المصطلحات مفاتيح العلوم. وهذه حقيقةٌ لا مراء فيها، وللخوارزمي (ت387ه) كتاب في المصطلحات أسماه: “مفاتيح العلوم”، ولكن حين يكون (المصطلح) بعيدًا عن روح (المفهوم) فسوف يقود الدارس بعيدًا عن روح المفهوم أيضًا؛ ذلك أن الاصطلاح هو البوصلة التي تحدد وجهة الاشتعال المعرفي، وجناية المصطلحات على المفاهيم درجات أدناها: الاختزال المخل. وأشدها: مناقضة المعنى وطمس الجوهر.

وعلى سبيل المثال فإن لفظ (الإله) في الكتاب والسنة له مفهومه الشرعي، وجوهر ذلك المفهوم هو كمال التعلق بالإله المعبود، ويتسق هذا المفهوم مع الدلالة اللغوية، فكلمة (إله) جاءت على وزن (فِعال) بمعنى مفعول، أي :مألوه، فالإلهُ هو الذي تألهه القلوب؛ أي تتعلق به محبةً ورجاءً وخشيةً وإنابة. ولذلك نظائر في اللغة مثل: كلمة (بِساط) على وزن فِعال بمعنى مفعول؛ أي مبسوط، وكلمة (فِراش) على وزن فِعال بمعنى مفعول؛ أي مفروش، وكلمة بِناء على وزن فِعال بمعنى مفعول؛ أي مبني ..الخ فالإله إذن هو المألوه، أي المعبود بكمال الحب مع كمال الخضوع، ومنه قولهم فلان يتأله: أي يتعبد بخضوعٍ وحبٍ وتعلق، وهذا التأله هو غاية الرسالة الإلهية ومقصدها الأعظم، بل هو الغاية من خلق الخلق: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات:56). ولكن حين ننظر في كتب علم الكلام سنجد أن (الإله) في اصطلاح المتكلمين هو القادر على الاختراع، وبناء على هذا الاصطلاح مضت المباحث الإلهية في علم الكلام حول مسألة اثبات الاختراع (الخلق)، وسلكوا في ذلك مسلك إثبات حدوث الأعراض وقيامها بالجواهر، وخلت تلك المباحث تمامًا أو كادت تخلو من مسائل العبودية والتَّأَلُّه (توحيد العبادة)[10]، فغلب عليها الجفاف، والتقريرات الجدلية التي لا روح فيها، وهذا مثالٌ يتضح من خلاله أهمية (المصطلح) ودوره الحاسم في تحديد وجهة الاشتغال المعرفي، ومدى جناية المصطلحات على روح العلوم ومقاصدها حين تأتي المواضعة على خلاف الشريعة وفصيح اللغة.

(6)

وهنالك مفاهيم لها من السعة والامتداد والشمول ما يجعل تعريفها برسم حدٍ لها على الطريقة الأرسطية نوعًا من الاختزال والتحجيم، والباحثون في العلوم المختلفة لهم اجتهادات في رسم حدودٍ معينةٍ للألفاظ (المفاهيم) يحددون من خلالها مفهوم العلم أو الفن محل الاشتغال، ويتم ذلك التحديد غالبًا من خلال الحد الأرسطي للتعريف بالمفهوم وتحديد ماهيته، ولابد لهذا الحد (المصطلح) من أمرين ليكتسب مشروعيته في المجال التداولي بين أهل الاختصاص، أولهما: أن يكون شائعــًا بين أهل الفن أو التخصص الواحد، وثانيهما: أن يكون مقبولاً في أوساط أهل ذلك الفن والتخصص. وتقال هنا العبارة المشهورة: لا مشاحة في الاصطلاح؛ أي أن ذلك التأطير للمفهوم برسمٍ أو حدٍ معينٍ لا بأس باستعماله بين أهل ذلك الفن ليدل دلالة مخصوصة يتداولها أهل التخصص فيما بينهم.

وحين تتم قولبة اللفظ (المفهوم) في معنىً خاص يتداوله أهل فنٍ ما ليضبط تناولهم للفن أو ليحدد موضوعات العلم مجال التخصص فإن ذلك لا يعني أن ما تواضعوا عليه من تعريف للمفهوم يعكس طبيعة المفهوم، أو شموله، أو يُلمُّ بكل معانيه ووظائفه، وكمثال على ذلك لدينا مفهوم (القرآن) الذي حُدد معناه لدى المشتغلين بعلوم القرآن بقولهم: “كلام الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، المتعبد بتلاوته، المبدوء بسورة الفاتحة، المختوم بسورة الناس” وهذا الحد (التعريف) لا يحيط بمعنى مفهوم (القرآن) ولا يعكس وظائفه ومجال حركته الواسعة في الحياة، وهذا ما تنبه له الباحث في الدراسات القرآنية الخضر سالم بن حُليس وعبر عنه بقوله: “إن حاجتنا ماسة اليوم لإعادة تعريف القرآن الكريم، وتصور مركزيته وموضَعته في الموضع الذي به يليق. دعوا التعريف الاصطلاحي المؤطِر للقرآن الكريم فهو لا يقدم شيئًا في فهم مقصودية القرآن الكريم وطبيعة فعله النشط في الحياة”[11].

(7)

ومن الجناية على المفاهيم أن يكون للفظ معناه ومفهومه الذي جاءت به النصوص الشرعية وأناطت به الأحكام، ثم ينشأ اصطلاحٌ حادثٌ لذلك اللفظ يتواضع عليه أهل فنٍ من الفنون يعبرون به عن اشتغالهم العلمي الخاص بهم، فيأتي من يحمل ما جاء في ذلك اللفظ بمفهومه الشرعي على الاصطلاح الحادث، والجناية هنا تتجسد في حمل معاني الألفاظ الشرعية على المصطلحات الحادثة المخالفة للمعاني اللغوية والشرعية، وفي هذا يقول الإمام ابن تيمية (ت728هـ): “ومن أعظم أسباب الغلط في فهم كلام الله ورسوله أن ينشأ الرجل على اصطلاحٍ حادثٍ، فيريد أن يفسر كلام الله بذلك الاصطلاح ويحمله على تلك اللغة التي اعتادها”[12]. وكَتَب العلامة بكر بن عبدالله أبو زيد في ذلك كتابه: “المواضعة على خِلاف الشريعة وأفصح اللُّغى”[13]. ولتجنيب الوقوع في هذه الجناية قرر أهل العلم – لصحة المواضعة على اصطلاحٍ ما – ضابطين هامين أولهما: موافقة لغة العرب، وثانيها: موافقة قواعد الشريعة[14].

وأطلق العلامة اللغوي أبو الحسين أحمد بن فارس (ت395هـ) على الألفاظ الشرعية اسم “الأسباب الإسلامية”، وأوضح أن الشريعة زادت فيها شرائطَ وأوصافًا، فصار للفظ معنيان: لغوي وشرعي[15].

وقد نشأ عن حمل الألفاظ الشرعية على الاصطلاحات الحادثة اضطرابٌ كبيرٌ وخلافٌ عريض حول عددٍ من المسائل، ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك ما نتج عن  الخلط بين (السنة) في مفهومها اللغوي والشرعي، و(السنة) في اصطلاح أهل الحديث وعلماء الأصول من توهم الترادف والتماثل بين لفظي: (السنة) و(الحديث)، وبالتالي أصبحت لدى البعض حساسية مفرطة تجاه نقد (الحديث)، وحتى لو جاء ذلك النقد وفق القواعد التي قررها علماء الحديث والأصول لنقد المرويات سندًا ومتنًا، فإن الناقد لن يعدم من يرميه بعداوة السنة وإنكار السنة، وربما تجاوز بعضهم إلى التفسيق والتكفير!

(8)

ومن الجناية على المفاهيم أن تؤطر بتعريفاتٍ اجتهاديةٍ اجتُرحت في بيئةٍ ثقافيةٍ وعصرٍ ما من عصور التاريخ، وقد يوصف تعريفٌ ما من تلك التعريفات بأنه جامعٌ مانعٌ، فتتوقف العقول عن تخليق تعريفاتٍ جديدةٍ تجدد بها معاني المفهوم وتبرز فيه أبعادًا وقضايا لم تكن مطروقة فيما مضى وأصبح التطرق إليها اليوم ضرورة معرفية وحضارية، وعلى سبيل المثال فمفهوم الخلافة هو أحد المفاهيم السياسية الكبرى في الفكر السياسي الإسلامي، وقد شاع تعريف الخلافة بــأنها  “خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به” وحيثما ولى القارئ وجهه قراءةً وبحثًا في مفهوم الخلافة سيجد هذا التعريف أمامه وكأنه وحي نزل من السماء! أو كأن العقول عقمت عن اجتراح تعريفاتٍ أخرى تُجلِّي مفهوم الخلافة في أبعاده القيميَّة والحضاريَّة والإنسانيَّة والاجتماعيَّة والتنمويَّة.

24 جناية المصطلحات على المفاهيم

(9)

ومن الجناية على المفاهيم أن تؤخذ التصورات عن مفهومٍ ما من واقع عصور الانحطاط والتدهور الحضاري لا من المصادر الأولية وبنية المفهوم الأساسية؛ ولتجنُّب ذلك يجب إمعان النظر عند تحرير المفهوم في سيرورته ومراحل تشكله وتطوره مع التنبه للإسقاطات التاريخية التي قد تلعب دورًا كبيرًا في تحريف أو اختزال أو تشويه المفهوم، أو تفريغه من مضامينه ومعانيه الجوهرية، ويمكن أن نضرب المثل هنا بمفهوم (البيعة) الذي تدل مصادره التأسيسية على أنه عقدٌ سياسيٌ شرعيٌ يتولى بموجبه رجل من المسلمين الولاية العامة (رئاسة الدولة) على أساسٍ من الشورى وحرية الاختيار، ثم إن المفهوم مرَّ بتطورات سلبية حولته من عقدٍ رضائي إلى عقدٍ إكراهي، ومن عقدٍ يتضمن الواجبات والحقوق التي للحاكم والمحكوم إلى عقدٍ اختزل معناه ومضمونه في طاعة الحاكم، وانعكس الواقع السياسي المبني على قوة الشوكة على ما كتب من تعريفاتٍ للبيعة، فأصبح البعد التعاقدي بين الحاكم والمحكوم غائبًا، وانصب التركيز على طاعة الإمام (الحاكم) فحسب، ومن تلك التعريفات تعريف الإمام علاء الدين الخازن (ت741هـ)[16] للبيعة بأنها: “العقد الذي يعقده الإنسان على نفسه من بذل الطاعة للإمام, والوفاء بالعهد الذي التزمه له”[17]. وتعريف ابن خلدون (ت808هـ) للبيعة بأنها:”العهد على الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين، لا ينازغه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره”[18].

(10)

وهنالك من الجناية على المفاهيم ما قد تصل إلى درجة الاغتيال المعنوي؛ وذلك حين يتم الاعتماد على تعريفٍ شائعٍ يحرف معنى المفهوم أو يطمس حقيقته، ثم يؤخذ ذلك التعريف كمسلمة، ويسود الاعتقاد أن المفهوم واضحٌ ولا يحتاج إلى تحرير وتأصيل! ومفهوم (أهل البيت) مثال حي لذلك، فقد حدث اغتيال لهذا المفهوم وطمس لحقيقته بتحويله من مفهوم (سَكني) إلى مفهوم (نَسَبي)، ومن مفهوم ظرفي محدود بحدود الزمكان إلى مفهوم ممتد عبر الأزمنة، وبلغ اغتيال المفهوم مداه بنفي حقيقته المؤيدة بقواطع اللغة والشرع والعرف والمتمثلة في زوجات النبي أمهات المؤمنين، والذهاب خلف تفسيرات خلقتها وأشاعتها في بادئ الأمر الأهواء العصبية والمذهبية وجماعات المصالح السياسية.

(11)

ومن الجناية على المفاهيم أن تقدم في صورةٍ سطحيةٍ هزيلة، من خلال اصطلاحاتٍ لا أساس لها من لغة، ولا سند لها من علمٍ ومعرفة، ومن ذلك مفهوم (الثقافة) الذي تم تسطيحه وتهزيله بتعريف الثقافة بأنها:معرفة شيءٍ عن كلِّ شيء!

ولسنا ننكر  هنا أن المثقف له مشاركاتٌ في علومٍ ومعارفَ متنوعة، وإنما الذي ننكره أن يختزل مفهوم الثقافة على هذا النحو السطحي البائس!

نعم.. ليس ثمة خلاف أن المثقف لابد له من تحصيل واكتساب جملةٍ من المعارف والعلوم والآداب، ولكنه ليس ذلك التحصيل الهزيل الذي تعبر عنه أو توحي به مقولة: الثقافة هي أن تعرف شيئًا عن كل شيء! ولكنه التحصيل الجاد المتين الذي يحيط بأصول وقواعد كل علم، وأهم مسائله وقضاياه.

وليس من قبيل المبالغة أن نقول هنا: إن تلك المقولة الشائعة في تعريف الثقافة على سطحيتها وسذاجتها قد لعبت دورًا في التأسيس للجهالة المركبة، والضحالة المعرفية، وقد كان من نتائجها أن رأينا البعض يعدون أنفسهم في زمرة المثقفين، ويتيهون غرورًا بلقب (المثقف) وليس عندهم من العلم والمعرفة إلا شذراتٍ متفرقةٍ، ونتفًا مبعثرة، لا تسمن ولا تغني من جوع! ومن ثَمَّ أصبح من الضرورة بمكانٍ تصحيح مفهوم الثقافة كمدخل لرد الاعتبار إليها، وتجديد الوعي بأهميتها ودورها في حياة الأمة.

(12)

وختامًا: فقد شهدت مناهج الدراسات المصطلحية والمفهومية تطورًا كبيرًا، وأصبحت المفاهيم والمصطلحات تحت مجهر الفحص العلمي أكثر من أي وقتٍ مضى، واعتُمدت في هذا السياق تقنياتٌ ومناهجُ وطرائقُ تقود إلى تحرير وضبط المفاهيم والمصطلحات وتحريرها من الإسقاطات التاريخية والأحكام القبلية والتحريفات التأويلية والتحيزات الإيديولوجية، وإذا ما أحسن الباحثون تطبيق واستثمار الدراسات المصطلحية والمفهومية فسيحدث ذلك ثورة معرفيةً ونهضةً علميةً وفكريةً تتجدد بها العلوم والمعارف وتتحرر بها العقول من العوائق المعرفية وفي مقدمتها عائق التعامل مع المصطلحات كمسلمات نهائية وغير قابلة للمراجعة.

الهوامش:

  1. انظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس، مادة: فهم.
  2. أخرجه أحمد (6168) وأبو داود (4244) من حديث عبدالله بن عمر.
  3. د. محمود فهمي حجازي- الأسس اللغوية لعلم المصطلح: 7 – 8 (مكتبة غريب، القاهرة، مصر، ط1.د.ت).
  4. انظر: بكر بن عبدالله أبو زيد – المواضعة في الاصطلاح على خلاف الشريعة وأفصح اللُّغى: 30 -31 (مطابع دار الهلال للأوفست، الرياض،  السعودية، ط1، 1405ه), وانظر له أيضًا: معجم المناهي اللفظية:117 (دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، الدمام، السعودية، ط2، 1410هـ).
  5. أ. د. طه جابر العلواني – بناء المفاهيم دراسة معرفية ونماذج تطبيقية: 1/7-8 (المعهد العالي للفكر الإسلامي، القاهرة، مصر، ط1، 1418هـ/1998م).
  6. الإمام ابن القيم – مدارج السالكين: 3/306 (دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، ط2، 1393هـ/1973م).
  7. انظر :د. سيف الدين عبدالفتاح – بناء المفاهيم دراسة معرفية ونماذج تطبيقية، مرجع سابق: 1/95.
  8. Berlin, I. – Four Essays on Liberty: 121 (Oxford University Press,1975).
  9. سعاد دريم – الدراسة المفهومية.. مقاربة تصورية ومنهجية: 44 (مجلة إسلامية المعرفة، س (15)، ع (60)، 1431هـ/2001م).
  10. حول أهمية مسألة التأليه وآثارها: انظر – إن شئت – ما كتبه الشيخ غازي التوبة في كتابه: “في مجال العقيدة.. عرض ونقد”.
  11. الخضر سالم بن حُليس – إعادة تعريف القرآن. منتدى العلماء:  https://www.msf-online.com
  12. شيخ الإسلام ابن تيمية: مجموع الفتاوى (12/107).
  13. اللُّغى بألف مقصورة جمع لكلمة لغة، فكما يقال لغات يقال لُغى أيضًا.
  14. انظر: بكر بن عبدالله أبو زيد – المواضعة في الاصطلاح على خلاف الشريعة وأفصح اللُّغى. مرجع سابق: 66، 71، 91.
  15. انظر: ابن فارس، أبو الحسين أحمد بن فارس (ت395هـ) – الصّاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها: 77 -81 (تحقيق: د. عمر فاروق الطبّاع. مكتبة المعارف، بيروت، لبنان، ط1، 141هـ/1993م).
  16. علاء الدين علي بن محمد الملقب بالخازن، ولد ببغداد سنة 678هـ، من مؤلفاته: (لباب التأويل في معاني التنزيل)، و(مقبول المنقول) وهو كتاب في علم الحديث، و(عدة الأفهام شرح عمدة الأحكام)، توفي في حلب سنة 741هـ..
  17. الخازن، علاء الدين علي بن محمد –  لباب التأويل في معاني التنزيل:6/191 (دار الفكر، بيروت، لبنان، ط1، 1399هـ/ 1979م).
  18. ابن خلدون، عبدالرحمن بن محمد –  المقدمة:1/390 (تحقيق: عبدالله محمد الدويش، دار يعقوب، دمشق، سوريا، ط1، 1425ه/2004م).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى