فكر

العقل مع النقل في الفكر الإسلامي

تمهيد:

هنالك منطق طبيعي داخلي في إطار الفكر الإسلامي يفرض عرض مسألة الحرية الفكرية، كلما تهيأت الأجواء، أو حدث سوء فهم لها من خصوم الإسلام أو أبنائه على حدّ سواء، غير أن المحذور القمين بالتنويه، حين يعاد النقاش مجدّداً ضرورة التحرر من قيود الفكر الدفاعي الذي يضع الإسلام في قفص الاتهام عادة، وهو ما قد يحيله إلى متهم لا تخلو ردوده من ضعف أحيانًا، رغم امتلاكه قوّة ذاتية حقيقية.

ومع ما أخذته مسألة العقل والنقل من مساحة مقدّرة في مسار الفكر الإسلامي فـ”لقد ظلّت قضية “تعارض النقل والعقل”، التي وقع فيها العقل المسلم دون قصد، بتأثير المنطق الصوري الإغريقي تمثل منعطفاً خطيراً في مسيرة الأمة ورؤيتها الكونية، ومسيرتها الحضارية. وما لم ندرك، ما تنطوي عليه هذه القضية، وما ترتب ويترتّب عليها في فكر الأمة، وصفاء رؤيتها الكونية الإسلامية؛ فإن الأمة لن تستطيع أن تستعيد رؤيتها ودافعيتها وقدرتها وريادتها الإعمارية والعلمية والحضارية، من آثار سلبية خطيرة على وحدة فكر الأمة، ووحدة صفها، وصفاء رؤيتها الكونية الإسلامية، وهذا ليس خدمة يُقصد بها استنقاذ الأمة فحسب؛ بل إن القصد من وراء ذلك أيضاً، وضع الحضارة الإنسانية مجدّداً على جادة العدل والإخاء والشورى والإعمار والسلام”(1).

 

تحول الصراع بين الكنيسة والعلم في أوروبا إلى قاعدة مطلقة:

ومن المعلوم أن الصراع الذي دارت رحاه منذ زمن ما قبل عصر النهضة الأوروبية بين الكنيسة والعلم أو رجال الدين وعلماء الطبيعة تحوّل – أو هكذا يراد له– إلى قاعدة مطلقة تحكم نمط العلاقة بين كل دين وعلم، بصرف النظر عن ملابسات الصراع وإشكالاته الأوروبية الخالصة. وعلى سبيل المثال فلم يذكر لنا التاريخ الإسلامي في أي حقبة من حقبه أن  ثمة عالماً أو مفكراً اكتشف نظرية أو حقيقة علمية طبيعية أو تطبيقية، ثم قُدم للمحاكمة بناء على نتائج دراسته التي تتعارض مع حقائق الإسلام ونصوصه، وذلك أمر يختلف عن  التباس مسألة أو مسائل أو اختلاف ما – أيّاً كانت دوافعه- على هذا الفقيه أو العالم هنا أو هناك، فيقع في ذمّ آخر، لاشتغاله بعلم كذا أو كذا، إذ تظل الحقيقة الأغلب أن عدداً من أبرز العلماء الذين يُشار إليهم بالبنان؛ جمعوا بين العلوم الطبيعية تلك وعلوم  الشريعة، كما أن عدداً منهم اشتغل بما كان يُعرف بعلوم الحكمة( الفلسفة)، التي كانت تمثِّل أمّ العلوم إلى قرون متأخرة، بما في ذلك علوم الكون والمادة والرياضيات،  بل لقد كان تبريز بعضهم في علوم الشريعة لا يعني جهلهم – إن لم نقل نبوغهم أحياناً-  في مجالات علمية بحتة طبيعية وتطبيقية كالطب أو الهندسة أو الفلك أو الجبر أو سواها. ويظل الموقف السلبي من الفلسفة، أو بعض العلوم التي استخدم بعضها في السحر، أو  الشغب على المعتقدات، شأناً فردياً خاصاً، له ملابساته كذلك، حيث لا يمثّل اتجاه جمهور علماء الأمّة، ولا رؤوسها الكبار.

جدلية العقل مع النقل في الفكر الإسلامي


نماذج جدلية:

  • وللتدليل على جوهر ماسبق؛ فإن ثمّة نماذج فكرية في تاريخ الفكر الإسلامي دار حولها جدل كبير، من حيث الموقف من العقل والنقل خاصة. وعلى سبيل المثال فإن أبا الوليد بن رشد الحفيد(ت:595هـ)، الذي اشتهر عالماً وفقيهاً وأصولياً وقاضياً مالكياً مجتهداً من الطراز الرفيع، كما ينبئك عن ذلك كتابه الفقهي المقارن الشهير (بداية المجتهد ونهاية المقتصد)- على سبيل المثال- كان في الوقت ذاته فيلسوفاً عالمياً، وطبيباً وفيزيائيا كذلك.

  • وقل مثل ذلك عن الفخر الرازي(ت:604هـ)، الذي عُرِف متكلّماً أشعرياً فريداً، برّز في السمعيات (العلوم الشرعية)، إلى حدّ قلّ نظيره، ولكنه كان  إلى جانب ذلك عالماً موسوعياً متضلِّعاً في  العلوم البحتة، كالرياضيات والعلوم والفيزياء والطب.

  • وحتى ابن تيمية (728ت:هـ) الذي اشتهر إماماً سلفياً، بل صوّره بعض أتباعه وبعض خصومه في آن خصماً لعلمي الكلام والفلسفة، نظراً   لنزاعه الشهير مع بعض المتكلمين والفلاسفة، كما لو كان منازعاً للعِلمين في حدّ ذاتيهما، غير أن ذلك في الواقع غير دقيق، فهو إنما كان مختلفاً مع بعض المتكلمين والفلاسفة، لأنه كان يراهم بلغوا في الاشتغال بذينك العِلْمين مدىً بعيداً في الشطط، الذي يشغل العقل المسلم بما ليس من ورائه نفع ولا عمل، وإلا فقد كان متكلّماً وفيلسوفاً عملياً من طراز رفيع كذلك، وما  سفره الكبير (درء تعارض العقل مع النقل أو موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول)، وكتابه (الردّ على المنطقيين) – على سبيل المثال-؛ إلا دليل بيّن على مدى تبحرّه وتبريزه في علمي الكلام والفلسفة وعقلانيته، وتبريزه المتفرّد في الانتصار للمنهج الاستقرائي، في مقابل المنهج القياسي الأرسطي.

 

موقع العقل والنقل لدى بعض أبرز مدارس الفكر الإسلامي (مدرسة الحديث ومدرسة الرأي):

يُدرك الباحث في تاريخ الفكر الإسلامي أنه رغم ما شهدته ساحة الفكر الإسلامي من خلاف فكري بين بعض أبرز المدارس الإسلامية وبعض رموزها، بلغ أحياناً إلى حدّ التراشق بالاتهامات المتبادلة؛ فإننا لم  نقف على مفكّر أو عالم وازن، أو مدرسة ذات حضور وفعل – دعك من فرد أو أفراد- يردّ على مخالفيه، فيباهي بازدراء العقل أو التقليل منه جملة واحدة، ويعلن موقفاً سلبياً تُجاه العلوم الطبيعية والتجريبية ذاتها، وغاية ما تجده أنّه قد يقدّم النقل على العقل، حال ورود ما يُشعر بقيام التعارض بينهما، لا أنّ ثمّة موقفاً سلبياً بالأصالة من العقل. وهنا قد يُثار ذلك النزاع الشهير الذي نشب منذ وقت مبكّر بين من وصفوا في تاريخ الفكر الإسلامي بمدرسة “أهل الحديث” في مقابل من وصفوا بمدرسة ” أهل الرأي”، ولكن التحقيق أن ذلك أمر مبالغ فيه جدّاً، حين يصوّر أن مدرسة الحديث تقف موقفاً سلبياً مطلقاً من العقل، على حين تقف مدرسة الرأي مزدرية للنص ودلالته، أيّاً كانت قطعيته الثبوتية أو الدلالية، وثمة تفاصيل في هذا تستأهل حديثاً مستقلاً، غير أنني سأقتصر هنا على الإشارة إلى أبرز رؤوس المدرستين الرئيستين الكليتين في الفكر الإسلامي، اللتين تصنّفان على ” أهل الحديث” وعلى ” أهل الرأي” وهما:

المدرسة  الأولى: المدرسة الأشعرية، ومعها الماتوريدية ضمناً، وسأركِّز على شخصية أبي حامد الغزالي، على نحو رئيس، ثم الأثرية (السلفية)، وسأركِّز على شخصية ابن تيمية، على نحو رئيس.

المدرسة الأخرى: مدرسة التفلسف، وإلى جانبها الاعتزال، وسأركّز على شخصية ابن رشد على نحو رئيس**(2)**، وذلك على النحو التالي:

أبوحامد الغزالي

 

أولاً: أبو حامد الغزالي وموقفه من العقل والسببية:

اشتهر أبو حامد الغزالي (ت:505هـ) باشتغاله بالفلسفة في صدر حياته العلمية؛ وعلى الرغم من تحوّله بعد ذلك إلى حياة التصوّف،  ونقضه لمنطق الفلاسفة الإلهيين وحججهم ومنطقهم؛ فإنه لم يصبح عدواً للفلسفة بالمطلق، كما يسوّق لذلك بعض من لم يُحقّق الأمر في فلسفة الغزالي، وفِيمَ اختلف فيه مع الفلاسفة؟ هذا رغم أن بعض من نسب للغزالي ذلك باحثون مقتدرون، أمثال زكي مبارك (ت:1952م) في أطروحته للدكتوراة عن (الأخلاق عند الغزالي)، وماجد فخري (ت:2021م)، أستاذ الفلسفة ورئيس دائرتها في الجامعة الأمريكية ببيروت، الذي أشار إلى ذلك في كتابه (دراسات في الفكر العربي)، ومحمد عابد الجابري(ت:2010م)، كما في كتابه (التراث والحداثة) “(3)، لكننا حين نعمل على جمع تراث الغزالي كلّه، أو ما تمكّنا من العثور عليه منه، ونصنّفه بحسب مراحل الكتابة، وما قد يصحبها من تحوّلات جزئية غالباً، وميّزنا ملابسات كل مرحلة منها وإشكالاتها، مستأنسين في ذلك بكتابه (المنقذ من الضلال)؛ فلسوف نخلص إلى نتيجة مختلفة، عن تلك التي صدرت عن أمثال أولئك.

أما ما أبرزه كتابه المعروف بـ(تهافت الفلاسفة)، من موقف صُلب وعنيف ضدّ بعض الفلاسفة الإسلاميين كابن سينا والفارابي، فيما وصفه بمتابعتهم للفلاسفة القدماء (سقراط- بقراط- أفلاطون- أرسطوطاليس)؛  فلا يؤذن ذلك باستخلاص أنه كان ضد العقل بإطلاق، بوصف العقل هو أداة الفلسفة الأساس، وأنه بخلافه مع الفلاسفة في جملة مسائل منها مسألة السببية؛ يكون قد قضى على العقل العلمي أيضاً- كما يردّد بعضهم – وزعموا – بناء على ذلك- أنه تسبب في تنشئة أجيال لا تعير العقل اهتماماً! وذلك – في الواقع- أمر لا ينسجم مع حقيقة اتجاه الغزالي في هذا المجال، فالحق أن الرجل ما زاد عن أن سدّد ضربة تجاه الفلسفة الميتافيزيقية (الإلهية)، وصفها البعض بأنها ضربة قاصمة مدويّة، وما كان دافعه لذلك كونها “فلسفة”، بل لأنها –بنظره- صادرة عن عقول متعالية، غير مهتدية بنور الوحي، والمقصود بها:

تلك العقول اليونانية القديمة، فأيَّاً ما كان ذكاء القائلين بها فهم – والحالة تلك- يعانون التيه والضلالة، حين يحشرون فلسفتهم في مجال الغيب، وهو المجال الذي يستحيل معرفته بمعزل عن نور الوحي، ومن ثمّ فالغيب عصيّ على الإدراك الإنساني المجرّد، ولم نُكلّف به ابتداء، كما أن البحث في ذلك المجال لا يزيد في علمنا، ولا سلوكنا شيئاً، والأهم أنه لم تكن ثمّة علاقة لذلك عند الغزالي -من أي وجه-  بذمّ الفلسفة من حيث هي،  وها هو ذا قد صرّح بذلك في مقدّمة كتابه  (تهافت الفلاسفة) قائلاً:” فلمَّا رأيت هذا العِرق من الحماقة نابضاً على هؤلاء الأغبياء[ يقصد متابعي الفلاسفة القدماء]، انتدبت لتحرير هذا الكتاب، ردّاً على الفلاسفة القدماء، مبيّناً تهافت عقيدتهم، وتناقض كلمتهم، فيما يتعلّق بالإلهيات، وكاشفاً عن غوائل مذهبهم وعوراته، التي هي على التحقيق مضاحك العقلاء، وعبرة عند الأذكياء، أعني ما اختصوا به عن الجماهير والدهماء، من فنون العقائد والآراء”(4).

ناقش الغزالي الفلاسفة الإلهيين القدماء ومن تابعهم من فلاسفة المسلمين، وأبرزهم ابن سينا والفارابي،  في 20 مسألة ميتافيزيقية (إلهية) اختلف فيها الغزالي معهم – كما سجّلها في كتابه تهافت الفلاسفة- ليس من بينها مسألة واحدة يُستنتج من خلالها ذلك الحكم المطلق السلبي التعميمي، تجاه الحكمة (الفلسفة)، أو أداتها (العقل) بحيث يغيّر الغزالي موقع العقل المتعارف عليه في الفكر الإسلامي، من كونه حجّة في التكليف وإقامة البرهان، وفق أهميته، في القرآن وموقعه المتقدّم فيه. وخذ أشهر تلك المسائل العشرين وأخطرها عند الغزالي فقد تمحورت في قضايا ثلاث كليّة وهي: القول بالقِدم النوعي للمادة، وعلم الله بالكليات دون الجزئيات، وبكون الحساب إنما يجري على الروح دون الجسد، أي إنكار المعاد الجسماني، وحجاج الغزالي معهم فيها كان حجاجاً عقلياً بامتياز.

وللباحث أن يعجب هنا من ذلك الاستمرار في الافتيات على الغزالي،  وترديد نسبة القول إليه بازدراء العقل، مع كونه القائل:

“اعلم أن العقل لن يهتدي إلا بالشرع، والشرع لم يتبين إلا بالعقل، فالأس والشرع كالبناء، ولن يغني أس ما لم يكن بناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن أس.

وأيضا فالعقل كالبصر والشرع كالشعاع، ولن يغني البصر، ما لم يكن شعاع من خارج، ولن يغني الشعاع ما لم يكن بصر، لهذا قال تعالى : {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ..}(المائدة:15-16 ). وأيضا : فالعقل كالسراج ، والشرع كالزيت الذي يمدّه ، فمالم يكن زيت لم يحصل السراج، وما لم يكن سراج لم يضيء الزيت، وعلى هذا نبّه الله- سبحانه- بقوله -تعالى- : {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ} (النور : 35)، فالشرع عقل خارج، والعقل شرع من داخل، وهما متعاضدان بل متحدان “(5).

 

تهافت الفلاسفة

 

وبناء على ذلك فإن إعمال العقل عند الغزالي لا يختلف عن إعماله عند غيره من كبار فلاسفة الإسلاميين، من حيث الآلية، واتحاد الموضوع (موضوع البحث)، وإن سَلَك الغزالي أو سواه  في أسلوب المحاجّة العقلية مسلكاً قد يوصل إلى نتائج مغايرة لغيره، وهو أمر خارج  دائرة النقاش حول إعمال العقل من عدمه، لذا يعلّق الدكتور سليمان دنيا على معنى الفلسفة عند الغزالي، في مقدّمته لتحقيق كتابه (تهافت الفلاسفة)،  بتقرير أن الفلسفة عند الغزالي  – كما عند غيره من الفلاسفة الإسلاميين-  تعني ” العمليات الفكرية والمحاولات العقلية التي يُراد بها التوصّل إلى الحق والاهتداء إلى الصواب.. وفي دائرة هذا المعنى يقع العمل الذي قام به الغزالي في كتابه التهافت؛ فإنه إذا كان ابن سينا قد عوّل على العقل واستلهمه؛ فكذلك صنع الغزالي. وإذا كان ابن سينا يسلك مسلكاً عقلياً صرفاً يبيّن به مثلاً معنى وجوب أن يكون العالَم قديماً… (6) ؛ فإن الغزالي يعوّل أيضاً على العقل وحده في إثبات حدوث العالَم”(7). ثم يورد الدكتور دنيا مناقشة الغزالي لابن سينا والفارابي، من خلال كتابه (تهافت الفلاسفة) بمنطق عقلي صريح، بيّن من خلاله كيف نقض الغزالي تلك الدعوى بقِدم العالَم**(8).. واختتم دنيا تعليقه على ذلك بالقول: “هكذا يُسرف الغزالي في البحث العقلي حول هذه المسألة إسرافاً، ويمعن فيه إمعاناً، وعساه لا يبعد عن الحق من يقول: إن منهج الغزالي في بحث هذه المسألة أوضح وأدق من بحث ابن سينا. فهل يوجد إذن ما يبرّر اعتبار أحد المسلكين [يقصد مسلك ابن سينا والفارابي من طرف والغزالي من الطرف الآخر] فلسفة دون الآخر؟”(9)**.

 

ويقول الأستاذ عباس محمود العقاد عن الغزالي في سياق نقاش موقفه من الفلسفة:

وفيما لو سُئِل الغزالي: هل أنت فيلسوف؟ ومع تأكيد العقّاد لنفي الغزالي الفلسفة عن نفسه، بالمعنى الذي يُنكره على من ردّ عليهم في كتابه (تهافت الفلاسفة) بالخصوص؛ لكنه( أي العقّاد) يعقّب على ذلك قائلاً:” لكننا ننظر الآن إلى أقوال الغزالي في مناقشته للفلسفة، فنعلم أنّه ناقش الفلسفة بالفلسفة، وحطّم السلاح بسلاح مثله، بيد أنه أنفذ وأمضى، فهو على هذا فيلسوف أقدر من الفلاسفة الذين أبطل حجتهم، أو هو فارس في هذا الميدان، أو في عدّة من سائر الفرسان، ولو أنّه تصدى لهذه الصناعة بغير أداتها لما وضحت حجّته بين الحجج، ولما استطاع أن يكشف بطلانهم، ولو كانوا مبطلين. والواقع أن حجّة الإسلام لم تكمل له أداة قط، كما كملت له أداة الفلسفة، فهو عالم، وهو فقيه، وهو متكلّم، وهو صوفي، ولا مراء، ولكن هذه المطالب لا تستغرق كل ملكاته ووسائله إلى المعرفة، وقد يبلغ فيها غايتها، ببعض تلك الملكات والوسائل، وتبقى له ملكة، لا ضرورة لها، في غير الفلسفة وحدها، وأوجز ما يُقال عنها بكلمة واحدة: إنها هي ملكة التجريد”(10).

واختتم العقاد تقريره بوضع تساؤل آخر عن الغزالي بين التصوف والتفلسف؟ وهل كان فيلسوفاً أم متصوفاً؟ يجيب العقاد قائلاً: ” إنه كان قدوة للفلاسفة، ونموذجاً من نماذج التفكير الرفيع، نتعلم منه أن للفلسفة أداة لا تتم بغير قسط من التصوّف، لأن التصوف قدرة على انتزاع النفس من المألوف، وتلك قدرة لا يستغني عنها الفيلسوف المفكّر، ولا الفيلسوف الحكيم”(11).

وبناء على مثل هذا التقرير من قبل العقّاد – على سبيل المثال- كيف يسوغ لبعض الباحثين الاستمرار في ترديد مثل تلك المقولات عن الغزالي بازدرائه العقل، مع توافر جملة عوامل مباشرة تُغني عن البحث النظري في فلسفة الغزالي وموقفه منها، ومن ذلك شهرته بالعقل والاحتفاء به وبأدواته، سواء بالتصريح المباشر بذلك، أم بموقفه العملي في محاججاته الفلاسفة الإلهيين بالخصوص، في غير ما موضع من تراثه الفكري؟

 

هل اتخذ الغزالي موقفًا سلبيًا من العقل؟

وقد سبقت الإشارة إلى طرف من ذلك؛ فكيف تروج بعد ذلك  تهمة موقفه السلبي من العقل، على ذلك النحو الذي يشيعه بعض الباحثين المعاصرين بلا تروٍّ؟! وفوق ذلك فإن احتفاء الغزالي بعلم المنطق؟ وهو العلم الذي عُرِف عند المؤمنين به بأنه يعصم العقل من الزلل، كما يعصم علم النحو اللسان من الخطأ، وعلاقة المنطق بالفلسفة علاقة عضوية لا تنفك. ولئن بدا ذلك جليّاً في مجمل تراثه، من حيث التطبيق، بما فيه كتابه الأصولي الشهير المستصفى في الأصول (12) (وهو الكتاب الذي اختصره ابن رشد رُغم أنه صُوِّر خصماً مطلقاً للغزالي)؛ فلقد خصّص بعض كتبه النظرية لذلك وأبرزها ( معيار العلم) و(القسطاس المستقيم) و(محك النظر)، و(إلجام العوام عن علم الكلام).

ولئن كانت بعض هذه المصادر كُتِبت في مرحلة ما قبل إعلانه الموقف الحدّي من الفلسفة الميتافيزيقية (الإلهية)، بما يعني إمكان التراجع عنها؛ فليس ثمّة وثيقة ثابتة عنه تقول بحدوث ذلك التراجع، بل إن مواقفه العملية بالخصوص تؤكّد مضيّه في ذلك بلا تردّد، ومن ثمّ فيبقى الأمر على أصله، استصحاباً- وفق تعبير الأصوليين-  لكن كون الغزالي يؤكّد تلك الأهمية للعقل ووسائله؛ فإنه لا يعني أنه عاد ليمنحه حق الحكم على قضايا الغيب التي يستعصي على العقل إدراكها، ما لم يكن هناك وحي، يستمد منه بصيرته فيها، ولذلك فإن الغرض الأول من كتابه (تهافت الفلاسفة) كان إثبات ذلك المنزلق الكبير الذي وقع فيه المتفلسفة الإلهيون من اليونان خاصة، ومن تابعهم في ذلك، أو انزلق إلى مشربهم من بعض متفلسفة الإسلاميين. وفي هذا يقول سليمان دنيا: فإن “الغرض الأول والأخير من تأليف كتاب التهافت هو إثبات أن العقل قاصر عن إدراك حقائق الأمور الإلهية، وأنه لا يمكن التعويل عليه بشأنها، ودعا – فيما يتصل بهذه الأمور- إلى مصدر آخر، هو خبر النبي المعصوم”(13).

 

الهوامش:

  1. نادية محمود مصطفى (تحرير)، قراءة في فكر أعلام الأمة : في رؤية ومنهاج الدكتور عبد الحميد أبو سليمان، 2021م، ط الأولى،  فرجينيا:  مركز الإسلام في العالم المعاصر – جامعة شناندوا والقاهرة: مركز الحضارة للدراسات والبحوث ،  ص 25-26.
  2. بسطت القول في ذلك في باب مصادر المعرفة وطرائقها من أطروحتي للدكتوراة  (نظرية المعرفة في القرآن وتضميناتها التربوية) الصادرة في طبعتها الأولى عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي بفرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكية،1422هـ-2002م، دار الفكر: دمشق ودار الفكر المعاصر بيروت عبر مكتب المعهد العالمي للفكر الإسلامي في عمّان، أو طبعتها الثانية الصادرة عن مركز الكتاب الأكاديمي للنشر ، عمّان، 1438هـ-2017م).
  3. راجع: زكي الميلاد، الغزالي: هل كان سبباً في تدهور الفلسفة في العالم الإسلامي؟ مجلة المسلم المعاصر،العزالي .. هل كان سببا في تدهور الفلسفة في العالم الإسلامي؟ {https://almuslimalmuaser.org/2021/12/15/العزالي-هل-كان-سببا-في-تدهور-الفلسفة-ف/أبحاث/}، العدد170-171،7/12/2021م (دخول في 26/12/2021م).
  4. أبو حامد الغزالي، تهافت الفلاسفة (تحقيق سليمان دنيا) ، د.ت، ط 4، القاهرة: دار المعارف بمصر، = =ص75.
  5. أبو حامد الغزالي ، معارج القدس في مدارج معرفة النفس، أبو حامد الغزالي (حققه وخرَّج أحاديثه : محمد مصطفى أبو العلا)، بدون تاريخ، بدون طبعة، القاهرة : مكتبة الجندي، ص64.
  6. سليمان دنيا، مقدّمة الطبعة الثانية من تحقيقه لكتاب تهافت الفلاسفة للغزالي، مصدر سابق، ص 19-20.
  7. المصدر السابق، ص 21.
  8. راجع نص الغزالي كاملاً في مناقشته الفلاسفة مناقشة عقلية ونقضه لدعواهم بالمنهج العقلي ذاته في: الغزالي، تهافت الفلاسفة، المصدر السابق، ص 96-123.
  9. دنيا، مرجع سابق، ص 23.
  10. عباس محمود العقاد، تقديم كتاب تهافت الفلاسفة (محاضرة السيّد الأستاذ عباس محمود العقاد) ( نسخة قراءة وتعليق: محمود بيجو)، د.ت، د.ط، د.م: د.ن، ص أ- ب).
  11. العقاد، المرجع السابق، ص س.
  12. اختصره ابن رشد الحفيد فصار عنوانه: الضروري في أصول الفقه أو مختصر المستصفى(تقديم وتحقيق: جمال الدّين العلوي، تصدير محمد علال سيناصر)، 1994م، ط الأولى، بيروت: دار الغرب الإسلامي.
  13. دنيا، مرجع  سابق، ص43.

أ.د أحمد الدغشي

أ.د أحمد محمد الدغشي أستاذ الفكر التربوي الإسلامي بجامعتي صنعاء - اليمن وإغدر (الحكومية) التركية لديه ٢٤ كتابًا منشورًا، وكتب أخرى تنتظر النشر. -حاصل على جائزة رئيس الجمهورية التشجيعية للبحث العلمي في ٢٠٠٩م. -شارك في عدة فعاليات وأنشطة فكرية وتربوية في العالم العربي وفي أوروبا وأمريكا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى