فكر

محنة المستشرق الراحل محمد أركون: من تاريخ أزمة حرّية الرأي في فرنسا

تعيش فرنسا حالة متصاعدة من أزمة حرية التعبير، وانكشاف الغطاء   في هذا المجال، وحقيقة السقف العلماني هنالك، متجاوزة التضييق على الصوت الإسلامي ” الحرّ” والإساءة لمقدّساته، بدعوى كفالة حرّية التعبير في المجتمع الفرنسي، وعدم وجود سقف لذلك هنالك، كما يحلو للرئيس إيمانويل ماكرون أن يردّد هذا كلما جأر الوجود الإسلامي في فرنسا بالشكوى، من جرّاء الإساءات المتكرّرة لمقدّساتهم، وفي مقدّمتها نبيهم الأعظم محمد – صلى الله عليه وسلم-.

لعلّ أزمة حرّية التعبير في فرنسا انكشفت – بما لا مزيد عليه – في نظر البعض-  وبلغت ذروتها  مؤخراً  بقيام السلطات  الفرنسية  منتصف شهر  مايو/أيار 2023م، على أعلى المستويات ،بتوعّد رسام الكاريكاتور ” ليتكو” من الجنوب الفرنسي، مهدّدة بأنه  سيتعرّض للمحاكمة، والعقوبة المستحقة بعد أن قام  برسم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في صورة الزعيم الألماني النازي هتلر،  وذلك على خلفية الاحتجاجات  المستمرة  التي تجتاح فرنسا، من قبل النقابات المهنية والعديد من القطاعات الشعبية هناك، رفضاً  للتعديلات التي أدخلت على قانون التقاعد الفرنسي(1).

وهنا عادت التساؤلات مجدّداً عن حقيقة حرّية التعبير في فرنسا العلمانية، وما الفرق بين تلك الإساء لماكرون والإساءة الأكبر – قبل ذلك- للنبي محمد – صلى الله عليه وسلم-؟  وأين ذهبت ضمانة حرّية  التعبير حين اتصل الأمر  بماكرون ذاته؟  وعما إذا كانت هذه الأزمة حالة طارئة، بسبب قيادة ماكرون؟

والواقع أن أزمة حرّية التعبير  في فرنسا  أضحت أشبه ما تكون بالماركة المسجّلة هناك، حين يتصل الأمر بالشأن الإسلامي ومقدّساته خصوصاً، على مدى العقود  المتطاولة، حتى مسّت – في بعض مراحلها- شخصيات  فكرية،  أعلنت  مراراً  تخليها عن الإسلام فكراً وسلوكاً،  مكتفية بالاشتغال به دراسة  وبحثاً، كأية دراسة استشراقية من خارج الإسلام،  ليتضح لنا في نهاية  الأمر  أن أزمة حرّية التعبير  في فرنسا  ليست شأنا خاصاً بالرئيس ماكرون وحده، بل هي أزمة عميقة  في بنيان العلمانية الفرنسية وجذورها، على مدى تاريخها، منذ ثورتها الشهيرة، في سنة  1789م.

ومع أن تلك الازمة طالت بعض ذوي الأصول الإسلامية ممن يعيش في فرنسا، في مختلف المجالات، لمجرّد مواقف محدودة لكنها تشي باشتباه في الانتماء إلى الإسلام، بأي معنى من المعاني؛ إلا أنه بدا لي في هذا السياق؛ التذكير بالمحنة التي تعرّض لها   منذ أواخر الثمانينات الميلادية من القرن المنصرم، الدكتور الراحل محمّد أركون، المستشرق  الفرنسي، ذو الأصل الجزائري، وبعض من أشار إليهم أركون ممن سبقه  من ذوي الأصول الإسلامية في فرنسا.

ولد محمد أركون بالجزائر سنة 1928م، من عائلة أمازيغية فقيرة وانتقل من بلدته الأصلية (تاوريرت ميمون) مع أبيه إلى قرية (عين الأربعاء) شرق وهران، حيث كان يمتلك والده متجراً صغيراً هنالك. وفي حديث أركون عن نفسه تحدّث عن أن تلك القرية التي انتقل إليها كانت غنية بالمستوطنين الفرنسيين، وأنه عاش فيها (صدمة ثقافية)، خاصة بعد أن درس فيها في (مدرسة الآباء البيض التبشيرية). وقارن أركون بين تلك المدرسة وجامعته الجزائرية فقال:” عند المقارنة بين تلك الدروس المحفِّزة في مدرسة الآباء البيض مع الجامعة فإن الجامعة تبدو كصحراء فكرية”. ومع أنه درس الأدب العربي والقانون والفلسفة والجغرافيا بجامعة الجزائر لكن المستشرق الفرنسي (لوي ماسينيون) أخذ بيده وتدخّل ليكمل دراسته بعد ذلك في جامعة السوربون في باريس، بدءاً منذ منتصف الخمسينات من القرن العشرين، حتى حصل على الدكتوراة في الفلسفة من الجامعة نفسها في سنة 1969م، ثم أصبح أستاذاً بتلك الجامعة بدءاً من سنة 1969م، قبل أن يدرّس في غيرها  خارج فرنسا مثل جامعات ليون وكاليفورنيا ونيويورك (2).

يتحدث عن نفسه وفكره في التربية والتعليم والأكاديمية والعلمانية   فيقول:

أنا عضو كامل في التعليم العام الفرنسي، منذ حوالي الثلاثين عاماً، وعلى هذا الصعيد فأنا مدرّس علماني، يمارس العلمنة في تعليمه ودروسه، وهذا يشكِّل بالنسبة لي نوعاً من الانتماء والممارسة اليومية في آنٍ معاً. أود أن أقول ذلك أمامكم منذ البداية، لأنه يمكن أن يعتقد بعضهم بأنه لا يمكنني أن أكون ضمن خط العلمنة بسبب انتمائي الإسلامي” (3).

وإذا علمنا أن حديث أركون آنف الذكر جاء  في سياق محاضرة له هي الثانية  في مركز توماس مور، في  فرنسا في سنة 1985م، حيث كان قدّم محاضرته الأولى عن الإسلام والعلمانية في سنة 1978م  في المركز ذاته، بحسب المترجم لأعمال أركون هاشم صالح (4)؛  فإن محمد أركون  يكون بذلك قد  قضى في فرنسا والغرب وخدمة الحضارة الغربية والفكر الاستشراقي  العلماني  المناقض لحضارته ودينه وثقافته الأصلية في جوانب عدّة حتى وفاته في 2010م  نحواً من نصف قرن بين دراسة وتدريس وخدمات  فكرية متعدّدة المظاهر والأطوار ، غير أن ذلك لم يشفع له لدى الغرب،  عند أول موقف  فُهِم منه أنه بدأ يختلف  فيه مع (مقدّس) العلمانية، بعد أن  كتب مقالة في صحيفة  (اللوموند )الفرنسية في 15مارس/آذار 1989م ، عقب حادثة سلمان رشدي الشهيرة وصدور كتاب الأخير (آيات شيطانية)،  إذ ورد  في تلك المقالة عبارة لأركون  هي  قوله:

“يبدو لي أن العلمانية قد أصبحت متجاوزة اليوم من الناحية الفكرية”.

المستشرق الراحل محمد أركون من تاريخ أزمة حرّية الرأي في فرنسا2 محنة المستشرق الراحل محمد أركون: من تاريخ أزمة حرّية الرأي في فرنسا

فأثارت مقولته تلك ضجّة كبرى تجاه الرجل  وفكره وأطاريحه ومراميه، لتنتهي بإدراجه ضمن “ناكري الجميل” ” متخلفي الفكر”، وبسيل من مفردات قاموس الشتائم العلمانية أو (العلمانوية) -بتعبير أركون- من مثل الرجعية والجهالة والتخلف والإسلاموية والأصولية، وهو ضرب من التكفير العلماني كذلك إن شئنا (المشاكلة)  البلاغية، أو التمييز العنصري شبه المباشر، بين مواطن فرنسي أصلي وآخر منح الجنسية الفرنسية ، فتنكّر لها بمثل هكذا رأي، إن تذكّرنا شعار  العلمانية الشهير (الوقوف من جميع المواطنين والفرقاء على مسافة واحدة)!

يؤكّد تلك النظرة العنصرية أكثر ما اعترف به أركون، بعد أن صرّح أن ما أصابه لم يكن خارجاً عن نظرة متجذِّرة في فرنسا تجاه أيّ فرد ينتمي إلى بيئة إسلامية، مهما قدّم من إثباتات وبراهين نظرية وعملية تثبت تخليه عن هويته ودينه ومجتمعه الأصلي وحضارة أمته، إذ هو في النهاية لايختلف عند كثير من الدوائر الرسمية السياسية والفكرية الغربية وأتباعها عن أي مسلم تقليدي أصولي متزمّت!

لنقرأ لأركون حديثه (التراجيدي) عن نفسه ونظرة الغرب الفرنسي – تحديداً – إليه، بل شكواه حتى من بعض زملائه (المستعربين)، بعد كل الذي قدّمه للغرب وأتباعه، على حساب تلك المبادئ والقيم في حضارة أمته الأصلية.

يقول أركون في مستهل إجابته على سؤال (فريتز بولكستاين) زعيم الحزب الليبرالي الهولندي في مطلع التسعينات (زمن إجراء الحوار/الكتاب) عن مقولته تلك:

” أما فيما يخص مقالة ” اللوموند” التي استشهدتَ ببعض مقاطعها فلها قصة تحكى، فقد كلفتني غالياً بعد نشرها، وانهالت عليّ أعنف الهجمات بسببها، ولم يفهمني الفرنسيون أبداً، أو قل الكثير منهم، ومن بينهم بعض زملائي المستعربين، على الرغم أنهم من أنهم يعرفون جيّداً كتاباتي ومواقفي. لقد أسأوا فهمي ونظروا إليّ شزراً، وشعرت بالنبذ والاستبعاد، إن لم أقل بالاضطهاد… ولكن عبارتي التي ذكرتها قطعت من سياقها العام وشوّه معناها، واستخدمت من أجل محاكمتي وتجريمي ونبذي من قبل بعض الجهات في الساحة الفرنسية. لقد نهضوا جميعاً ضدّ هذا المسلم الأصولي (!) الذي يسمح لنفسه أن يُعلن أنه أستاذ في السوربون ويا للفضيحة!! لقد تجاوزت حدودي أو حدود الدين المسموح به بالنسبة لأتباع الدين العلمانوي المتطرّف الذي يدعونه بالعلماني، ولكني لا أراه كذلك. وفي والوقت الذي دعوا إلى نبذي وعدم التسامح معي بأي شكل راحوا يدعون إلى التسامح مع سلمان رشدي!”

ويعقّب أركون على ذلك قائلاً: ” وهذا موقف نفساني شبه مرضي، أو رد فعل عنيف تقفه الثقافة الفرنسية في كل مرّة تجد نفسها في مواجهة أحد الأصوات المنحرفة لبعض أبناء مستعمراتها السابقة؟ إنها لا تحتمله، بل وتتهمه بالعقوق ونكران الجميل”.

ولا يكتم أركون أن تلك الهجمات العنيفة قد أشعرته بالنبذ والاستبعاد وربما الاضطهاد، فهاهوذا يقول:” وعشت لمدة أشهر طويلة بعد تلك الحادثة حالة المنبوذ، وهي تشبه الحالة التي يعيشها اليهود أو المسيحيون في أرض الإسلام ( ! ) عندما تطبق عليهم مكانة الذمي أو المحمي. فنلاحظ أن اكتساب الأجنبي للجنسية الفرنسية في فرنسا الجمهورية والعلمانية يلقي على كاهل المتجنس الجديد بواجبات ومسؤوليات ثقيلة… فالفرنسي ذو الأصل الأجنبي مطالب دائماً بتقديم أمارات الولاء والطاعة والعرفان بالجميل. باختصار، فإنه مشبوه باستمرار، وبخاصة إذا كان من أصل مسلم(5). “

وكي لا يُقال إن تلك حالة فردية للغرب الفرنسي – خصوصاً- فقد ذكّر أركون بحالات سابقة تؤكّد أن تلك منهجية الغرب العلماني الفرنسي مع كل من يختلف معه من غير أصوله التاريخية وعرقيته و خارج جغرافيته حتى وإن حصل على جنسية فرنسا وقدّم في سبيل مشروعها الاستعماري وهيمنتها كل غال ورخيص. يقول أركون:

“إني أقدّم هنا شهادة علنية على المعاناة التي عاشها قبلي أشخاص آخرون في عزّ الحرب الجزائرية بكل ألم وتمزّق (أشير بشكل خاص إلى ما حصل ” لجان امروش” )  وهذا أيضاً يشكّل أحد جوانب تلك القيمة المقدّسة  التي تُدعى في فرنسا بالعلمنة، ولكني أتساءل: أين هي القيمة العلمانية الكونية؟ هل هي موجودة لدى المضطهد الذي يجد فيها ملاذاً للدفاع عن نفسه ضدّ عدوان المغرورين المتسلطين، أم أنها موجودة لدى السيّد المهيمن الذي يحولها إلى أداة لاستعباد الآخرين واضطهادهم؟ ألا ينبغي أن تكون العلمنة في كل الأحوال لصالح المنبوذين المضطهدين؟ وما قيمتها إن لم تكن كذلك؟” (6).

ويذيل على ما سبق بقوله:” …هذا يعني أن عقل التنوير ذو وجه مزدوج: وجه تحرري ووجه سلطوي… كل هذا أصبح شائعاً ومعروفاً في البيئات الثقافية الطليعية في الغرب. ولكن عندما يتجرأ مثقف مسلم على أن يتبنى هو الأخر هذا النقد الفلسفي لعقل التنوير فإنه يثير فوراً الشبهات من حوله ويتهم بالأصولية، ومحاولة إحلال العقل الإسلامي المتزمت محلّه!! وكثيراً ما يُتاح لي أن أتحدث أمام الجمهور الأوروبي في فرنسا أو ألمانيا أو هولندا أو إنكلترا …إلخ وعندما أتطرق إلى دراسة التطور التاريخي للعقل في أوروبا من وجهة نظر نقدية فلا أحد  يهتم بكلامي. فقط بهمهم التركيز على الصورة الهوسية للإسلام باعتباره خطراً يهدّد الغرب وحضارته. ماعدا ذلك لايريدون أن يسمعوا شيئاً منّي. وهذا أكبر دليل على مدى نجاح وسائل الإعلام الكبرى في غسل عقول الجماهير أو التحكم بها وتوجيهها، كما أنه يدل على مدى فشل الباحثين العلميين في مقل نتائج بحوثهم وأفكارهم إلى الجمهور العريض”(7).

ولشدّة وقع ذلك الموقف على نفسية أركون وتأثيره الممتد في شخصيته فكان قد عبّر في سياق استهلاله للحوار مع (بولكستاين) عن تلك الأزمة المتمثلة في النظرة الدونية الفرنسية خاصة والغربية عامة إلى الآخر المسلم حتى المتخلي عن كل قيمه، المنخرط في سلك الحضارة الغربية وخدمة مشروعها الاستعماري، الذي لم يبق شيئاً أصيلاً من حضارته إلا تخلى عنه أو زيّفه لصالح ذلك المشروع، ومع ذلك فلايزال في نظر الغرب العلماني والفرنسي خاصة هو ذلك المسلم النمطي المتزمت المحارب لكل قيم الحداثة والعلمنة!!

يقول أركون:

“على الرغم من أني أحد الباحثين المسلمين المعتنقين للمنهج العلمي والنقد الراديكالي للظاهرة الدينية، إلا أنهم يستمرون في النظر إليّ وكأني مسلم تقليدي! فالمسلم في نظرهم –أي مسلم- شخص مرفوض ومرمي في دائرة عقائده الغريبة ودينه الخالص وجهاده المقدس وقمعه للمرأة وجهله بحقوق الإنسان وقيم الديموقراطية ومعارضته الأزلية والجوهرية للعلمنة… هذا هو المسلم ولا يمكنه أن يكون إلا هكذا!! والمثقف الموصوف بالمسلم يشار إليه دائماً بضمير الغائب: فهو الأجنبي المزعج الذي لا يمكن تمثله أو هضمه في المجتمعات الأوروبية لأنه يستعصي على كل تحديث أو حداثة…ومن هو هذا المفكِّر المسلم الذي يجرؤ أن يشمل بمشروعه النقدي عقل عصر الأنوار بنسختيه: أي عقل الحداثة وما بعد الحداثة؟ كيف للأوروبي أن يقبل ذلك من شخص مسلم؟  هذا شيء لا يحتمل ولا يُطاق. ذلك أنه لايمكن لشخص مصبوغ بصبغة الإسلام أن يتوصل إلى درجة الصرامة العلمية والموضوعية الفكرية والتحرّر من العقائد الدوغمائية الموروثة بحسب زعمهم. وحده المفكّر الأوروبي استطاع أن يتوصّل إلى ذلك تنظيراً وتطبيقاً. هذا ما أستخلصه بشكل ضمني أو صريح من خلال مناقشاتي العديدة مع الجمهور الأوروبي والأمريكي. ويعلم الله أني أخوض صراعات لاتحصى على جبهة الجامعات الأوروبية وكذلك على جبهة الملتقيات والندوات في برلين، أو بروكسل أو أكسفورد أو السوربون أو أمستردام أو برنستون أو هارفارد…إلخ كل ذلك من أجل شرح حقائق الإسلام بشكل تاريخي وموضوعي دقيق، ولكن العملية صعبة جدّاً. هذا أقل مايقال.

المستشرق الراحل محمد أركون من تاريخ أزمة حرّية الرأي في فرنسا5 محنة المستشرق الراحل محمد أركون: من تاريخ أزمة حرّية الرأي في فرنسا

فالإسلام معتبراً كغيرية شرعية أو كمقابل في الطرف الآخر، يقف على قدم المساواة، أو كطرف جدير بالحوار، أو كشريك للأوروبي. وإنما هو دائماً ذلك الشخص الغائب، المشار إليه بضمير الغائب، أي هو. إنه موضوع الكلام وليس ذاتاً متكلّمة. وأنّى له ذلك؟(8).

” …وإذا ما حاول باحث مسلم أن يحوِّل هذا الموضوع إلى ذات، إذا ما حاول أن يرتفع بنفسه من مرحلة الخضوع السلبي إلى مرحلة السيادة الذاتية، إذا ما حاول أن يصبح محاوراً حقيقياً وشخصاً مندمجاً في تيّارات الفكر الحديثة التي صاغت وجه أوروبا فإنهم يرفضونه بحجة أنه تبجيلي  يدافع عن دينه كالعادة، إنهم يطردونه إلى قريته “أو دواره الأصلي” كما كان يقول محافظو الإدارة الاستعمارية في الجزائر سابقاً، فقد كانوا بالفعل يطردون السكان ” المحليين” أي الجزائريين الأصليين، غير المرغوب فيهم في منطقة ما، أو محافظة معينة،  إلى مناطق أخرى نائية”(9).

ثم يعود ليتساءل مع ذاته: ” هل أمارس المماحكة الجدلية العقيمة إذ أقول هذا الكلام، أم أنني أعبّر عما يحدث بالفعل في أوروبا منذ أن أخذ العمال المهاجرون قد أخذوا يشكّلون فيها قوّة ملحوظة اجتماعياً وسياسياً وعلى كآفة الأصعدة والمستويات؟ هل أجانب الصواب إذ أقول ما أقوله؟ أليست الصورة التي قدّمتها تمثّل فكر الأوروبيين وممارساتهم تجاه الجاليات المغتربة والمتواجدة في فرنسا وألمانيا وإنكلترا وهولندا…إلخ(10).

وعلّق المفكّر السوري الراحل جورج طرابيشي (ت:2014م) على ذلك بالقول:

” إن محمد أركون، بعد نحو من عشرة كتب وربع قرن من النشاط الكتابي، قد فشل في المهمة الأساسية التي نذر نفسه لها”كوسيط بين الفكر الإسلامي والفكر الأوروبي”. فأركون لم يعجز فقط عن تغيير نظرة الغرب (الثابتة)، (اللامتغيرة) إلى الإسلام، وهي نظرة (من فوق) و(ذات طابع احتقاري)، بل هو قد عجز حتى عن تغيير نظرة الغربيين إليه هو نفسه كمثقف مسلم ( ! ) مضى إلى أبعد مدى يمكن المضي إليه بالنسبة إلى من هو في وضعه من المثقفين المسلمين في تبني المنهجية العلمية الغربية وفي تطبيقها على التراث الإسلامي”(11) . 

وأضاف طرابيشي: ” وبغض النظر عن أن هذه المقارنة الأخيرة –رغم جرأتها- لاتبدو في محلّها (فوضعية ” الذمِّي” تنتمي إلى مجال تاريخي وعقلي مغاير تماماً، ولا تقبل المقارنة أبداً مع وضعية ” المنبوذ” في مجتمع علماني حديث)؛ فإن تلك الحادثة كانت شديدة الإيلام لمحمد أركون إلى حد أنها حملته على الكلام عن العلاقة بين الغرب والإسلام على نحو ما يتكلم حسن حنفي مثلاً، أو حتى محمد عمارة”(12).

وأقول تعقيباً على تعليق الدكتور طرابيشي وبما لا يخرج الحديث الأساس عن مساره ودلالته  إن تهويل أركون وأكثر منه طرابيشي  لمفهوم الذمّي  في الإسلام، وكأنه سبّة وعار وتمييز اجتماعي  ينمّ عن ضعف في إدراك حقيقة المدلول والتطبيق الفعلي له لديهما، إذ إن تطبيق ذلك في العهدين النبوي والراشدي – بوجه أخصّ-   على نحو  ضمن كرامة غير المسلم يهودياً كان أم نصرانياً  ومن في حكمهما، بما لامزيد عليه، وقلّ أن تجد له نظيراً، في  الأنظمة السياسية في القديم والحديث،  إذ هو في ذمّة الله ورسوله، إلى الحدّ الذي جعل الإيذاء له إيذاء مباشراً للرسول الكريم  محمد – صلى الله عليه وسلم –  عبر وصيّة خاصة  بأقلية ذات خصوصية،  مظنّة أن تتعرض لاضطهاد أو مصادرة لحقوقها، في مجتمع تُعدّ مثل تلك المبادئ والقيم جديدة عليه (13).  ولئن كانت جملة (أهل الذمّة) مما تثير الحساسية عند البعض بدلاً من إدراك ذلك البُعد القيمي الكبير، حيث لهم ذمّة الله ورسوله لكونهم قلّة بين أغلبية؛ فيمكن استبدال ذلك بمصطلح المواطنة، وهو مالا يمثّل مشكلة من الناحية الشرعية والفعلية، بناء على قواعد  أصولية معتبرة حاصلها أن (العبرة بالدلالات والحقائق والمآلات وليست بالألفاظ والمباني والصور)(14).

مع التأكيد على أن صدمة محمد أركون الأكبر كانت نابعة من إدراكه مدى الجحود في مجتمع النخبة الفرنسية  النابع من التمييز بينه وبين غيره من المثقفين الفرنسيين، رغم كل ما قدّمه للثقافة الفرنسية والمجتمع العلماني هناك، على حساب دينه الأصلي وثقافته وحضارته العربية الإسلامية، كونه مواطناً مهاجراً أو غير أصلي؛ رغم ذلك  إلا أن هذا  وحده كفيل بكشف حقيقة مدى دقة شعار أن العلمانية تقف من جميع مواطنيها على مسافة واحدة، فها نحن رأينا هنا في  ثنايا شكوى أركون وتأوهاته ما يؤكّد أن ثمة استهدافاً لشخصه ، لكونه عنصراً غير فرنسي في الأساس!

بعد كل ما تقدّم لا محيد عن التأكيد كذلك أن حرّية التعبير  في فرنسا  لاتزال من المسائل النسبية جدّاً، الخاضعة لمعايير الأيديولوجيا والسياسة، وللوبيات معيّنة، ولا تسلم من تمييز بين  المواطنين، بحيث تدفعك مثل هذه الواقعة لتكتشف عملياً أن ثمّة  مواطنيين أصليين من (الدرجة الأولى)، كما أنّ ثمّة مواطنين من (الدرجة الثانية)، وهم الوافدون أو المهاجرون (المجنَّسون)،  أيّاً ما قدّموا لفرنسا وتخلّوا عن أصولهم وهوياتهم الأصلية، فإنهم يظلون  من (المجنّسين)، أو من (الدرجة الثانية) عملياً، عند الإقدام على موقف يتناقض مع (المقدّس ) العلماني!

الهوامش:

1- موقع قناة بي بي سي   عربي (مقطع فيديو) ، https://www.youtube.com/watch?v=GZUli2UQ07Y ، ملصق إعلاني للرئيس إيمانويل ماكرون يشبهه بهتلر يثير غضباً في فرنسا، 23/5/2023م (شوهد في 2/6/2023م).

2- موقع الجزيرة نت www.aljazeera.net/amp/encyclopedia/icons/2014/10/14،محمد أركون،23/10/2014م (شوهد في  5/11/2017م)، ويكيبيديا https://ar.mwikpedia.org/wiki، محمد أركون (شوهد في 5/11/2017م).

3- محمد أركون، العلمنة والدين: الإسلام المسيحية الغرب، ص 9, ( ترجمة هاشم صالح)،  1996، ط الثالثة، بيروت: دار الساقي.

4- راجع: أركون، العلمنة والدّين،  المرجع السابق، هاشم صالح (المترجم)، المقدّمة، ص 5.

5- محمد أركون، الإسلام، أوروبا، الغرب: رهانات المعنى وإرادات الهيمنة، ص 105-106، (ترجمة وإسهام هاشم صالح)، 2001م، بيروت: دار الساقي.

6- أركون، الإسلام وأوروبا والغرب، المرجع السابق، ص 106.

7- أركون، الإسلام وأوروبا، المرجع نفسه، ص 106.

8- أركون، الإسلام وأوروبا، نفسه، ص 45.

9- أركون، الإسلام وأوروبا، فسه، ص  46.

10- أركون، الإسلام وأوروبا، فسه، ص  46.

11- جورج طرابيشي، من النهضة إلى الردّة: تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة، ص 134،  2000م، ط الأولى، بيروت: دار الساقي.

12- جورج طرابيشي، من النهضة إلى الردّة، المرجع السابق، ص 135.

13- راجع: أحمد الدغشي، صورة الآخر في فلسفة التربية الإسلامية، 1425هـ- 2004م، ط الأولى، الرياض: وزارة التربية والتعليم. الفصل الرابع: فلسفة الجزية في التربية الإسلامية، الفصل الرابع: فلسفة الجزية في التربية الإسلامية.

14- راجع: الدغشي، صورة الاخر، المرجع السابق.

أ.د أحمد الدغشي

أ.د أحمد محمد الدغشي أستاذ الفكر التربوي الإسلامي بجامعتي صنعاء - اليمن وإغدر (الحكومية) التركية لديه 28 كتابًا منشورًا، وكتب أخرى تنتظر النشر. -حاصل على جائزة رئيس الجمهورية التشجيعية للبحث العلمي في 2009م. -شارك في عدة فعاليات وأنشطة فكرية وتربوية في العالم العربي وفي أوروبا وأمريكا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى