فكر

مراتب الخطاب الديني.. ثبات القيم ومرونة التشريعات(2-3)

محمد يحيى عزان

مجالات وأغراض النص الديني

بالعودة إلى تحليل النص الديني الذي يمكن نسبته إلى الله من خلال الوحي الذي أنزل على الرسل أو من خلال ما ورد عن الرسل مما يُعد تفسيراً منهم للرسالة التي أرسل بها كل منهم وتأمل المجالات التي يعمل في ساحتها، فإننا سنجده يأتي – في الجُملة – لأحد غرضين:

الغرض الأول: إبراز الأفكار الأساسية والقيم المبدئية

ويتم ذلك بتقديم الأفكار الأساسية والقيم المبدئية ذاتها، بالوصف والشرح وبيان الغاية، وذلك كتوحيد الخالق وافراده بالعبادة، وبيان الغاية من الخلق، وتسيير الكون، وحفظ الحياة، وصيانة الحقوق، والأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى والمساكين، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، والحث على الالتزام بالقيم الأساسية، والتأكيد على أنها مقصد من مقاصد الدين وأنها تنطلق من عمق الفطرة التي فطر الله الناس عليها.

وهذا مرتبط بما قررنا سابقاً أنه «الدين المضاف إلى الله»، وأكّدنا على أنه كليات وثوابت صالحة لكل زمان ومكان، وأنه مستساغ في مختلف الملل؛ لأن فطرة الإنسان من حيث هو إنسان تتقبله ولا ترفضه.

وفي هذا الصدد خاطب القرآن الكريم الإنسان بقوله:

  • ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ٢١ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ٢٢﴾ [البقرة: 21-22]
  • ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ١٦٨ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ١٦٩﴾ [البقرة: 168-169]
  • ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ١٣﴾ [الحجرات: 13]

وآيات كثيرة تتحدث عن القيم الكبرى في الحياة، كالصدق، والأمانة، والوفاء بالعقود، والإنفاق، ورعاية المساكين، والإحسان إلى الغير، وحفظ الدماء والحقوق، والعودة على التعلم، والتسامح والتعاون والتصدي للظلم والمنكر، وتحقيق العدل وتوفير الأمن وعمارة الأرض والحفاظ على البيئة وبذل الجهد والعطاء في سبيل الحق وما ينفع الناس.

الغرض الثاني: بيان التشريعات والتطبيقات العَمَلية

ويتم ذلك ببيان كيفيات العمل التطبيقي لتحقيق القيمة، كإجراءات التوثيق والمعاملات لحفظ الحقوق، والأمر بالتَّفكر والنّظر والسؤال للحصول على المعرفة، وتشريع القوانين التي تكون مرجعية لما يحقق العدالة، وتشريع طقوس عبادية للتعبير عن الإيمان بالإله الواحد، إضافة إلى الإذن بتشريع بعض العقوبات لتحقيق العدالة وردع التجاوزات، وما شابه ذلك من الإجراءات العَمَلية التطبيقية، التي ليست مقصودة في ذاتها، ولكنها تُقدَّم كخيار أمثل لتحقيق الغاية والهدف من القِيمة الحاضرة في أصل الفكرة الأساسية.

وبالتالي فليست كيفيات العمل مُقَدسة بعينها أو مقصودة بذاتها، ولكنها شكل من أشكال التطبيق التي تختلف صلاحيتها وجدواها من زمان إلى زمان ومن شخص لآخر ومن وضع لسواه.

ومن أمثلة ذلك:

  • فيما يتعلق بحفظ الحقوق، كالكتابة عند المُدَايَنة أو الشهادة أو الرهن أو حتى مجرد الثّقة، أو أي شيء تتحقق به الغاية، وفي ذلك جاء في القرآن الكريم:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ٢٨٢ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ٢٨٣﴾ [البقرة: 282-283]

فهذا النص يدل على أن المقصود من التشريعات المذكورة في الآية حفظ الحقوق، وأن البدائل المذكورة – من المكاتبة إلى الرهن إلى الشهود وعددهم وأنواعهم – ليست مقصودة في ذاتها، وإنما هي كيفيات لطريقة حفظ الحقوق، وبالتالي لا مانع من تغييرها وتطويرها وتبديلها حسب الظروف والمتغيرات، المهم أن تكون دقيقة بما يكفي في تحقيق الغرض الذي شُرعت من أجله.

وهذا ما جعل الفقهاء يعتمدون شهادة المرأة وحدها في بعض الأمور، كشهادتها في الحوادث الفجائية، أو في الحالات التي إن لم تؤخذ بشهادتها ضاعت الحقوق، وكذلك يؤخذ بشهادتها دون الرجل في الحوادث التي لا تشهَدُها إلا النساء.

وكذلك دلَّ القرآن على قَبول شهادة اثنين من الكفَّار على وصية المسلم الذي يدركه الموت فيوصي فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ﴾ [المائدة: 106] لأن المقصود حفظ الحقوق بأي وسيلة متاحة.

  • في تحقيق الغاية من تشريع الحدود بإنفاذها أو إيقافها، جاء في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ١٧٨﴾ [البقرة: 178]

فبيّن أن المقصود التخفيف من استشراء جريمة القتل وتحقيق العدالة عند وقوعها، وجبر الخواطر بالقصاص أو الدية أو العفو، وبأي تلك الوسائل تحقق الغرض فهو المراد.

وبموجب هذا نُقدّر أنه يجوز العدول إلى العمل بما قد يظهر في حياة الناس من وسائل وأحكام تُحقق الغرض المقصود، وإن لم يرد فيه نص على وجه الخصوص إذ يكفي النص على أصل القيمة المراد تحقيقها، وكل وسيلة لتحقيق ذلك فهي مشروعة ما لم يترتب عليها مفسدة محققة مثلها أو أكبر منها.

  • ومن ذلك أنه يجوز تشريع قوانين منظمة لكيفية إجراء العقود وعقد الصفقات التي تتم اليوم «عن بُعد» ودون معرفة طرفي العقد لبعضهما ودون معرفة تفصيلية للمعقود عليه، إذ المهم اتخاذا التدابير اللازمة لكيفية حفظ الحقوق والحيلولة دون الدخول في نزاعات وخصومات نتيجة الغبن أو الغرر والخديعة. ولذلك جاء في القرآن: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا٢٩﴾ [النساء: 29]

وهذا النوع من الخطاب المتعلق بالتشريعات والإرشاد إلى التطبيقات التي تقتضي طبيعة الظروف التي يمر بها الإنسان، هو الغالب على ما تتميز به الملل الدينية عن بعضها، نظراً لاختلاف الظروف الموضوعية لكل منها.

مستويات تحديث التشريع الديني

حينما نلقي نظرة سريعة على النشاط العملي لمختلف فقهاء الشرائع ورجال الدين في مختلف الأديان فإننا نجدهم يمارسون – عملياً – نظرية التجديد الديني سواء منهم من يعارض دعوات التجديد أو من ينادي بها، وللجميع في ذلك مستويات ثلاثة:

المستوى المتقدم:

وهو الذي لا يمانع من التجديد (بمعنى تشريع أحكام جديدة لأحوال وردت نصوص في الحكم فيها) وإن كان النص ديني في الكتاب أو عن النبي المرسل، ما دام ذلك النص وارداً في بيان صورة من صور التطبيق العملي لتحقيق غاية مّا؛ لأن هذا المستوى يرى أن ذلك النوع من النصوص جاء للكشف عن كيفية إجرائية عَمَلية تنفيذية غير مقصودة في ذاتها، وإنما لتحقيق غاية مرتبطة «بدين الله»، وبالتالي لن يكون هنالك تبديل في الدين ذاته؛ حينما نغير الطريقة والأسلوب والآلية التي يمكن الوصول إليه من خلالها.

ومن أمثلة ذلك: القول بأن حد القطع في السرقة المنصوص عليه في القرآن بـ ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ٣٨﴾ [المائدة: 38]. إنما جاء بغرض الرَّدع عن ممارسة ذلك السلوك المقلق لحياة المجتمع، فإذا تحقق الغرض بأي عقوبة أخرى كالسجن والتّغريم ففيه الكفاية؛ إذ ليس من مقاصد دين الله أن يعرّض الناس للإعاقة والتشوه مع إمكانية تلافيها.

وكذلك القول في حق المالك في توزيع أملاكه على من يريد من الأقارب والأباعد وبالمقادير التي يراها مناسبة، ما دام يراعي في ذلك القيم الكبرى كالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى واليتامى والمساكين. فإن لم يفعل حتى توفي فإنه يجرى في أملاكه ما هو مقرر في شأن المواريث، كلّ حسب ملته، أو القوانين التي يرتضيها الأطراف المعنية.

وهكذا يكون الأمر في المسائل الأخرى المشابهة، على أن يظل الحكم الأول قائماً ولا يتعرض للإلغاء، ويمكن إعادة بعودة ظروفه أو وجود ما يشبهها.

المستوى المتأخر:

وهو الذي لا يسمح بمخالفة أي شكل من أشكال التطبيقات التي ورد فيها نص، ولا يفرّق في الإلزامية بينما ورد في القرآن وما ورد في الروايات عن النبي مما يراه صحيحاً، ولا يميز بينما شرع لذاته أو أنه مجرد وسيلة لتحقيق غرض، فيقف مثلاً عند القول بأن الزكاة إنما تجب في الذهب والفضة والسوائم الثلاث ومكيلات الطعام، بناء على ما ورد في الروايات الواردة في ذلك، حتى أنه صدر تعميم عن الخليفة عمر بن عبد العزيز لعماله جاء فيه: «إنما الصدقة في الحرث، والعين، والماشية»([1]). وهذا إن ظل اليوم مُستمسك التشريع فإنه يقضي أن أنواع الاستثمارات التي تبلغ بالمليارات لا زكاة فيها ما لم تكن من تلك الأصناف!

وكذلك لا يجيز أي شكل من أشكال العقود ما لم تتضمن الشروط التقليدية التي وردت بها النصوص مثل: الإيجاب والقبول بصيغة معينة، والتسليم وتملّك العين، ومعرفة طرفي العقد كلٌ منها للآخر، وتسليم الأثمان المعلومة المقبوضة، الى آخر تلك الإجراءات المتداولة في كتب الفقه الإسلامي، لدى مختلف المذاهب.

والمتمسكون بهذا المستوى من التعامل مع النص يضطرون للعمل بالتجديد ولكن بطريق أخرى.

أولاً: لا يتعاملون مع النص إلا بواسطتين، الأولى: نقل الغير للأخبار عن المشرع، وذلك لا يفيد سوى الظن مهما بلغ من وثاقة راويه. الثانية: فهم الغيرِ الغيرُ معصوم وإن كان ممن يحترمهم من أسلافه ومحل قدوته، فحُفَّاظ الرواية وفقهاء المذاهب وأئمة النّظر هم واسطة بين اللاحق والسابق وقد استوعبوا النص الديني حسب قدراتهم العقلية، وتأثير بيئتهم المعرفية، ومدى تصوراتهم للمفاهيم الدينية، وذلك تكليفهم الشرعي إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولكنه في الحقيقة غير مُلزم لسواهم، إذ لا يمكن لأحد منهم أن يجزم بأن ما توصل إليه هو نفسه مراد الله في كل زمان ومكان.

ثانياً: يعملون بما خلص إليه من يثقون به من أئمتهم وأسلافهم بحجة أنهم يعتمدون في ذلك على الاستيحاء من النصوص الموجودة، وذلك عين ما يفعل غيرهم، وإنما الفرق بين هذا وذلك أن الأول يتمسك بدلالات النصوص العامة التي تنص على القِيَم المبدئية وتتجه لتحقيق مقاصد معلومة، بينما الثاني يضطر إلى تكلف إيجاد نصوص تفصيلية أو تطويعها قسراً لتدل على ما يريد.

المستوى المتوسط:

وهو الذي ينطلق من النص الثابت «ذاته» للعبور نحو فهم جديد وتشريع جديد، ولكنه يُفرق بين نصوص القرآن المنقولة بألفاظها، ونصوص الحديث الصحيح المنقولة بمعانيها، فلا هو ترك النّص وأهمله واستغنى عنه، ولا هو تقيّد بفهم السابقين له؛ بل رأى أنما ورد فيه من تشريع تطبيقي «غير قاطع» ترك له فسحة لقراءته أكثر من قراءة، وذلك لم يكن اعتباطاً، وكلاً بتدبير إلهي ليخفف على الخلف وحتى لا يصيب الجمود حركة الحياة بالشلل. هذا من جهة ومن جهة أخرى ينطلق من أن النّص الدّيني ذاته سَمَح باستبدال التَّشريعات التّطبيقية إن تغيرت ظروفها ولم تعد ذات جدوى، إذ الغرض بقاء القيمة وليس كيفية التعبير عنها.

وهذا المنهج نجده قد طُبق فيما يعرف بـ«النّسخ» سواء بين الشرائع المختلفة أو داخل الملة الواحدة، وكذلك فيما يوصف بالتشريع التدريجي.

المستوى التقليدي:

ونعني به السلوك المتَّبع لدى سائر فقهاء المدارس الدينية، والمتمثل في انتاج التشريعات المواكِبة لمستجدات الحياة، أو تبديل مُنْتَهي الصلاحية منها، أو تطويع بعضها بحيث تعمل في حال دون حال وفي مكان دون آخر.

ويتعامل هذا المستوى مع النص كما يتعامل معه المستوى المتقدم، ولكن بنعومة تمّ ترويض الجمهور المُستَنْفر لقدسية النص عليها، لذلك نجدهم يلغون بعض النصوص باسم «النّسخ»، ويعطلون أخرى باسم «التخصيص» ويوجّهون ما يشاؤون منها باسم «التقييد» و«البيان». حتى لقد بلغت النصوص المعطلة باسم النسخ أكثر من مئة آية بآية واحدة، وفي ذلك قال الشيخ ابن سلامة المقري: آيَة السَّيْف نسخت من الْقُرْآن مائَة وأربعا وَعشْرين آيَة([2]).

وفي جميع المدارس الفقهية نجد عشرات؛ بل مئات المسائل التشريعية الجديدة التي أنتجتها متطلبات الحياة وفرضتها متغيرات النمو العقلي والتطور المعرفي لدى الإنسان، والتي لا مستند لها سوى مرجعية الإطار العام الذي أتى النّص ليحقق غاياته. وهنا تظهر الحكمة من السكوت عن بعض الأحكام أو التعميم فيها، فمصدر التشريعات الأول الذي هو الله خالق الكون والحياة يعلم ما ستؤول إليه الأمور من التطور.

والتساؤل المُلحّ هنا هو: كيف تسنى للفقهاء السابقين أن يفعلوا كل ذلك مع النص الديني، ويعتبرهم الأتباع أئمة عظماء، بينما يُتهم ويُدان كل من يحاول التجديد في المنهج التشريعي وتحديث التطبيقات التقليدية التي جاءت لتلبي مجتمعات قبل ألف عام؟! على الرغم من أن وسائل المعرفة ومناهج التوثيق والكشف باتت اليوم أكثر دقة وأوفر حضوراً في شتى المجالات، ابتداء من الحقائق الطبيعية، ومروراً بأصول علم الاجتماع، وانتهاء بأدق دقائق عِلم النّفس والبرمجة العصبية والتشريح.

الهوامش

  1. موطأ الإمام مالك بن أنس (رقم: 834).
  2. الناسخ والمنسوخ، لهبة الله بن سلامة بن نصر بن علي البغدادي المقري (المتوفى: 410هـ) تحقيق: زهير الشاويش ومحمد كنعان، الناشر: المكتب الإسلامي – بيروت، الطبعة: الأولى، 1404 هـ ص 98 ـ 99:

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى