يعدُّ تدوين التَّاريخ علمًا مِن العلوم المهمَّة في حياة المجتمعات، إذ هو السِّجل الحافظ لماضيها بكلِّ ما فيه مِن أحداث ومجريات وشخوص وتفاصيل. فهو ذاكرة الأجيال المتوارثة، القادرة على الرَّبط بينها في نسق وجودي متَّحد، وسيرورة تجسديَّة متجدِّدة. وأيُّ تزوير في سجلات التَّاريخ يقتضي العبث في وعي المجتمع، والمخاطرة بحاضره ومستقبله. لهذا كان لا بُدَّ مِن منهج علمي لتدوينه، ومنهج علمي لتحقيق مدوَّناته، ومنهج علمي لنقد مرويَّاته، ومنهج علمي لتحليلها وتفسيرها.
ونظرًا لإدراك المسلمين بأهميَّة كتابة التَّاريخ بادر عدد مِنهم في كتابة السِّيرة النَّبوية، وتاريخ العرب قبل الإسلام، وتاريخ المسلمين بعد عهد النُّبوَّة، وتاريخ الأمم الأخرى. وقد اعتمدوا في كلِّ محور مِن محاور هذا التَّاريخ أسلوبًا مغايرًا، ومنهجًا مختلفًا، في الرَّصد والجمع والتَّدوين، فقد كانوا نقلة لما سمعوا به وشاهدوه، وحرصوا على الإسناد في أعزِّ مراحل التَّاريخ الإسلامي، واعتمدوا في حقب التَّاريخ الأخرى على المشتهر، أو على جمع المرويَّات المتعدِّدة رغم اختلافها، أو على النَّقل عن كتب الأمم الأخرى ودواوينهم والإسناد لها. فتعدَّدت كتب التَّاريخ، وتنوَّعت مسالك تدوينها، وأصبحت صنعة علميَّة توضع لها القواعد والأصول والمناهج والمعايير.
في موازاة المنشغلين بعلم التَّاريخ كان هناك القُصَّاص، وهم أناس اشتغلوا بصياغة أحداث مِن التَّاريخ بلغة أدبية تشدُّ الجمهور إليها، لكنَّها لا تعتمد على الحقائق بل على الأخيلة والخرافة، والتَّزوير أو المبالغة، استجابة لرغبات الجمهور أو خدمة لذوي السُّلطان والمال. وفي حين كان يبذل المؤرِّخون جهدًا كبيرًا في أعمالهم، قراءة وبحثًا وتدقيقًا وتحقيقًا، كان العامَّة يعزفون عن نتاج تلك الجهود، وكان الجمهور الأعمُّ ينصرف إلى مجالس القصَّاص ليمتِّع نفسه بالرِّوايات المحبوكة والحكايات المسبوكة، التي تلبِّي احتياجاته الوجدانية والعاطفية. لقد كان القصَّاص أشهر مِن المؤرِّخين، وكان مدخولهم مِن مجالسهم تلك، والتي لا تكلِّفهم سوى خيال واسع ولغة أدبية جذَّابة، أضعاف أضعاف مدخول المؤرِّخين الذين يعرضون الوقائع والحقائق كما هي دون خيال أو تزوير أو تحريف.
ولا يزال الرِّوائيون (القصَّاص) -اليوم- يقومون بذات الدُّور، فقدرتهم الرِّوائية وتمكُّنهم الأدبي والبلاغي يتيح لهم نسج قصص التَّاريخ بحبكة جديدة، ومختلفة، تمكِّنهم مِن تغيير الوقائع والحقائق بشكل جذري، حدَّ الانقلاب عليها، وعكس مسارها! وفي الحديث الشَّريف: (إنَّ مِن البيان لسحرًا)، رواه البخاري، فقدرة الرِّوائي على إعادة صياغة الأحداث، ورسم ملامح الشَّخصيَّات، وإشباع الفراغات بالخيال، كقدرة السَّاحر على إظهار الحبال في هيئة أفاع تسعى. وإذا كان السَّاحر يسترهب العيون فإنَّ الرِّوائي يسترهب الأسماع والوعي. هذه الخطورة للُّغة والبيان أشار إليها الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو يقول: (إِنَّمَا أَنَا بشَرٌ، وإِنَّكُم تَختَصِمُونَ إليَّ، ولعلَّ بَعضَكُم أَن يَكُونَ أَلحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بَعضٍ، فأَقضِي لَهُ بِنحوِ مَا أَسمَعُ، فمَن قَضَيتُ لَهُ بحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقطَعُ لَهُ قِطعَةً مِنَ النَّارِ)، مُتَّفق عليه.
إنَّ الرِّوائي قادر على أن يذهب في تزوير التَّاريخ وتحريفه بعيدًا، خاصَّة في ظلِّ عدم تمكُّن النَّاس أو عدم رغبتهم في طلب العلم، وقراءة مدوِّنات التَّاريخ، وبذل الجهد للبحث واستماع آراء العلماء المحقِّقين والنَّاقدين فيها. خاصَّة وأنَّ الرِّوائي لا يخاطب العقل بقدر ما يخاطب العاطفة، فهو يضع لمساته الفنيَّة في القصص التي ينتقيها، وربَّما أعاد تنظيمها، أو قراءتها، بشكل مغاير دون أن يُشعر المتلقِّي. وما جرى مِن تزوير لتاريخ العديد مِن الشَّخصيات في الغرب أو الشَّرق، وتحويلهم إلى أبطال أو إلى مجرمين، ثمَّ تجسيد تلك الرِّوايات في أفلام سينمائية فائقة الجودة، سوى ترجمة لنجاح هذه الصِّنعة وقابلية النَّاس لها، لأنَّ النَّاس عادة تميل إلى تصديق ما ترغب في تصديقه.
وذائقة النَّاس ورغباتهم يكشفها إقبالهم أو إعراضهم، فكلَّما شعر القاصُّ أو الرِّوائي بإقبال النَّاس أوغل في إرضاء مشاعرهم وإمتاع ذائقتهم، وكلَّما شعر بإدبار النَّاس عاد لينتقي لهم قصصًا جديدة تلائم رغباتهم وأهواءهم. وإذا كان الإنسان بطبعه يحبُّ القصص، فإنَّه يكون مأسورًا عادة لتلك القصص المبالغ فيها، إذ أنَّها تلفت انتباهه، وترسخ في ذهنه، لهذا كانت معظم المجتمعات حاملة لقصص الخرافات والأساطير، أكثر مِنها حاملة للوقائع والحقائق التَّاريخية. وسواء كانت تلك القصص المبالغ فيها على سبيل المدح المطلق أو الذَّم المطلق.
وإذا كان مذهب الشِّيعة قد اتَّخذ مِن الخرافة والكذب والتَّزوير شعارًا ودثارًا لخلق صورة مقدَّسة للصَّحابي الجليل، علي ابن أبي طالب، رضي الله عنه، حتَّى أصبحت هذه الصُّورة تروج عند عامَّتهم، وتطغى على أبنائهم جيلًا بعد جيل، فإنَّ البعض توجَّه لمحاكاة هذا الأنموذج، ولكن في الاتِّجاه المعاكس، محاولًا خلق صورة مدنَّسة لهذا الصَّحابي، كردِّ فعل على هذا النَّهج الشِّيعي الباطل.
وما يتناوله بعض هؤلاء، مِن الأدباء الرِّوائيين، بشأن الصَّحابي الجليل، علي ابن أبي طالب، رضي الله عنه، هو مِن قبيل الرِّوايات المصطنعة، والمستمدَّة مِن التَّاريخ، لكنَّهم هنا لا يعمدون إلى التَّحقُّق مِن الرِّوايات وتوثيقها، ونقدها وتفسيرها في سياقاتها الظَّرفية، وإنَّما يعمدون إلى عدَّة تكتيكات تخدم فكرتهم في صياغة شخصية “عليٍّ” المدنَّسة، ومِن ذلك:
تضعيف بعض الرِّوايات الثَّابتة والصَّحيحة.
تصحيح بعض الرِّوايات الضعيفة أو المكذوبة.
إخفاء بعض المرويَّات.
إيراد بعض المرويَّات دون نقدها.
تغيير مسار الوقائع وإعادة ترتيبها بنسق مختلف.
سدُّ الثَّغرات التَّاريخية بقدرة خيالية فائقة.
صياغة العبارة بكلِّ احترافية بما يدغدغ عواطف القرَّاء.
استخدام تقنيَّة المرآة فما يحسب باتِّجاه اليمين يعدُّ يسارًا والعكس، أي أنَّ الفضائل تتحوَّل إلى مثالب.
ثمَّ هم بعد هذا يشكِّكون في مروِّيات الآخرين، وتفسيراتهم، وأفهامهم، متَّهمون إيَّاهم بما يطعن في أمانتهم وصدقهم، أو في وعيهم وعقولهم، وممارسون الإرهاب الفكري على مخالفيهم، أو إسقاطهم مِن حلبة المواجهة معهم.
ويركن هؤلاء إلى أنَّ معظم متابعيهم لن يكلِّفوا أنفسهم البحث والتَّنقيب والتَّدقيق خلف ما يقولونه ويسردونه، لأنَّهم يعلمون أنَّهم يقدِّمون لهم: “ما يطلبه المستمعون”، وعليه فهم يرغبون بالأساس لسماع ما يروونه لهم، وإن كان باطلًا في أصله. وعدا عن ذلك، فما عاد لكثير مِن النَّاس همَّة في البحث والتَّدقيق سوى التَّلقُّف عن أفضل متحدِّث وأبلغ متكلِّم!
إنَّ عمل المحقِّق والمدقِّق كدور النِّيابة العامة والبحث الجنائي، في الوصول إلى حقائق الجريمة، مرهق ومتعب، لكنَّه موصل للحقيقة بأدلة أكثر قطعية. أمَّا مهمَّة شاهد الزُّور فسهلة، وتقوم على أن يصوغ روايته وسرديَّته الخاصَّة للجريمة، خلافًا للحقيقة، فيجعل مِن البريء متَّهمًا، ومِن المجرم بطلًا، لمجرَّد أنه يمتلك الخيال الخصب، والقدرة على إعادة ترتيب وقراءة الأحداث وتفسيرها بما يخدم سرديَّته الخاصَّة للوقائع.
وأخطر شيء في استسلام المجتمع للقصَّاص والرِّوائيين هو قابليته للاستغفال مرَّات عدَّة، طالما وأنَّه يعتمد العاطفة والذَّائقة والهوى محدِّدات لمـَن يصغي إليهم ويأخذ عنهم تاريخه وماضيه. وفي مجتمع يمجِّد القصَّاص والرُّوائيين يتراجع دور المؤرِّخين والمختصِّين في التَّاريخ، لهذا لا تتعجَّب مِن إقبال معظم النَّاس على اقتناء كتب الرِّوايات وإعراضهم عن اقتناء كتب التَّاريخ؛ فقالب الرِّواية مستساغ، وسهل، وممتع، وهو ما يدفع الكثير للإقبال عليها، أمَّا كتب التَّاريخ فهي ضخمة، وجافَّة، ومتعبة، ولا تروق إلَّا لذوي الاختصاص والباحثين.
وتوجُّه الرِّوائي والقاص إلى الرِّوايات التَّاريخية لا يجعل مِنه بالضَّرورة مؤرِّخًا، وناقدًا في التَّاريخ، بل يبقيه في دائرته الأدبية راويًا وناقدًا إذا كان أهلًا لذلك. كما أنَّ إلمام المؤرِّخ بكتب الطِّب لا يجعل مِنه طبيبًا، فضلًا عن أن يكون جرَّاحًا متمكِّنًا. فهذا شيء وذاك شيء، وعندما تذوب المميِّزات بين التَّخصُّصات ويتجرَّأ كلُّ شخص على اقتحام ما لا يعلم ولا يحسن تصبح الفوضى هي الحاكم للحياة، والتَّخبُّط هو السِّمة البارزة فيها.
ختامًا، يتَّفق المؤرِّخون على أنَّ الرِّوايات الأدبية التَّاريخية لا تعدُّ وثيقة تاريخية وإن تضمَّنت شيئًا مِن التَّاريخ لحبك أو إتقان الصِّنعة، وأنَّ الوثيقة التَّاريخية لها شأن أكبر وأهم وأبلغ. ولهذا تحافظ المجتمعات المتحضِّرة على كتب التَّاريخ بعيدًا عن عبث العابثين، مهما أغرقت الرِّوايات سوق التَّداول. يقول “جورج أويل”، صاحب رواية “1984”: “مَن يتحكَّم في الماضي يستطيع التَّحكُّم في المستقبل؛ ومَن يتحكَّم في الوقت الحالي يستطيع التَّحكُّم في الماضي”.
مقالة رائعة جدا ..شكر الله للأخ الأستاذ أنور الخضري والشكر موصول للمجلة وأسرتها