كلمة عامة عن الكتاب
الكتاب من كتب السِّيرة الغيرية لرجلٍ بأمَّة، مهَّدَ الله به سبيلًا لإحياء نهضة بعد موات، وإيقاظ عقول بعد سبات، وهيأ به استقبال أجيال من المفكرين، وأجيال من العلماء، تتلوها أجيال، لتشرق بهم شمس النَّهضة من مصر إلى ربوع الأمة العربية، د. حسين فوزي النجار سطَّرَ رحلة كفاح “أبو العزم”(1) ، رفاعة الطهطاوي؛ فلا نكاد نذكر فتيل النهضة العربية إلا ونتمثل رفاعة الطهطاوي رائد النهضة، وصاحب الغرس الأول الذي أثمر وأورق، وآتى أكله في مصر وديار الإسلام بأحيائها وأقطارها.
الكتاب يحوي تقديمًا، ومقدمة، وثمانية فصول: يتناول الكتاب صورة وافية عن أحوال مصر بعد الحملة الفرنسية، في تقديم عن الطهطاوي الذي يعد من الخالدين، نرى كلية الألسن؛ فنذكر الفكرة الأولى “مدرسة الألسن” التي انبثقت من جهد الطهطاوي، وقلم الترجمة الذي نلمح آثاره في كل علم من العلوم؛ فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحقُّ بها، صنع المسلمون الأُول حركة ترجمة موسعة في كل المجالات سادوا بها الأمم وقادوا بها ركب الحضارة، أحيا الطهطاوي حركة الترجمة في مصر، وحاول إحياء سنة الحضارة في اقتباس الحكمة، وتذليل فنون الترجمة إلى طلاب العلم.
ثمَّ تناول الكتاب مقدمة نرى فيها صورة لأحوال مصر قبل الحملة الفرنسية والحفنة الأخيرة من الذبالة التي تضيء من علوم العرب، الشَّيخ حسن الجبرتي وقليل معه، وصورة من حكم العثمانيين، وركام ظلمات بعضه فوق بعض بسبب إهمال العلم وسيادة الفقر في مصر، وانشغال العالم الإسلامي بغارات الصليبين والمغول، وسطوع الجهل والخرافة، وهبوط الهمم وخبوت العقول، إلى أن صفع المسلمون صفعة قوية كشفت عن الفجوة العظمى بين الشَّرق والغرب، وأماطت اللثام عن العماية التي يحيا بها الشرق.
بمجيء الحملة الفرنسية، أفاق الشَّرق من بُلَهْنِيَة العيش في الظلمات، كما قال المتنبي:
تصفو الحياة لجاهل أو غافل
عما مضى فيها وما يتوقع
إذ قنعوا من العيش بكفاف، ورضوا من الحياة بالإقصاء، وبمجيء الحملة الفرنسية برزت شخصية الشعب المصري المهمَّش لأول مرة، حين حملوا على عاتقهم الكفاح لطرد الفرنسيين. الكتاب يتناول صورة واضحة عن الظروف التي واتت محمد علي ليتولى حكم مصر، ومن بعد ذلك يستبد، ويحقق طموحه في منافسة السلطان العثماني، وكيف أنه أقام بناء في فراغ لم يلبث أن تحطم بعد وفاته، إذ لم يقم هذا البناء بسواعد المصريين، ولم يقم على إحساسهم بالمشاركة والمسئولية، ولم يكن لهم فيه حمل بعير.
أبت النهضة الفكرية إلا أن تسفر عن نفسها برفاعة الطهطاوي في شيء من التحفظ من أيام محمد علي حتى أثمرت وأينعت في عهد إسماعيل، وكيف أن رفاعة جمع بين امتداد الموجة الغربية إلى الشرق، وظاهرة اليقظة الإسلامية.
الفصول التي تناولها الكتاب
يتناول الكتاب ثمانية فصول؛ الفصل الأول: الموجة الغربية، يتحدث عن الموجة الغربية التي ظلت تنوش البلاد الإسلامية بالعدوان، فحالت بين الأمة والتقدم والنهوض، فتحدث عن عدوان فرنسا على الجزائر، وفرض بريطانيا سيطرتها على إمارات الخليج والجزيرة العربية، واحتلال عدن، ووطأة الضغط العثماني مع الجهل والعقول الخاوية، وكيف أن الموجة الغربية نبهت العرب إلى تخلفهم عن ركب الحضارة وكيف أن العلم سلاح القوة.
الفصل الثاني: شرق وغرب، يتناول الفصل رفاعة الطهطاوي بين الشرق والغرب، وآراء المستشرقين في رفاعة: ذكائه، ومصابرته وجهده، وتعهد شيخه له، الشيخ حسن العطار الذي رأى مخايل الهمة في تلميذه وزكاه حتى سافر فرنسا، فرأى منها الطهطاوي ما أثار حسرته على خلو ديار الإسلام من العلوم والصنائع والفنون، فكانت الغصة التي حملها في قلبه.
وكيف أنه ظل يحث بني قومه على العلم، ولم يفقد إيمانه بالشرق، ولم يتنكر لعروبته، فهو عربي الوجه واليد واللسان، ويعلم أننا تقدمنا يوم تقدمنا بالعلم، وكان لنا السبق به، وحين كانت ديار الإسلام يملؤها العلماء في مجال.
ويتناول الفصل وعي رفاعة بأسباب النهضة، وسلوك سبيلها بالعلم والتعلم، فكان صاحب أسلوب تربوي، واءم بين التراث والحداثة، بين الشرق والغرب، لم يفتتن بالغرب، ولم ينبهر انبهار المسلوب، بل عدد المزايا والعيوب بين الشرق والغرب، وفصّل في الأخلاق والعادات، ولم ينس أخلاق الإسلام التي هي أصل فضائل الإنسانية.
الفصل الثالث مجاور من طنطا: يتناول فضل علماء الأزهر في الحفاظ على ومضة النور التي أضاءت لرفاعة الطهطاوي، ويتناول أسرة الطهطاوي؛ فهو من بيت علم ونسب شريف، وفضل أخواله عليه إذ تعهدوه بالعلم، والتربية، ثم رحلة تعلم رفاعة في القاهرة ودراسته في الأزهر، وكيف رأى رفاعة الأزهر بعد إقصاء محمد علي لرجاله، وعلمائه، وأثر الشيخ حسن العطار، وتعيين رفاعة إمامًا للمبعوثين.
الفصل الرابع: أزهري في باريس نرى فيه كيف مضت الحياة بالفتى الأزهري في باريس، وأنه لم يكن مطلوبًا منه أن يتعلم اللغة أو يدرس، عمله أن يقيم الصلاة ويعظ ويرشد أفراد البعثة، ولكن الطهطاوي كان رجلًا طموحًا، وصدق فيه ظن أستاذه الشيخ حسن العطار، استغل الفرصة التي أتيحت له، واتخذ معلمًا للغة على نفقته، وجهِد وسهر، وأكب على التعلم، ونشط للترجمة، والملاحظة والتأمل، ووازن بين الثقافتين، وأخذ يتقصى جوانب الضعف، وجوانب القوة، وبذهنه الوقاد التفت له المستشرقون واعتنوا به عناية خاصة، وذلك لعلمهم أن أهل الأزهر هم أكثر الناس إلمامًا بالعربية، وذلك يتيح لهم نشر ثقافتهم وتصدير فرنسا للشرق، فاعتنى به “مسيو جومار”، و”سلفستر دي ساسي” وغيرهما .. خمس سنوات قضاها رفاعة في باريس، صحبته الهمة، ورافقه الطموح.
الفصل الخامس، تخليص الإبريز: يتحدث عن الكتاب، تلخيص الإبريز، وأنه ليس من كتب وصف الرحلة، ولا تقرير طالب عن رحلة، وإنما مصدر من مصادر التقاء الشرق بالغرب، وكيف كان يستثير في كتابه عاطفة الشرق ويحثه على التقدم، نرى فيه صبغة إسلامية، وطنية، وتحدث في كتابه عن الثورة الفرنسية، وكيف كانت سببًا لإنهاء عصر الركود، وكيف تحدث عن نظام الحكم في فرنسا، الدستور، وحرص الأمة على حقوقها، ووازن بين غيرته على دينه، وألا يثير نزوات المتعصبين من الفرنسيس، فتخليص الإبريز دعوة للارتقاء والنهوض.
أما الفصل السادس، المعلم: فيتناول جانب المعلم من حياة رفاعة الطهطاوي، جانب العطاء، وإيمانه أنَّ الترجمة هي النواة الأولى في بناء النَّهضة، حمل رفاعة على كاهله رسالة العلم، وسعى حثيثًا في كل وظيفة التحقَ بها أن يترك أثرًا خالدًا من بعده، حتى عندما تولى وظيفة في السودان، وبرغم صعوبة ذلك عليه فإنه قام بواجبه وأدى الأمانة، ففي كل علم من العلوم، كالطب، والفلك، والهندسة، والتاريخ، له أياد؛ نعد منها ترجمته لعدد من الكتب التي أسهمت في ارتقاء العلوم، ومدرسة الألسن، وقلم الترجمة، ومجلة الوقائع المصرية، ومجلة روضة المدارس، وأي إشعاع ثقافي كان الطهطاوي طليعته، وعلى قلة اعتناء من الدولة، وندرة المترجمين، كان يسعى ويعلم أنه إذا عظم المطلوب قل المساعد.
في ميدان الفكر، الفصل السَّابع: يصف جهد الطهطاوي في ميدان الفكر، وإنفاقه من العمر الطريف والتالد حتى يسابق الساعات والليالي، متعلمًا ومعلمًا، مترجمًا ومؤلفًا، وكثيرًا ما كان يمزج بين الترجمة والتأليف، وكان مؤرخًا موضوعيًّا معتدًّا بالتاريخ الإسلامي والفرعوني، وتناول سيرة النبي وكتبه القيمة التربوية، كما تحدث عن المرأة وحقوقها، وأهمية العلم والانشغال بعظيم الأمور لأن الفراغ مفسدة لها، يوقعها في النميمة ومحقرات الأمور، وعناية الطهطاوي بالأمور الاجتماعية وبالحرية والمساواة وكل ما يتصل بسب إلى رقي وإحياء.
الفصل الثامن إمام نهضة: يتناول أثر الطهطاوي فيمن بعده، فالأفغاني حين جاء لمصر وجد رفاعة الطهطاوي قد هيأ له تربة الثورة الفكرية والسياسية، وحتى دعوة قام أمين، ودعوة لطفي السيد، وكل فكر أو دعوة كانت تثمر في مصر دون غيرها من الأقطار، لأن الطهطاوي قد جعل مصر أرضًا خصبة تنبت الزرع والثمر، خلف المعلم جيل من المترجمين في كل المجالات، ومن ثقافات عدة وتلاميذ أصحاب عقول واعية، التعلم والعلم كانا سبيل رفاعة إلى الإحياء والنهضة يستوي من التربية الإسلامية أفكاره ومناهجه، لنشر الفضيلة والعادات الحسنة، ونبذ الجهل والخرافة حتى يتنسى للمسلم معيشة سوية رغدة ملؤها الفضائل والخيرات.
الاشتباك مع الكتاب
يعد كتاب رفاعة الطهطاوي رائد فكر وإمام نهضة من الكتب القيمة، حيث اعتمد د. حسين فوزي النجار على نقل صورة وافية لقرون قبل الطهطاوي، وعن العصر الذي عاش فيه، لتتمثل جهد الرجل بما يتناسب مع ما كان متاحا له في ذلك الزمان، الطهطاوي استغل كل متاح وزاد عليه جهدا خاصا من نفسه، حتى يحمل مصباح النور لأمته.
اعتمد المؤلف على مراجع عربية ومراجع فرنجية حتى ينقل الصورة من الشرق والغرب، فلم يقتصر على نقل رأي العرب في رفاعة، بل أضاف رأي المستشرقين، ونقل صورة مصر من الشرق والغرب.
أحيانًا كان يستطرد في الفكرة الواحدة في فصول عدة، ربما كان ذلك مقصودًا ليوضح فكرته ويؤكدها.
نجد تداخلًا بين العناوين والفصول، والتكرار المملول أحيانًا، فقد يتحدث مثلًا عن دراسة رفاعة الطهطاوي أو أنه من بيت علم، ويعيد الحديث نفسه في فصل آخر.
برأ الكتاب رفاعة من أنه كان سببًا لدعوى الاشتراكية أو أنه مهَّدَ لها، ونفى مساوئ كثيرة دارت حول الرجل، وفي النهاية رفاعة بشر يخطئ ويصيب، ولكنه بذل جهده وأعذر إلى ربه، أفنى شبابه وكهولته متعلمًا وعالمًا.
تظهر في الكتاب شخصية الكاتب، فلم يكن ناقلًا ولا مؤرخًا فحسب، بل نراه محللًا ومفسرًا لغالب أفكار الكتاب، ونلحظ إلمامه بتاريخ مصر الحديث، وتاريخ الحملة الفرنسية على مصر، ومؤثرات الحملة من محاولات سحق الهوية، وتهميش العلم، وقتل الهمم.
الكتاب يستحق القراءة ولا سيما أنَّ رفاعة الطهطاوي شخصية تاريخية حقيقة بالدراسة والتأمل، يقول الشيخ رشيد رضا: “إنَّ العقيدة الإسلامية لا يُريّبها ويثبّتها في القلوب إلا قراءة التاريخ الإسلامي؛ وإنّ أثر قراءة هذا التاريخ في تكوينها أعظم بكثير من قراءة كتب العقائد والجدليات. “(2).
الهوامش:
- كما لقبه الشيخ السادات
- عبد الوهاب النجار، الشيخ رشيد رضا، مجلة الرسالة العدد 439