رموني بعقم في الشباب وليتني
عقمت فلم أجزع لقول عداتي
كما اتهم بعضهم اللغة العربية بالعقم عن مسايرة التطورات الحياتية والتغيرات العلمية، فكذلك اتهم آخرون الشريعة الإسلامية بالعقم والجمود والعجز عن تلبية احتياجات المجتمعات اليوم، وعن مواكبة مستجدات الحياة.
والسؤال الرئيس الذي ينبغي أن ننطلق منه: ما الذي تحتاج إليه المجتمعات المسلمة اليوم لإصلاح أنظمتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والخروج من النفق المظلم الذي تتخبط فيه؟
وأجيب عن هذا السؤال بالقول: الشريعة الإسلامية هي الضرورة لتحقيق أي إصلاح. وحديثي سينصب على الجانب التشريعي في الإسلام.
وسأقتصر على الإجابة عن مجموعة أسئلة،
– الأول: ما مفهوم الشريعة الإسلامية، والدين والنص والاجتهاد؟
– الثاني: بالنظر في الشريعة ذاتها؛ هل لديها عوامل الصلاحية لتحقيق هذا الإصلاح؟
– الثالث: ما وجه الضرورة في إقامة الشريعة الإسلامية؟
– الرابع: بالنظر في تفاعل البشر مع الشريعة؛ إلى أي مدى حقق الإسلام وعوده؟
– الخامس: إلى أي مدى أثرت الشريعة في الأنظمة والقوانين الدولية؟
– السادس: إلى أي مدى يمكننا القول إن العلمانية بديل؟!
– وأخيرا: تحرير ومناقشة مذهب الطوفي في المصلحة.
ولكن قبل ذلك كله دعوني أتحدث عن جدوى هذا النقاش، بذكر بعض المقدمات.
من الطبيعي أن يهاجم المستشرقون الشريعة الإسلامية ويصفونها بالجمود، ويصفون الإسلام بالتخلف، وذلك لأن لهم مصالح من وراء هذا الهجوم، وهكذا كل من له مصلحة من ذوي الثقافة لأوروبية.. كما يهاجم على سبيل المثال الناطقون باللغة الفرنسية في الجزائر تعريب التعليم؛ لأنها بضاعتهم التي سيخسرونها في المقابل.
لكن الغريب ان يصدر ذلك عن مسلمين، الأصل أنهم يعرفون محاسن بضاعتهم، التي يريد الآخرون أن يحقروها في عيونهم!
قد نعذر المستشرق الغربي في اتهام شريعتنا بالجمود؛ لأنه يجهل أن باب الاجتهاد مفتوح وسيظل مفتوحا إلى يوم القيامة، وليس لأحد حق إغلاقه، وهذا ما تواطأت عليه كلمة جمهور علماء الأمة قديما وحديثا. نعم، علماؤنا ضبطوا شروط الاجتهاد وشروط المجتهد؛ حتى لا يكون الباب مفتوحا لكل عابث، كما نرى اليوم للأسف من تفسيرات وأحكام عبثية باسم الدين، لا سيما من تلك الفئة، كشحرور وغيره.
قد نعذر المستشرق الغربي؛ لأنه يجهل مفهوم الدين في الشريعة، فيعتقد أنه الصلاة والصيام والحج والذبح لله، فقط!! يجهل أن الدين يشمل تلك الشعائر التعبدية، كما يشمل المعاملات.. دين المسلم يحرم عليه الكذب والخيانة ونقض العهود والغش في المعاملة واحتكار السلعة والتحايل في البيع، كما يحرم عليه الزنا والربا والخمر.. فالدين مفهومه شامل. ولذلك كان الرسول المبلغ دين الله هو الذي يقضي بين الناس ويحكم فيهم ويدير الدولة ويقود الجيوش.. وكان الحاكم المسلم يقوم بالقضاء، كما يقوم بالصلاة بالناس. فكون الشريعة الإسلامية مرتبطة بالدين لا يقتضي جمودها، بل إن الدين هو الذي فتح باب الاجتهاد للمجتهدين، ومن خلاله قرروا القواعد الفقهية المرنة التي تستجيب لمتغيرات الزمان والمكان، والدين نفسه الذي أمر المسلمين بإقامة الصلاة بطريقة قطعية، هو الذي فتح لهم مساحة مرنة في باب المعاملات تستوعب الجزئيات والمتغيرات.
ولكننا لا نعذر المسلم في الوقوع في مثل هذه الأخطاء؛ وتلقي المعلومات عن دينه من المستشرقين أو المستغربين.. صحيح ان المسلمين في حالة ضعف، وأن ثمة هيمنة للقوانين الغربية لا نجهل أسبابها، وما قامت به هذه الدول من احتلال بغيض للعالم الإسلامي، كان أحد مخلفاته إقصاء ما تبقى من التزام المسلمين بالشريعة الإسلامية، وإحلال قوانينهم؛ حتى نكون أرضا صالحة لمخلفاتهم، ونكون مستهلكين لمنتجاتهم، وفئران تجارب لأسلحتهم..
ومع ذلك، فلا ننكر أن ثمة أخطاء تاريخية ارتكبت من بعض المسلمين، ولا سيما في العصور الأخيرة، أدت إلى الإساءة للشريعة، من قبيل تخلي العلماء والمجتهدين عن دورهم الاجتهادي في مختلف مجالات الحياة السياسية والاجتماعية.
ولذلك فواجبنا اليوم، أن ننفض ذلك الغبار، ونصل ما انقطع، ونكون امتدادا لتاريخنا وبيئتنا، لا أن نحاول القطيعة مع أنفسنا، وتمزيق جذورنا والتنكر لها، وكأننا ورقة في مهب الريح بلا تاريخ .. فمن لا تاريخ له لا مستقبل له ولا حاضر.
وإنني لأعجب حين أرى استماتة على إحياء جذور تاريخية قديمة، حتى لو كانت طقوسا وثنية، أو ممارسات عنصرية بغيضة.. في مقابل محاولة طمس معالم تاريخنا وجذورنا الممتدة في المكان والزمان والشعوب، ولا زالت تلك الجذور حية، واشجارها باسقة.. ويجتهد بعضنا مستميتا في قطع تلك الشجرة!!
إنني لأتساءل: من أين أتت فكرة فصل الدين عن الدولة أو المذاهب عن الدولة…؟
لم تأت من تراثنا ولا من شريعتنا، ومحاولة بعضهم إيجاد أدلة من الدين على ذلك محاولة متناقضة…إلخ.
هذه الفكرة جاءت من (جحر الضب)، دخل الغرب جحر الضب فإذا بنفر من قومي يريدون أن يدخلونا فيه أيضا، ولكن يسمونه (جحر السِّبَحْل)!!
ففصل مجال من مجالات الحياة عن الدين هو جزء من جحر الضب. نقطة من أول السطر.
فالغرب له دينه وقيمه وثقافته ومرجعيته، وقوانينه يستمدها من تلك المرجعيات.. فلماذا نبالغ في الانهزامية إلى درجة أننا نبرر لأنفسنا هيمنة الغرب التنظيمية والقانونية والدستورية علينا؟!
على الأقل إذا ضعفنا عن الخروج من جحر الضب أن نترك فرصة لغيرنا ممن سيأتي بعدنا فيمكنه الله من الخروج.. لا أن نبرر لوجودنا في جحر الضب.
لماذا نريد أن نكون عبيدا للرجل الغربي؟ بدلا من أن نكون أحرارا سادة أنفسنا؟!
والآن نسأل من يقول بفصل الدين أو المذاهب عن الدولة:
هل هذا النظام الثالث سينص على حرمة الربا والزنا والخمور والشذوذ الجنسي والإباحية؟ أو لا؟
فإن قلت: لا. فهذا يعني أنك تدعو إلى علمانية كاملة، تبيح هذه المحرمات.
وإن قلت: نعم، فها أنت تقول إذن بعدم فصل الدين عن الدولة. وبالتالي لم تعد هذه اسمها علمانية.
ترقيع العلمانيين الجدد لم يعد ينطلي إلا عليهم، كل يوم مصطلحات ومفاهيم ترقيعية لا تنتهي: العلماني الإسلامي، ليس فصل الدين بل فصل الشريعة عن الدولة، وآخر: ليس فصل الدين بل فصل المذهب.. ولا ندري ما سيقولون غدا!!
ينسى هؤلاء أن الدين في الإسلام ليس ثنائية مقابل الدنيا، بل الدنيا والآخرة كلاهما من الدين. وسنوضح هذه النقطة لاحقا.
وحين يستدل بعضهم بالشريعة على أن الحكم بالشريعة باطل. فهذا الاستدلال الدائري باطل؛ فإذا كانت الشريعة باطلة فما تستدل به منها باطل.
العلماني يستدل بالدين ليثبت أن الدين غير صالح في المجال السياسي. بعبارة أخرى يقول: الدين يثبت أن الدين غير صالح!!
في الحقيقة أنت تقول: الدين يثبت أن اللادين هو دين.
ثم كيف يصح وأنت علماني أن تستخدم الدين لتبرير علمانيتك؟! ألست تتناقض أيضا مع العلمانية؟
ذلك أن العلمانية تقول باستبعاد الدين، وسواء قلنا علمانية شاملة أو جزئية.. فتقوم على استبعاد الدين من مجال ما.
ففي حين ينعى العلماني على المتدين أن ينطلق من الدين في تفسير الأمور، أو الاجتهاد فيه.. نجد العلماني الجزئي أو الثالث ينطلق من الدين لتبرير علمانيته ويستمد من الدين المشروعية.
فهو بهذا يناقض العلمانية نفسها.
وهكذا نجد أن أكثر الخطاب تناقضا هو ذلك الخطاب الترقيعي الذي يحاول المزاوجة بين العلمانية والدين!!
وبما أنك تعترف أن الدين يجعل للناس مساحة واسعة في الاجتهاد في المجال السياسي والاقتصادية والإداري.. فإذن حين نتحرك بمرونة في هذه المجالات نحن لا نصادم الدين، والدين نفسه يستوعب هذه المتغيرات، فما الداعي أن نقول بعجز الدين عن تقبل هذه المرونة والتغيرات..
وما الداعي للبحث عن منظومة مرجعية أخرى تسندني في هذا الإطار؟
وهنا نسأل أصحاب العلمانية الملقحة بالإسلام:
هل المشكلة لديكم في الدين أم في تفسيرات الفقهاء والعلماء للدين؟
فإن قلتم في تفسيراتهم، فنحن نقول هذه فهوم، وهي فيما بينها تختلف وتجتهد.. ومن ينظر في كتب الفقه والسياسة الشرعية والتطبيقات عبر التاريخ يجد أن هذه مرونة وميزة في فهم الدين، تتجدد وتتطور المفهوم، وتستوعب المتغيرات.. الدين يمنحها كلها إمكانية الحياة.
ثم من منحك الحق في تخطئة تلك التفاسير للدين، عبر 14 قرنا، وتأتي لتقدم تفسيراً جديدا للدين.. فبأي حق يكون تفسيرك للدين أولى من تفاسيرهم.
فإن قلت: تفسيري ليس جديدا، بل قال به فقهاء قدامى، فإذن هم فسروا تحت مظلة الدين وبأدواته ومرجعياته، ولم يحتاجوا استعارة أدوات تفسيرية من خارج الدين. فليسعك ما يسعهم..
وبما أنهم وصلوا لتفسيراتهم باستخدام الأدوات التي يتيحها الدين، فلماذا نذهب لجلب أدوات تفسيرية من العلمانية؟
وإن قلتم: المشكلة في الدين نفسه، فهنا يجب أن تكونوا صرحاء وواضحين، وتعلنوا ذلك للناس، حتى يدرك الناس حقيقة دعوتكم.
حين يطرح سؤال: ما الذي تحتاج إليه مجتمعاتنا اليوم. نجد أن بعض الإجابات تذهب – من حيث تشعر أو لا تشعر – إلى الحاجات المادية فقط!! ونحن نقول: نعم هي مهمة ولكنها ليست كل احتياجات المجتمعات.
وبالرغم من ذلك، فسوف نقصر النظر مؤقتا النظر على احتياجات التنمية والتقدم.
ففي استطلاع للجزيرة أجري عام 2015م عن: “الديمقراطية بعيون الرأي العام العربي” عبر المشاركون فيه عن مفهومهم للديمقراطية(1):
– ضمان للحريات السياسية والمدنية (35%).
– نظام حكم ديمقراطي (20%).
– ضمان المساواة والعدل بين المواطنين (18%).
– ضمان للأمن والاستقرار (6%).
– تحسين للأوضاع الاقتصادية (6%)
– القيم الإيجابية (3%).
هذا الاستطلاع يرينا إلى حد ما التفكير السائد “للمواطن العربي” في تحديد احتياجاته الراهنة؛ بما يعتقد أنه يسهم في إصلاح الوضع الراهن.
إذا أخذنا نتائج هذا الاستطلاع، وقرأنا من خلاله احتياجات الشعوب في حياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبناء عليه نسأل: هل العلمانية ضرورة لتحقيق هذه الأهداف “الديمقراطية”؟ ونسأل أيضا: هل دين الإسلام يسهم في تحقيق هذه الأهداف أو يعارضها؟
الانطلاق من السياق مهم جدا.. أوروبا كان لها سياق مختلف، وبالنسبة إليهم حين سألوا هذا السؤال، كان الجواب: نعم، ووجدوا أن دينهم قد يعرقل مسيرة التنمية والديمقراطية التي يريدونها؛ وكان إبعاد الدين عندهم حلا لذلك.
ولكن سياقهم ليس بالضرورة أن يكون هو سياقنا. فنحن سياقنا مختلف، وعلينا أن ننطلق من سياقنا للوصول إلى حلول مشاكلنا، وإلا كنا كمن يريد استخدام دواء علاج البطن لعلاج القدم!!
ورغم أننا نرى أن أوروبا لها سياقها، فإننا نسأل أيضا: إلى أي مدى حققت العلمانية وعودها؟ وإلى أي مدى حقق الإسلام وعوده؟
❃❃❃
ما الذي يفيد العلمانيين حين يحاولون إعادة إلباس الأمة هوية أخرى؟ الأمة مسلمة هويتها الإسلام، ومن حقها أن تعبر عن هذه الهوية بكل صراحة في دستورها وقوانينها. فهل من النافع لهم أن يثيروا جدلا حول هوية الدولة؟
هل هذا هو ما يريدونه: أن يشعلوا نيران الخلاف بين الناس؟!
أو أن الأجدى لهم أن ينظروا في متطلبات التنمية والتقدم، وأن يجعلوا معركتهم في المكان الصحيح، وأن يقاتلوا العدو الصحيح، بدلا من افتعال معارك هامشية لا تنفع الأمة، بل تضرها وتزيد من شقاقها وخلافها وتمزيقها.
فإن قيل: إن المشكلة في تحديد هوية الدولة، والقول إنها إسلامية يمنع من التنمية والديمقراطية.. فهنا نقول: تعالوا نحتكم إلى الشريعة نفسها، وإلى التاريخ، وإلى شهادات الخبراء، ونفحص هذه المقولة. [وهو ما سأتناوله في البحث].
❃❃❃
سأنتقل خطوة أخرى، لأسأل من يطالب بالدولة العلمانية: لماذا تريد الدولة العلمانية، فسنجد أنهم يقولون لأسباب، ربما أهمها(2):
– تمثل إرادة المجتمع، وأنها دولة قانون، وأنها ترسخ نظاما مدنيا يضمن الحريات ويقبل الآخر، وقيامها على اعتبار المواطنة أساسا في الحقوق والواجبات لجميع المواطنين فيها، والتزامها بالديمقراطية والتداول السلمي على السلطة
ومرة أخرى، لا بد من اختبار هذه الدعاوى من خلال الإجابة على سؤال الموازنة: إلى أي مدى حققت العلمانية وعودها؟ وإلى أي مدى حقق الإسلام وعوده؟
ومقولة: الدعوة إلى فصل الدولة عن المذاهب لا عن الدين، مقولة مفرغة المضمون؛ لأن هذه الدعوة تحصر الدين في القرآن الكريم وتستبعد السنة النبوية، ثم تحصر القرآن في فهمها وتستبعد فهوم المفسرين والعلماء والفقهاء عبر التاريخ. ثم تحصر القرآن بأنه جاء لمعالجة أوضاع بيئة صحراوية بدوية، وهذا لا يناسب عصرنا!!
وبذلك تصبح دعوى لذر الرماد في العيون. فالمذاهب لم تأت من واق الواق، بل قام اجتهادها على نصوص الدين وتطبيقاته وتطبيقات الصحابة للدين.
ثم إن المذاهب هي طرائق ومسالك لفهم الدين، وليست دينا بديلا أو موازيا، كما يراد تصويرها. وتعدد المذاهب يمنح المجتهدين مزيدا من الأدوات والوسائل لفهم الدين، والإفادة من الشريعة الإسلامية في التطبيق ومعالجة مختلف المشاكل.
كما أن المذاهب دليل على حرية الرأي التي منحها الإسلام للمسلمين، ولذلك لا يحجر على أحد أن يقول بعلم، وفي الوقت نفسه فإن المذاهب تسهم في تنقيح الآراء وإنضاجها وتصحيح الأخطاء وتعديل الاجتهادات وتطويرها.
ولهي دليل على مكانة العقل في الإسلام، ومكانته عند المجتهدين، فلو كانوا متقيدين بظواهر النصوص لما حدث هذا الخلاف بينهم، فالاختلاف دليل على توسع إعمال العقل في ضوء الضوابط الشرعية.
وفي تعدد المذاهب تأكيد لعدم وجود التقديس عند المسلمين، فلو قدس الشافعي مالكا لقلده وهكذا سائر الأئمة. وداخل المذهب لو قدس كل عالم إمام المذهب لما حدث الخلاف داخل المذهب، ولما وصلتنا هذه الثروة الفقهية الضخمة، التي للأسف نجد اليوم من يتنكر لها، ويراها عبئا!!
بل إن وجود المذاهب دليل بين على سعة الشريعة الإسلامية، وسعة منطقة الاختلاف بين المجتهدين؛ بما يبين مرونة الشريعة واستجابتها لمختلف التحديات عبر الزمان والمكان.
وفي اختلاف المذاهب توسعة على الناس من حكام وقضاة وعامة، وعدم التضييق عليهم
واختلاف المذاهب لم يكن في أصول الدين، كحرمة الربا والزنا ووجوب الزكاة.. بل كان في تطبيقات ومعاملات الناس وأنظمتهم. ولا أحد يدعو إلى إلزام الفرد – فضلا عن الدولة – بمذهب هذا أو ذاك!
ولم تكن المذاهب يوما حاجزا يمنع التجديد والاجتهاد، بل هي حقل غني بالآراء الفقهية التي يمكن الاستفادة منها.
ومن الأمثلة المعاصرة أن قوانين الأحوال الشخصية في عديد من الدول الإسلامية، تمت الإفادة فيه من مذاهب فقهية عديدة، ولم تلتزم بفقه معين
هذا تراثنا لماذا نتجاهله ونبدأ من الصفر؟ وهذا ما لا قول به عاقل، فالعلم يتراكم وينمو ويتطور، ويأخذ اللاحق عن السابق. وثروتنا الفقهية الضخمة بحاجة على مزيد من العناية والدراسة اليوم… وها هي أوروبا لم تنهض من الصفر بل استفادت من الجهود السابقة لمفكريها وعلمائها وغيرهم من مفكري الإسلام الذين ترجموا كتبهم. أما الدعوة إلى إلغاء التراث والتاريخ فهي دعوة سقيمة.
❃❃❃
نشر المستشرق شيرمان جاكسون بحثا بعنوان (الإسلام خارج الحكم الشرعي “العلماني الإسلامي”)، [في المجلة الأمريكية للعلوم الاجتماعية الإسلامية، مجلد 34 ، عدد 2 ، 2017]، وجاكسون معروف بتبنيه لمصطلح “العلماني الإسلامي”، وخلاصته أن الدولة ليست فصلا عن الدين، بل فصلا عن الشريعة. فالعلماني الإسلامي لا يقول بفصل الدين عن الدولة، بل: فصل الشريعة عن الدولة.
يقولون:
– الدين يستلزم القداسة والأخروية. في حين أن الأحكام الحياتية دنيوية وبشرية غير معصومة. والدولة الدينية تعني: منح القداسة للحاكم. وفي الوقت نفسه هذا يؤدي إلى تدنيس الدين وإفساده وتغيير أحكامه، الذي الأصل فيه القداسة والثبات!
❃❃❃
وهذه مقولة فيها خلط كثير وكبير. ومنشأ هذا الخلط:
أولا: الخلط في مفهوم الدين نفسه. واعتبار أن الدين هو الشعائر التعبدية (أو ما يقابل: religion). واعتبار أن ما عدا ذلك ليس من الدين. وهذا المفهوم إن كان يصدق على الدين المسيحي مثلا، فإنه لا يصدق على الإسلام. وإلا كان الرسول بقي في مكة، وبنت له قريش مسجدا ضخما، ولم تنشأ بينه وبين قريش أي عداوة!! ولكنه هاجر على المدينة، وأسس دولة، والدولة هي الوظيفة لا الشكل، الدولة: الأرض والقوم والحاكم ومرجعية دستورية مهيمنة. وهذه العناصر تحققت في الإسلام. والقرآن لم يتضمن الأمر بالصلاة والحج والصيام فحسب.. بل تضمن الأمر بالزكاة والحكم بالعدل والشورى والجهاد وحماية المجتمع، وإقامة الحدود، والأمر بالمعروف والنهي (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة…)… إلخ.
ثانيا: الخلط في إدراك طبيعة دين الإسلام، نعم الدين مقدس، ولكن الحاكم الذي يحكم ليس مقدسا. لم يقل أحد من الحكام إنه ينزل عليه الوحي.. ولذلك لا وجود للسلطة الدينية المقدسة بهذا المعنى. بل أول حاكم أبو بكر رضي الله عنه صرح: (وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم).
ثالثا: الخلط في مجالات الدين. فالدين كما هو أخروي هو دنيوي. دنيوي بمعنى أن المسلم حين يجتنب الربا مثلا، أو الزنا، أو الخمر، وحين يؤدي التاجر زكاة أمواله التجارية، وحين يقضي القاضي بالعدل، وحين يحافظ الجندي على الأمن، وحين يجتنب الموظف الرشوة … فإنه يعمل هذه الأعمال في الدنيا، وتحقق مصالح له وللمجتمع في الدنيا، ولكنها مرتبطة بأمر الله ونهيه، ويحتسبها المسلم في ميزان حسناته في الآخرة.
رابعا: الخلط في فهم طبيعة نصوص الدين. فمنها النص الثابت القطعي، الذي يمثل هوية الأمة… فالمسلم (من منظور هوية الأمة والمجتمع) يحرم القتل والربا والظلم والزنا والشذوذ والخنزير والخمر… كما أنه يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة … ومنها النصوص الظنية التي تختلف الاجتهادات والاستنباطات منها.
خامسا: الخلط في طبيعة الاجتهاد والحكم. فاجتهاد الحاكم من الدين، بمعنى أنه يستمد مرجعيته من الدين، ولا يخالف مرجعية ثابتة فيه. والدين نفسه منح الحاكم منطقة واسعة يستطيع الاجتهاد فيها بما تقتضيه المصلحة زمانا ومكانا.
ومتى يكون الاجتهاد شرعيا ومتى لا نسميه شرعيا؟
الاجتهاد الشرعي يكون في:
1/ ما فيه نص ظني. فيجتهد المجتهد في تعيين المراد، وفق قواعد الاستنباط.
2/ ما فيه نص قطعي، فيجتهد المجتهد في تحقيق المناط، وتنزيل النص على الواقع.
3/ ما لا نص فيه، فيجتهد المجتهد في الاجتهاد بالوسائل الشرعية. وهذه يحدث فيها الخلاف بين المفتين بسبب اختلاف زوايا النظر إلى الواقعة، وطرق الاستنباط.
أما إذا كان الاجتهاد بمجرد الرأي؛ من غير نظر في منهجية الوسيلة وشرعيتها، فلا يسمى اجتهادا.
سادسا: الخلط في مفهوم الشريعة الإسلامية. وهذا أتناوله في المقال القادم.
إذا كان الاجتهاد يشمل الخروج عن المذاهب الأربعة فهذه علمانية باسم الاجتهاد لأن العلماني يسمي خرعبلاته اجتهاد ولا ينضبط الأمر إلا بعدم الشذوذ عن المذاهب الأربعة
نسبة قوانين الأحوال الشخصية المعاصرة للشريعة باطل لأنها خليط من الشريعة والعلمانية وأقوال الفرق الضالة واتفاقية سيداو وهي أحد أسباب عزوف الشباب عن الزواج
إذا كان الاجتهاد يشمل الخروج عن المذاهب الأربعة فهذه علمانية باسم الاجتهاد لأن العلماني يسمي خرعبلاته اجتهاد ولا ينضبط الأمر إلا بعدم الشذوذ عن المذاهب الأربعة
نسبة قوانين الأحوال الشخصية المعاصرة للشريعة باطل لأنها خليط من الشريعة والعلمانية وأقوال الفرق الضالة واتفاقية سيداو وهي أحد أسباب عزوف الشباب عن الزواج