فكر

مسوِّغات العلمانية بين الحقيقة والوهم (ج6)

الجواب الثالث: علماني انتقائي فجّ:

(الإيمان بالقرآن وحده، وفهمنا له المرجعية الوحيدة)

إذا كانت الإجابتان السابقتان على ذلك النحو؛ فإن من الوارد – وفقاً لشواهد المشهد- أن يرد  جواب ثالث فحواه  قول بعضهم: إننا لا نقبل بغير الإسلام  في نظرته إلى تلك القضايا، ونرفض – في الوقت ذاته- العلمانية الغربية بكل نماذجها، بل  أصبح  بعضهم   يجاهر برفضه  حتى لما بات يُعرف بالعلمانية الجزئية، تلك التي تفصل الدّين عن الدولة، بيد أن لديهم علمانيتهم الخاصة، وقد يحلو لبعضهم تسميتها  بـ(الدولة المدنية)، بعد أن  ساءت صورة النماذج العلمانية في المنطقة خصوصاً، لكن دون أن يغيّر ذلك جوهرياً من الطابع العلماني لهذه الدولة (المدنية)، وإنما  وفق تصوّر ” ديني” خاص، لا يتوافق مع   المنطق الإسلامي  السائد عبر التاريخ كلّه، ولا مع أيٍّ من أطاريح التجديد المعاصرة ، تلك التي تدور في إطار منهجيته السائدة.  مع استيعاب جيّد لتحديات العصر، ومواجهتها بقدر من الوعي والفطنة، بل يغلب على دعاة هذا النموذج ترديد مقولة فحواها أن الإسلام  الحق مغيّب حتى الآن، ولم يظهر بعد- كما ينبغي- وأن نظرة الفقهاء والأصوليين والمحدّثين والمفسّرين وعلماء العقائد؛ أسهمت كثيراً في الإساءة إليه، ولذلك فدعاة هذا النموذج يسعون إلى إعادة إسلام الدّين الحق المغيّب، طيلة القرون المتطاولة!  ويكاد يتواطأ دعاة هذا  الاتجاه  -إلى جانب ما سبق -على موقف سلبي   من السنّة النبوية،  أو ما يحلو لبعضهم أن يصفها بـ” الحديث النبوي”، بحيث ينكر حجيتها من الأساس،  لا طرق التثبت منها- مثلاً-  وغاية ما فيها أنها- عندهم- جزء من الحكمة التاريخية، بحيث لا تعبّد فيها ولا إلزام،  ولا تزيد قناعتهم بها عن مجرّد المواقف العملية المرتبطة بالشعائر (الصلاة والصوم والزكاة والحج) في كليتها، ولذلك فإنهم لا يؤمنون بكثير من التفاصيل الواردة فيها،  لكونها مما لم يتضمنه القرآن، من جهة، ولم ترد – من وجهة نظرهم- بدرجة التواتر ذاته، الذي ثبتت به تلك الشعائر في مجملها، من جهة أخرى، هذا مع التأكيد على أنهم يحملون فيما بينهم  في مسألة الاعتماد على القرآن وحده بالخصوص من التناقض والتباين في الأصول والكليات- بما في ذلك فريضة الصلاة وهل هي ثلاث؟ أو خمس؟ في اليوم والليلة-   أكثر بكثير مما بين المذاهب الإسلامية التقليدية،  التي يرفعون عقيرتهم في وجهها، رغم أن اختلافات هذه الأخيرة  لا تعدو -في أشد حالاتها- خلافاً في فروع الأصول، ناهيك عن فروع الأحكام !

ومن جانب آخر فإن  هذا الجواب  إنما يؤكّد أن العلمانية التي ينادي  بها هؤلاء وأمثالهم؛ لم تعد مجرّد إجراء عملي أو إداري أو فني، كما يسوّقون له، مهما  أكّدوا  رفضهم  العلمانية الغربية، أو حتى الجزئية، و سعيهم إلى إقناع  الآخرين أن  علمانيتهم  الخاصة   لا تخرج عن هدي  الإسلام، ولا تتعارض مع منهج القرآن، بل  هي -في الواقع- اتجاه  آخر،  ومنظور مختلف عن المنظور الإسلامي العام الذي تواضعت عليه الأمّة كلها، منذ مبعث النبي محمد – صلى الله عليه وسلم- إلى يوم النّاس هذا، حيث  كان – ولايزال-  اعتمادها  – أيّ الامة- على المصدرين الشريفين: الكتاب الكريم والسنة المطهرة،  وجملة المصادر التبعية الأخرى، على اختلاف في بعضها ودرجته وأهميته، وتحتكم إلى منهجية علمية عامة، متواضع عليها في جملتها، ونسق معرفي كليّ منبثق عنها،  أمّا هذا المنظور المتناقض، الذي ينادي به أصحاب هذا الجواب، فحسب المرء منه أنه  لا يعمل وفق قراءة  نقدية أصيلة، تستند إلى منهجية عامة محكمة، ونسق معرفي كلّي منبثق عنها،   بل إلى  قراءة هدم لكل ذلك النتاج، والإبقاء فقط على بعض الشذوذات، أو حتى القراءات الخاصة التي تتوافق مع مايرومون الوصول إليه، فأيّة منهجية ” محترمة” هذه  التي تشَطِّب على كل جهود علماء الأمة ونتاجها المتراكم في مختلف جوانب التراث، بالضربة القاضية العامة الحاسمة ” المتوهمة”، وتسعى لإسقاط  منهجيتيها الكليّة الجامعة بجرّة قلم، ولا يبقي  من ذلك إلا الاستثناء النادر – في أحسن الأحوال- الموافق لقراءتها، فتنطلق من خلاله  لتوظيفه، كي تدرأ به  عن نفسها  تهمة   الرفض لتلك المنهجية وذلك النسق المعرفي، محاولة إيهام مخالفيها أنها  لاتزال – رغم كل هدمها  وتسفيهها  للتراث -بما فيه تلك المنهجية وذلك النسق المعرفي العام- في لإطار العام لهما تسير.

وحسبك –  قارئي العزيز- نقضاً  لهذا  الاتجاه؛ إهداره  لكل ما قدّمته  أمة  وُصِفت بأنها {خير أمة أخرجت للناس}،  وأمّة ” الوسطية والشهود الحضاري”، واستمرت في ظلاله منذ فجر الإسلام، حتى جاء هؤلاء النفر المتناقضين فيما بينهم إلى حدّ الفراق،  بعد 1400 عام، ليقدّموا الإسلام “الحق المغيّب” – زعموا-!

أ.د أحمد الدغشي

أ.د أحمد محمد الدغشي أستاذ الفكر التربوي الإسلامي بجامعتي صنعاء - اليمن وإغدر (الحكومية) التركية لديه 28 كتابًا منشورًا، وكتب أخرى تنتظر النشر. -حاصل على جائزة رئيس الجمهورية التشجيعية للبحث العلمي في 2009م. -شارك في عدة فعاليات وأنشطة فكرية وتربوية في العالم العربي وفي أوروبا وأمريكا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى