ترجمات

أن تكون جزءًا من أقلية مسلمة

تقديم المفكر الصيني المسلم جين تيانجو

بقلم: الدكتور ناوكي ياماموتو

ترجمة: عادل العامري

تقدم هذه المقالة مقدمة كتاب “درء الشبهات عن دين الإسلام” (清真釈疑) والذي ألفه جين تيانجو. وهو تقريبًا أول كتاب ذكر كيفية دحض الأقلية المسلمة التي تقطن شرق آسيا للأفكار المغلوطة حول الإسلام.

فقد وجدت الأقليات المسلمة نفسها مضطرة لتعليل وتفسير معتقداتها وتصرفاتها للآخرين طوال التاريخ. ما هو المنظور الإسلامي عن الله؟ لمَ لا يأكل المسلمون لحم الخنزير؟ لم يستخدم المسلمون كلمات أجنبية في حياتهم اليومية مثل “إن شاء الله” و “الحمد لله”؟ بعض أسئلتهم تكون غيبية، وأخرى تتعلق بالعبادات الدينية اليومية والعادات الثقافية للمسلمين. أحيانًا تكون هذه الأسئلة نابعة من الفضول الفكري البحت، وأحيانًا يكون الغرض منها السُّخرية من المسلمين كونهم أغرابًا في المجتمع. والمعلوم أنَّ الأقليات لا تعيش بأريحية غالبًا حتى في تلك الدول التي تتسم بحرية شبه مطلقة في الدين، لكن إن سكنت بلادًا تفرض رقابتها حتى على المواد الدينية، فستجابه تحديات إضافية مختلفة. لهذا فالمسلمون الذي يعيشون كأقليات في أجزاء من العالم يمكنهم أن يتعلموا ممن سبقوهم وعاشوا في أزمنة وأماكن مختلفة في وضع شبيه بوضعهم. وتبرز فائدة كتاب جين في هذه النقطة.

كان جين تيانجو مفكرًا صينيًا مسلمًا عاش بين أواخر القرن السابع عشر حتى منتصف القرن الثامن عشر. المعلومات الوحيدة المتوفرة عن ماضيه هي ما ورد في مقدمة كتابه “درء الشبهات عن دين الإسلام”، وهو الكتاب الذي كتبه إلى مشرفه في أكاديمية هانلين حيث كان يعمل. ولد في مدينة نانجينغ وترعرع فيها، وهي مدينة أنجبت العديد من العلماء المسلمين الصينيين العظماء، بما في ذلك ليو تشي (刘智)، كما أحاط جين بالعلوم الإسلامية والفلسفة الصينية في سن مبكرة. بدأ العمل في قسم الترجمة في أكاديمية هانلين في عام 1726، وبدأ تدريس الترجمة في القسم الإسلامي في عام 1737. ثم ألف كتابه المسمى “درء الشبهات عن دين الإسلام” في عام 1738، والذي يعدُّ أول كتاب يوضح قضية التحامل ضد الإسلام والمسلمين في الصين.

ثمة العديد من العلماء المسلمين الصينيين الذي سبقوا جين وشرحوا المبادئ الإسلامية بطريقة يفهمها المتلقي الصيني وترضيه، ولكن كما ذكر جين في مقدمته فإن هذه الكتب كتبت في المقام الأول للقراء المسلمين، ولم تستهدف قضية التحامل السائدة بين غير المسلمين في الصين. وهنا يكمن الفرق بين موضع جين كمفكر وموضع باقي العلماء المسلمين الصينيين مثل ليو تشي ووانغ دايو، الذين كان موضعهم موضع دعاة الإسلام (أو “الأهونغ”)[1]  ممن يرشدون المسلمين أنفسهم. فجين كان يعمل بيروقراطيًا في قسم الترجمة في الأكاديمية التي تخدم الإمبراطور، مما يعني أن زملاءه وطلابه كانوا خليطًا بين مسلمين وغير مسلمين. فتطلب منه عمله أن يشرح القيم الإسلامية بطريقة يمكن أن يفهمها من يؤمنون بمبادئ الكونفوشيوسية والبوذية والطاوية. أثمرت جهوده نتيجة عمله مع هذه الفئات المختلفة من المجتمع، فأصبح قادرًا أن يكتب بأسلوب نافذ ومفهوم لجمهور واسع من القراء الصينيين.

والظاهر أن ما حفز جين لتوضيح القيم الإسلامية حتى لغير المسلمين هي البيئة التي عاش فيها. فكما يبين لنا هذا الكتاب فإن جمعًا من زملاء جين البيروقراطيين طرحوا عليه أسئلة عديدة. فواجه تحاملًا في الأكاديمية نابعًا من تصورات خاطئة ومغلوطة عن الإسلام متأصلة في أذهانهم، لعلها نبعت من قوالب تفكير نمطية سطحية واستمرت (حتى الآن) بسبب التفرقة العنصرية للمسلمين في الصين. تفاقمت هذه المفاهيم الخاطئة بسبب جهل المسلمين الذين لا يدرون كيف يشرحون دينهم لغيرهم أو من ليس لديهم وسيلة لشرحه حتى يدحضوا الشبهات عنه.

ألف جين كتابه واضعًا منهجية للتعامل مع هذه القضايا. إذ يبين في مطلع كتابه أن المجتمع الصيني كان يعيش في فترة انحلال وتدهور أخلاقي وروحي، وأن البوذية والطاوية فشلتا في حل تلك المشكلة. فرغم أن الفترة التي عاش فيها جين تعرف باسم “العصر الذهبي” للصين (عصر تشينغ العظيم 1616 – 1912)، إلا أن التناقضات الاجتماعية وفساد البيروقراطيين وفترة تدهور الزراعة المحلية تدريجيًا كانت تختبئ تحت هذا الغطاء الذهبي. وقد آمن جين أن الإسلام هو الحل لتقويم المجتمع في ذاك العصر.

لم يكتب كتابه ملتمسًا العذر، فهو يذكر في كتابه أن الإسلام يتشارك القيم العليا مع الكونفوشيوسية، بل إنه أسهم كثيرًا في تطور الصين وتاريخها. ولا يُقصَدُ بهذا أنه كان يبغي التوفيق بين المعتقدات المتعارضة في الدين أو الفلسفة، بل إنه حاول أن يبين أن الإسلام يحث ويسعى إلى القيم الحميدة الموجودة في نواة القيم الصينية المتناقلة عبر الزمن. ويذكر بالحجج المقنعة في كتابه أن المسلمين هم خير من مثل ما سعى له الصينيون من قيم حميدة، رغم أنهم أكثر فئة كانت تتعرض للتفرقة في المجتمع الصيني في ذلك الوقت.

كُتِب الكتاب كما تكتب نصوص الدراما، إذ يسأل السائل سؤاله ويجيبه جين، ويتخلل النص حوارات بين جين ونفسه. وفي خاتمة كتابه بيَّن أنَّ أولئك الذين يفتقرون إلى المعرفة بالعلوم الإسلامية الأساسية ومن لا يمكنهم الاستشهاد بالنصوص الصينية التقليدية أو تفسيرها لن يتمكنوا من تبديد الشبهات والتحامل على الإسلام في المجتمع الصيني. فهو يرى ضرورة إلمام الأقلية المسلمة بالدين والثقافة السائدين في مجتمع الأغلبية، إضافة إلى إلمامهم بأسس العقيدة الإسلامية. ورغم أن الكتاب كُتِبَ في القرن الثامن عشر، إلا أنه يعد كنزًا للأقلية المسلمة التي تعيش اليوم لما يقدمه من منظور فريد.

تكون جزءًا من أقلية مسلمة تقديم المفكر الصيني المسلم جين تيانجو3 أن تكون جزءًا من أقلية مسلمة

قسم المقدمة من كتاب درء الشبهات عن دين الإسلام لصاحبه جين تيانجو

النقاء والصدق هما أساسا الإسلام الذي نؤمن به، فما الغرض من هذا الكتاب المسمى درء الشبهات عن دين الإسلام؟

من يؤمنون بدين غير ديننا لا يفهمون تصرفاتنا، ولم تدحض شبهاتهم رغم مضي ألف ومائة عام. ما زالوا لا يفهمون لماذا نؤمن بهذه العقيدة ولم نتصرف بهذه التصرفات، لأنهم لم يقرأوا شيئًا من كتب الإسلام. يزيد الجهل من الشكوك والشبهات وتنتشر الشائعات السلبية عن الإسلام. ونتيجة لهذا تسمع من يقول:

“لا يتبع المسلمون التقويم الصيني، بل ينشئون تقويمًا سريًا خاصًا بهم مكون من 360 يومًا، ويجتمعون منفصلين عنا محتفلين بأعيادهم. يتحدث المسلمون بكلمات أجنبية ويلبسون ثيابًا مختلفة عنا، ولا يأكلون ويشربون ما نأكله ونشربه. لماذا يأكلون اللحوم والخضروات عند مغيب الشمس ولا يأكلون شيئًا نهارًا وهم صائمون؟ أي إله يعبدون وهم يصلون؟ ما الذي يفعله رجالهم ونساؤهم عندما يجتمعون في قتمة الليل ويرجعون عند الفجر؟ لم يقصون شعر أجساد آبائهم، ولكن يرمون أجسادهم (أي يدفنوها) في الأرض حتى تحول لحال غريب؟” ولم تُدحض هذه الشبهات حتى يومنا هذا.

لكن عدم دحض هذه الشبهات لا يعني انعدام الأفراد المؤهلين في المجتمع المسلم لردعها. فأسلافنا كرسوا أنفسهم لشرح مبادئ الإسلام، ولم يرغبوا في شرح وتفصيل هذه الأسئلة. إذ ألَّفَ أجدادنا كتبًا في أصول ديننا، مثل ما ألفه الشيخ وانغ دايو، مؤلفِ كتاب الشرح الصحيح للدين القويم (正教真詮)، وكتاب تعاليم الإسلام العظيمة (清真大学)، وكتاب السعي وراء الجواب الحق (希真正答)، كما ألف الشيخ ما تشو كتاب المرشد نحو الإسلام (清真指南). ثم جاء بعدهم الشيخ ليو تشي بكتابيه مبدأ الإله (天方性理) والعبادات والطقوس الدينية (天方典礼) وغيرها الكثير من الكتب. وكل هذه الكتب تمركزت على النصوص الإسلامية المقدسة وبينت أهميتها. فمواضيع هذه الكتب الرئيسية تدور حول الإيمان بوجود الرب وعبادته والفضائل اليومية. وأغلب ما فيها كتب للمجتمعات المسلمة. وأضف على ذلك أن هذه الكتب هي كتب ضخمة، مما يقلل احتمالية أن يقرأها من يؤمنون بدين غير الإسلام، لذلك تراهم يحكمون على الإسلام وفقًا لانحيازهم ويرفضون الاعتراف بجوهرة الحقيقة الجميلة والكاملة.

ولأنه لا يوجد تقريبًا من استأصل الشبهات عن دين الإسلام من جذورها، فلا توجد طريقة أمام المؤمنين بغير الإسلام لفهمه بوضوح، ولا تزال الشبهات حول الإسلام مستمرة. لكن حقيقة أن أسلافنا لم يستأصلوا جذور الشبهات لا تعني بالضرورة أنهم لم يتمكنوا من فعل ذلك، بل كانوا يعتقدون أن شمائل الأخلاق التي يحث عليها الإسلام هي نفسها الموجودة في الديانات الأخرى، لذا لم يعيروا النقد أهمية كبيرة. كما اعتقدوا أن الشبهات هي مجرد سوء فهم للعامة الجهلة وأنه لا حاجة للانخراط في الجدل حولها.

تكون جزءًا من أقلية مسلمة تقديم المفكر الصيني المسلم جين تيانجو2 أن تكون جزءًا من أقلية مسلمة

من أنا؟ أنَّى لي أن أكتب في هذا الصدد وقد سبقني رجال أخير وأعلم مني؟

هناك فرق كفرق السماء والأرض في الثقافة واللغة واللباس والأسلوب في كل أنحاء المعمورة، بل حتى داخل الصين نفسها، وهذا ليس مفاجئًا. لكن مكارم الأخلاق التي يجب أن يتحلى بها الناس هي نفسها. ولكن لو أتينا لما يقول منسيوس (أو منغ زو):[2] “يهمل يانغ تشو[3] مولاه، ويهمل مو زي  الآباء.” إذ رغم أن الأسلاف في البوذية والطاوية يعتبرون آلهة، ويمتدح أتباع هذين الفكرين المولى والأجداد، فإنهم ينبذونهم وراء ظهورهم في معاملاتهم وحياتهم لأنهم يهملون قيمتهم. أما الإسلام فإنه يراعي الروابط الثلاثة الرئيسية[4] والفضائل الخمس الثابتة[5] الموجودة في الكونفوشيوسية ويحث على الالتزام بمكارم الأخلاق. لكن هنا بالذات يختلف الإسلام اختلافًا كبيرًا عن الفلسفات المذكورة أعلاه وعن تلكم الأديان. فنحن نرى أنه في هذه اللحظة بالذات في هذا العالم بدأ مفهوما الإحسان والنزاهة يتلاشيان عند الناس، والرابطة بين الحاكم والمحكوم باتت مهملة، والشمائل الكونفوشيوسية بدأت تتلاشى، والصلة بين الآباء والأبناء باتت تختفي. لكن من يشككون في الإسلام يغضون الطرف عن هذه المشاكل الكبرى ويرفضون التعامل معها.

فإذا لقوا الذين ءامنوا تطرقوا إلى مسائل ثانوية ليسخروا منهم وينتقدوهم، وهم في الحقيقة لا يعلمون شيئًا عنا. لقد ساهم الإسلام في تنمية هذه البلاد طوال الألف ومائة عام المنصرمة، منذ سلالة سوي وتانغ حتى الوقت الحاضر، وليست القيم الكونفوشيوسية بأحسن منه في شيء. يعتقد معتنقو الديانات الأخرى أن تعاليمهم هي الصحيحة دون سواها لأنهم لا يعرفون علل سلوك المسلمين. ولأن مبادئ الإسلام بدأت تُنسَى – ما الذي نؤمن به، ولماذا نقيم هذه الشعائر – تضرر طريق الحق والنقاء، وضاعت الحقيقة يوم أن ترك العوام ذكرها في كلامهم. فوا أسفاه…

لست ملمًا بالإسلام والفلسفة الصينية، لكني درست الأسس التي تبين كيف صار العالم على ما هو عليه الآن. لذا لا يسعني السكوت عن هذا! وقد قال العلماء: “لا أحب الجدال، لكني أجادل لوجوبه علي.” أنا ملمٌ بكتب التعليم الأساسية منذ طفولتي، وقد بت الآن مترجمًا أعمل لكسب لقمة العيش. وإن صادفت اختلافًا بين الثقافة والعادات الموجودة في أسس الإسلام مع ما انتشر في الصين، أحاول أن أتحرى سببًا معقولًا بسيط الفهم وأشرحه لمن هم حولي كي لا ينشأ تنافر بين المسلمين وغيرهم. كما أن مولى المسلمين وغير المسلمين مولى واحد. وما دمنا كلنا رعاياه المتساوون، فلم يجب علينا أن نجلس في نفس الغرفة ونستمع إلى حجج غير مقنعة ويلعن بعضنا بعضًا؟ يهدف هذا الكتاب إلى التعامل مع الشبهات عن دين الإسلام. آمل أن يوضح أهمية الإسلام كما أراد أسلافنا أن يفعلوا ذلك. لقد لخصت وجهات نظري فيه. سيفهم الناس منها أن الإسلام والكونفوشيوسية يشتركان في شمائل الأخلاق، وستُدحض الشبهات والشكوك عن الإسلام. أدعو الله أن يساهم هذا الكتاب في نشر التوحيد.

ربيع 1738، أكاديمية هانلين، قسم الترجمة. 

جين تيانجو، المقدمة. 

المقال الأصلي نشر في موقع Traversing Tradition في 9 تموز/ يوليو 2020

الهوامش:

  1. بالإنجليزية “ahong” وتفيد لفظ الإمام أو شيخ الإسلام. 
  2. مؤسس المدرسة اليانغية (Yangism)، والتي تعتقد أن أفعال البشر يجب أن تستند على المصلحة الذاتية. 
  3. مؤسس المدرسة الموزية (Mohism) والتي تقوم على أساس الحب الشامل دون تفرقة. 
  4. أن اليين (العبد، الابن، الزوجة، …إلخ) لا يمكنه أن يسلك طريقًا بمفرده، لذا يَتَّكِلُ على اليانغ (الرب، الأب، الزوج، …إلخ). 
  5. الإحسان، الحق أو العدالة، ممارسة الشعائر، الحكمة، النزاهة أو الأمانة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى