“اللهم اكسر بنا شوكتهم، اللهم نكِّس بنا رايتهم، اللهم أذِلّ بنا قادتهم، اللهم حطّم بنا هيبتهم، اللهم أزل بنا دولتهم، اللهم أنفذ بنا قدرك فيهم، بالزوال والتدمير والتتبير يا رب العالمين، حقق بنا آمال شعبنا بالعودة والتحرير”.
دعوات للسنوار في أحد اللقاءات، تحديدًا في الرابع من أكتوبر قبل العبور بثلاثة أيام، تهمس بين حروفها بدلالات عميقة على الفهم الذي يتكئ عليه الرجل في مواجهة الاحتلال منذ 43 عامًا، بدايةً من عمله على تأسيس جهاز “مجد” الأمني، ورحلة الأسر الطويلة التي درس فيها العقلية الصهيونية، وفكك أبجدياتها التي استعصت على كثير من قادة الحركة.
فهمه للعقلية الصهيونية لم يأتِ إلا بعد بناء عقليته الخاصة، المبنية على استيعاب مفهوم رئيسي وثابت في المرجعية الإسلامية، وهو المدخل الذي نستطيع من خلاله فهم القدرة على العمل المستمر، والنفس الطويل لدى المقاومة في الإعداد والجهاد.
الصاعقة لن تنهي الاحتلال
منذ عهد سيدنا نوح يحدث في كل الأمم الآتي:
يبعث الله النبي للناس ليعلمهم التوحيد ويعرّفهم بربهم. يبقى النبي يدعو قومه مدة من الزمن، تطول أو تقصر، فيؤمن به البعض، في حين يبقى الأكثر على الكفر يعاند الفكرة الجديدة بكل الوسائل الممكنة، ليجد المؤمنون أنفسهم قلة مستضعفة مع نبيهم، ينتظرون قدر الله في الكفار، حتى تأتي سنة الإهلاك العام لكل كافر لم يؤمن بالنبي. وتبقى الفئة المؤمنة تقوم بشعائر الله فترة من الزمن، إلى أن يتقادم الزمن ويتشوه الدين بسبب بعض العوامل المؤثرة، فيرسل الله نبيًّا آخر ليصحح لهم الخلل، فيؤمن به البعض ويعترض الآخر… وهكذا.
هذا النمط كان موجودًا في كل الأمم السابقة، بمعنى أنه لا وجود لمفهوم التدافع لديهم أو الجهاد في سبيل الله، إلا في قصة طالوت لأن بني إسرائيل طلبوا ذلك. ومع بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم تغيّر هذا المفهوم تمامًا، فقد رُفع العذاب ووُضع السيف.
أصبح الجهاد من الفرائض التي أمر الله بها أمة نبيه الخاتم، ليس منذ البداية، بالرغم من وجود نوع من الجهاد في مكة كالصبر على البلاء والهجرة بالدين، وترك المال والمكانة في سبيل الله، إلا أن الكفاح المسلح لم يُؤمَر به بعد.
وعند الهجرة إلى المدينة كانت بدر هي التدافع الأول بين الإسلام والكفر، إيذانًا بتغير كبير في قواعد الاشتباك بين المعسكرين. لم يحدث كما في الأمم السابقة، إذ لم يبقَ المسلمون في المدينة يعبدون الله حتى يأتي العذاب الذي يهلك المشركين، بل كان المطلوب هو دعوة الإنسان، كل الإنسان، في الأرض كل الأرض، ولن يكون ذلك بالمكوث في المدينة. فكان المسلم هو قدر الله في أرضه، وعذابه على من كفروا به.
وهناك موقف في معركة اليرموك يوضح هذه الفكرة بشكل أوضح. فحتى بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يزال مفهوم التدافع عند الصحابة ركيزة أساسية من ركائز تحرير الأرض وبناء الدولة. لاحظ معي موقف خالد بن الوليد:
قبل بدء المعركة خرج من بين صفوف الروم قائد يدعى “جرجة” (وهذا اسمه في الكتب الإسلامية القديمة). نادى خالد بن الوليد ليخرج له بين الجيشين، وتقاربت الخيول حتى تلامست أعناقها. فسأل الرومي سؤالًا غريبًا لخالد: “هل أنزل الله على نبيكم سيفًا من السماء فأعطاكه، فلا تسله على قوم إلا هزمتهم؟”
فأجاب خالد: “لا. ولكن الله عز وجل بعث فينا نبيه صلى الله عليه وسلم فدعانا، فنفرنا عنه ونأينا منه جميعًا، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه، وبعضنا باعده وكذبه، فكنت ممن كذبه وباعده وقاتله.”
وأكمل خالد جوابه للرومي ليصل به إلى ما يريد وهو ما نريده نحن كذلك. فقال: “ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا، فهدانا به فتابعناه، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت سيف من سيوف الله سله على المشركين، ودعا لي بالنصر.” لم يُنزل الله سيفًا، بل خالد هو السيف.
هذا من الشواهد الواضحة على فهم الصحابة بأنهم هم من ينفذون قدر الله في أرضه، فإذا لم يكونوا هم فمن؟
العصا والكابتر
في مشهد استشهاد السنوار، تدخل المسيرة إلى غرفة الصالون التي يجلس فيها السنوار مصابًا على أريكة مغبرة، تشبه تلك التي ظهر عليها في بداية الحرب وتداولها كثير من الناشطين.
ملثم بالكوفية الفلسطينية، والغبار يملأ وجهه، والدم ينزف من يده. التفت إلى المسيرة التي دخلت عليه وكأنني أرى في نظرته تلك، رغم عدم الوضوح، ما تقول: “ولن يرمش لي جفن”.
لوح بما بقي لديه من قوة، فطارت عصا من يده في اتجاه المسيرة. ماذا تفعل عصا مقابل آلة قتل طائرة؟ ماذا تفعل كتائب مقابل جيوش الأرض؟ ماذا تفعل صناعة محلية مقابل أفضل صناعة وأقوى ترسانة؟
مثل هذه الأسئلة لا يطرحها من يفهم أن المطلوب منه الجهاد بالمستطاع، لا الجهاد بضمانة النصر.
المعادلة غير متكافئة منذ سنة كاملة والكل يعرف ذلك، لكن ما نراه هو التنكيل كل يوم بأقوى جيوش العالم عدة وعتادًا. وهذه الآية من سورة الأنفال تضعنا أمام الحقيقة التي يجب علينا الأخذ بها في حربنا ضد العدو الصهيوني اليوم، ولنُفهم كيف يتحرك النموذج الغزي: “فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ۚ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا”. هذا خطاب موجه للرسول عليه الصلاة والسلام، والمطلوب منه هو الجهاد بما يستطيعه هو وصحابته الكرام والتحريض على ذلك فقط، والله عز وجل يُنكِّل بالعدو ويُنزل بأسه على أيدي المؤمنين.
عندما رمى السنوار العصا على الكابتر، كان يعلم قبل أي أحد أن هذا لن يؤثر فيها، ولكن ذلك هو جهده وما يستطيعه في تلك اللحظة. عليه استنفاد هذا الجهد كاملًا كما هو مأمور، وقبل العصا كانت هناك القنابل التي رماها على الجنود فجرحت أحدهم، والاشتباك الذي لم ينتهِ إلا بقذيفة دبابة وإصابة يده التي ربطها ليوقف النزيف ويكمل القتال.
هذا المشهد لن يُفهم إذا اقتطع وحده فقط، والوصول إلى هذه القناعة لا يُولد بين ليلة وضحاها، فالقناعة هي العمل في مساحة الممكن والمستطاع وما يتيحه الواقع، وبذلك يتحقق الهدف. أما النتيجة، فليس الفرد من يقررها. هذه القناعة تُفهم من مشوار نضالي للمقاومة استمر سنوات طويلة، فيها من البذل والدماء والشهداء الشيء الكثير الذي تنبهر أمامه العقول وتعجز عن وصفه الألسن.
موته ليس النهاية
الجنون هو أن تفعل الشيء ذاته في كلِّ مرة وتتوقع نتيجة مغايرة. هذا ما يفعله الاحتلال منذ اغتيال المؤسِّس الشيخ أحمد ياسين، وبعده بشهر لحقه خليفته الرنتيسي، ولم تنتهِ المقاومة. بالأمس كان هنية، واليوم السنوار، ولن تنتهي المقاومة. ونهاية القائد يحيى بهذه الطريقة ستُحيي بعده أشياء ظننا أنها ماتت منذ زمن. ستحيا بعده أمة تموت على ما مات عليه القادة.
هل يمكن للسنوار بمشهده الختامي، وعقليته، وشخصيته التي وصلت تقريبًا إلى كل العالم وسمع عنها، أن يكون لحظة فارقة في أيام الصراع القادمة؟ يجيب على هذا السؤال الدكتور راغب السرجاني بقوله:
“من المؤرخين من يشكك بأن التاريخ يصنعه إنسان بعينه، وأن الإنسان الفرد لا يقوى على تغيير المجتمعات وحركة التاريخ، ولكن التاريخ نفسه يثبت عكس ذلك، فقد تغيرت حركة التاريخ تمامًا في أزمان كثيرة وفي أماكن متعددة بظهور أشخاص بعينهم. ولا أقول: إنها تغيرت بحياة رسول أو نبي فهذا واضح مفهوم، ووجود الوحي والتوجيه الرباني المباشر يجعل المقارنة مع بقية فترات التاريخ مستحيلة، ولكن أقول: إن حركة التاريخ تتغير بأشخاص معينين ليسوا أنبياء ولا رسل. فقد تغيرت حركة التاريخ بوجود أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وحروب الردة شاهد على ذلك، وتغيرت حركة التاريخ بوجود عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وراجعوا فتوح الإسلام. وتغيرت حركة التاريخ بوجود عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وموسى بن نصير، وعبد الرحمن الداخل، وعبد الرحمن الناصر، وعماد الدين زنكي، ونور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي، ومحمد الفاتح، وعبد الله بن ياسين، ويوسف بن تاشفين، وغيرهم كثير جداً رحمهم الله جميعاً. وعلى الرغم من أنهم يظهرون على فترات متباعدة، إلا أن أثرهم يمتد إلى آماد بعيدة.”