بداية تجب الإشارة إلى أن الأصل الذي تقوم عليه الفلسفة البراجماتية هو العمل والإنجاز وجلب المنفعة ودفع المضرة، ومن هذا الأصل ابتعدت هذه الفلسفة عن الميتافيزيقا (مناقشة ما وراء الطبيعة) وقررت أن الصواب والحقيقة يكمنان في النجاح على الأرض، فأي فكرة تنجح وتحقق إنجازا هي الصواب، وأي فكرة تفشل هي الخطأ.
هذه الفلسفة انبثقت من الدين وبالتحديد المذهب البروتستانتي، فإن الذين أنتجوا الرؤية الدينية البروتستانتية رأوا أن الدين بمفهومه الكاثوليكي الرهباني، الزاهد في الدنيا، المتطرف في مراقبة الناس، الذي أنتج ونصب محاكم التفتيش، يقيد الإنسان عن التفكير والإبداع والعمل والإنجاز وإعمار الأرض.. إذن فهو فكرة خاطئة وفاشلة، ويجب تغييرها، وقد خاضوا صراعا عنيفا مع الكاثوليكية حتى رسخوا البروتستانتية.
الدين بمفهومه البروتستانتي من أهم المرتكزات التي بنيت عليها الولايات المتحدة الأمريكية، فإلى الستينيات من القرن العشرين كانت الأمة الأمريكية أمة محافظة: تراقب الإله، وتهتم بالكنائس، وتحافظ على الأسرة، وعلى العلاقة الشرعية بين الرجل والمرأة، حتى إنهم كانوا يضيقون على السهر بعد العاشرة ليلا، ويفصلون بين الجنسين في المدارس الداخلية بصرامة، وكانت وسائل اللهو عندهم محدودة، وذلك لأن المحور الذي يدورون حوله هو الجد والعمل والإنجاز، ويرون أن اللهو واللعب لا يصنع الحضارة.
هذا المحور من الجد والمثابرة هو الذي جعلهم مركز الأرض.. فجاءتهم الكنوز من كل مكان، وفُتحت عليهم الدنيا بلا حساب.. والدنيا عندما تفتح على الإنسان تدعوه إلى الترف والتمتع بالشهوات والملذات وفق سنة (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) فظهرت أجيال جديدة من الأمريكان ترغب في التمتع بهذه الأموال.
ومع هذه الرغبة الجامحة بدأت الفلسفة البراجماتية ترى أن الدين قد قيد حرية الأمة الأمريكية ومنعها من التلذذ بهذه المنجزات، إذن فهو فكرة غير ناجحة ينبغي تغييرها.. وفي هذه الأجواء ظهرت فلسفه نيتشه التي أعلنت (موت الإله) وأن الإنسان قد صار حرا يفعل ما يشاء دون أي قيود تمنعه من اللذة والشهوات.
وعلى فلسفه نيتشة التي وافقت هوى الأجيال الجديدة تحولت أمريكا ابتداء من السبعينيات إلى هذه المرحلة التي وصل فيها الأمريكان إلى المثلية والتحول الجنسي والعبث المجنون.
في هذه المرحلة من مسيرة أمريكا أدرك منظرو الحزب الجمهوري الذي يمثل المؤسسين الأوائل أن نظرية (موت الإله) قد أوصلتهم إلى حافة الانهيار، فقد صارت الأجيال الجديدة من الأمريكان -بسبب شعورهم بالضياع، وإيغالهم بالشهوات والملذات، وانحرافهم عن طبيعة الفطرة البشرية بما يسمى بالتحول الجنسي وغيره من السخافات- صارت هذه الأجيال غير قادرة على الحفاظ على المنجزات… إذن فنظرية (موت الإله) وفق الفلسفة البراجماتية فكرة فاشلة مدمرة ويجب أن تنتهي فورا، وتعود أمريكا إلى عهدها الأول من التدين والجد والاجتهاد.
وبطبيعة الحال من الأمم الغالبة فإن هذه الأمة الأمريكية تريد أن تنتج دينا عصريا خاصا بها، هو مزيج من الأديان مع بصمة أمريكية، مثلما فعل جنكيز خان في كتابه (الياسق) عندما صارت دولته أعظم دولة في العالم في زمانه، ومثلما فعل قسطنطين إمبراطور الرومان ومستشاروه عندما وحدوا إمبراطوريتهم في القرن الثالث الميلادي على سردية دينية استنبطوها من دين المسيح مع تعديلها بما يوافق مصلحة دولتهم.
على سبيل المثال لا الحصر من توجه أمريكا الجديد، عندما نسمع ترامب يقول إن المرأة الأفغانية على حق بتغطيتها لرأسها، لأن ذلك يجعلها امرأة جادة لا تصرف أموالها في مساحيق الوجه والجسم والشعر، ولا تضيع وقتها في محلات التجميل هو يريد أن يوصل رسالة إلى المجتمع الأمريكي أن المسلمين صاروا أناسا جادين بينما الأمريكان في ترفهم يعمهون، وإن لم يعودوا إلى الجد والاجتهاد والمثابرة وإعادة مراقبة الإله وتعزيز الضمير والأمانة والأسرة كما كانوا في عهد التأسيس فإن ذلك سيؤدي حتما إلى سقوط أمريكا.