لا أعرفُ أحدًا تحقَّقتْ فيه معاني اسمِه كاملًا كَما تحقَّقتْ في العلَّامةِ الجليلِ محمود توفيق سعد، فقد كانَ الحمدُ ملءَ ثيابِه، والتَّوفيقُ واقفًا على بابِه، والسَّعدُ سَائرًا في ركابِه، ممَّا يجعلُنا نردِّدُ قولَ الأوَّلِ:
وَقَلَّمَا أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ ذَا لَقَبٍ
إِلَّا وَمَعْنَاهُ، إِنْ فَكَّرْتَ، فِي لَقَبِهْ
لقد كان قِبلةً لِطلَّابِ العلمِ الذينَ يلتمسونَ التَّوفيق، دُونَ تَعريجٍ على بُنيَّاتِ الطَّريق، فتراهمْ لا يحجُّونَ سِبَّ الزِّبرقانِ الـمُزَعْفَرا، وإنَّما يؤمُّونَ عالـمـًا بالتواضع مُتدثِّرًا، ويَروْنَ في مَوْسوعيَّته تصديقَ قولِ أبي الطيِّبِ:
وَلَقِيتُ كُلَّ الفَاضِلِينَ، كَأَنَّمَا
رَدَّ الإِلَهُ نُفُوسَهُمْ وَالأَعْصُرَا
وقدْ قَضَى الراحلُ عُمُرَهُ -الذي أرْبى على السَّبعين عامًا- زاهدًا في تلك الأضواءِ الزَّائفةِ، التي طالما سُلِّطَتْ على فئامٍ من المتعالمينَ الفارغينَ، حتَّى غرَّتْهم أنفُسُهم الغاويةُ وعقولُهم الخاويةُ، فَحَسِبوا أنَّهم على شيءٍ، وطاولتْ أرضُهم السَّماءَ السَّابعة، وفاخِرتْ جنادِلُهم الشُّهُبَ اللَّامعةَ، فألقى تلك الدُّنيا بِزُيُوفِها وراءََه ظهريًّا، وأعرضَ ونَأَى بجانِبِه عن أضواءٍ إعلاميَّةٍ لا تخلُو من زُور، ولا تبرأُ من فجورٍ، واعتكفَ في محرابِ عَلْمِه تأليفًا مُبْتَكرًا باذحًا، وتدريسًا مُؤسِّسًا راسخًا، وطبَّقَ الزُّهدَ العَمَلِيَّ على نفسِهِ، دَيْدَنَ السَّلَفِ الصَّالحِ، الَّذي يُذكِّرُكَ سَمْتُهُ وصِدْقُ لَهْجَتِه بهمْ، فتراهُ يرتدِي ملابسَ مُتواضعةً، ويركبُ المواصلاتِ العامَّةَ في ذهابِه وإيابِه من مسكنِهِ بمدينة الشروقِ، ولو شاءَ لوفَّرتْ له هيئةُ كبارِ العلماءِ -التي هو أحدُ أعضائِها- سيَّارةً تحمِلُهُ حيثُ يشاءُ، ولكنَّه تركَ للناسِ دُنياهم؛ ليسلمَ له دينُهُ، مُؤكِّدًا أنَّ الزُّهدَ الصَّادقَ سلوكٌ وممارسةٌ عمليَّة، لا مراوغةٌ وشقشقةٌ بيانيَّةٌ، ومُدلِّلًا على أنَّ عَمَلَ رَجُلٌ فِي أَلْفِ رَجُلٍ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِ أَلْفِ رَجُلٍ فِي رَجُلٍ، ولذا تراهُ مُؤثرًا الصَّمتَ، وهو الذي يملكُ فصلَ الخطابِ، فربَّما كانَ في صَمْتِهِ أبلغُ جوابٍ، لكنَّه عندما يرى الصَّمتَ كتمانًا للشَّهادةِ، وفِرارًا من الزَّحْفِ كانَ يُبرقُ ويُرعِدُ، ويُرغِي ويُزبِدُ، ويقولُ كلمةَ الحقِّ، لا يخشى في الله لومةَ لائم، كما رأينا في ردِّه المؤيَّدِ المسدَّدِ على وزير الأوقافِ، عندما اجترأ على الشيخ ابن عثيمين، وادَّعى عليه وعلى عموم الأزهريين ما لا يليقُ، فَحالَفَهُ التَّلفِيقُ، وخَالَفَهُ التَّوفيقُ.
ومن فقهِ الشَّيخِ الجليلِ أنَّه كانَ يَفصِلُ بين التَّواضُعِ بمعناه الصَّحيحِ الذي أخذ نفسَه به، وعزَّةِ النَّفسِ التي ينبغِي أنْ تكونَ شِعارَ المسلمِ وَدثارَه، عَمَلًا بقوله تعالى: (وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤْمِنِينَ)، فقدْ سمعتُهُ غيرَ مرَّةٍ يُنكِرُ على طُلَّابِ جنوبِ شرق آسيا أنَّهم ينحنونَ في تواضُعٍ واستكانةٍ وهم يقبِّلونَ أياديَ شُيوخِهم، والحقُّ أنَّ تلك عادةٌ توارثُوها مع كلِّ مَنْ يَكبُرُهمْ، وقدْ عِشْتُ بين ظَهرانِيهم أعوامًا، حتَّى رأيتُ طالبةً تُقبِّل يدَ زَميلتها التي تَسْبِقُها بعام دراسيٍّ واحدٍ، لكنَّ الشيخَ يرسمُ معالمَ الطريقِ لطالبِ العلمِ النَّابِهِ، مُبينًا أنَّ البِرَّ بالشَّيخِ ليس بتقبيلِ يَدِه أو رأسِه، أو حملِ حقيبتِه وحِذائِه، أو إفساحِ الطريقِ له، ونحو ذلك من المظاهرِ الفارغةِ، التي قد تُفسِدُ بعضَ الشُّيوخِ، فيُخالِطُهم الغُرورُ بما يَرَوْنَ من إجلالِ الطُّلابِ لهم، وإنَّما البِرُّ بالشيخِ أنْ تُحْسِنَ التَّلَقِّيَ عنه، وأنْ تستثمِرَ ما تلقَّيْتَهُ عنه، وأنْ تنشُرَهُ بينَ النَّاسِ، وأنْ تدعوَ له، ولعمرِي إنَّه لفهمٌ سديدٌ، يأخذُ من الرُّشْدِ بأوفى نَصيبٍ.
وقد طبَّقَ الرَّاحِلُ الجليلُ هذه الوصيَّةَ في علاقته بشيخِهِ العلامَّةِ محمَّد أبو موسى، بارك الله في عُمُرِه وعِلْمِه، وفي تقديري أنَّ هذهِ العلاقةَ تحتاجُ دراسةً شاملةً؛ لأنَّها نمطٌ فريدٌ قلَّ تكرارُهُ، فالشَّيخُ يَصِفُهُ في غير موضعٍ بأنَّهُ أنجبُ تلاميذِه، ويقول عنه إنَّهُ التِّلميذُ الذي فاقَ أُستاذَه، وقد بلغتْ شهرةُ تلميذِهِ عَنانَ السَّماء، وصارَ عضوًا في هيئةِ كِبارِ العلماء، ومع ذلك كانَ يَحضُر أحيانًا مجلسَ شيخِهِ الأكبرِ، ويقعدُ بين يديْهِ مع طلابِه في صَحْنِ الجامعِ الأزهرِ، رَاجيًا أنْ تُسعِفَهُ الصِّحةُ فلا يفوتُ منه مجلسٌ، وقد ألحَّ علي شيخه أنْ ينشرُ على طلابِ العلمِ محاضراتِه في علمِ البديعِ، فاعتذر الشَّيخُ؛ لأنَّه ليس راضيًا عمَّا قدَّمَ فيها كلَّ الرِّضا، لكنَّ تلميذَه الأبرَّ أبى أنْ يَضيعَ ما قدَّم الشَّيخُ سدًى، فطبَّقَ القاعدةَ الأصوليَّة: ما لا يُدركُ كُلُّهُ لا يُتركُ جُلُّهُ، ومن ثمَّ عَمَدَ إلى تلكَ المحاضراتِ، وقام بتفريغِها، والتعليقِ عليها، ثم نشرها بعنوان: (علمُ البديع عند الشيخ محمَّد محمَّد أبو موسى)، وكان بوسْعِه أنْ يَهْتَدِيَ بِنُورها، وأنْ يؤلِّفُ على نهجِها، وحاشا له أنْ يرتكسَ في حمأةِ ما يرتَكِسُ فيه أبناءُ هذا الزَّمنِ الرَّديءِ من النَّسخِ والمسخِ والسَّلخِ، ولكنَّه أبى إلَّا البرَّ الأتمَّ بشيخِه، وكأنَّه يُعيدُ عمليًّا مقالةَ الإمام الشَّافعيِّ، رضي الله عنه: “وَدِدْتُ لو أنَّ النَّاسَ انتفعوا بهذا العلمِ، ولم يَنْسِبوا إليَّ منه حرفًا”، وقوله: “مَا ناظرتُ أحدًا قطُّ، فأحببْتُ أنْ يُخْطِئ، وما جَادلتُ أحدًا إلَّا تمنَّيْتُ أنْ يُجْرِي اللهُ الحقَّ على لِسانِه”، وقد كان الشَّيخُ كثيرَ التمثُّلِ بهذه الكلماتِ الوضَّاءةِ، والأهمُّ من التمثُّلِ أنَّه كانَ يُطبِّقُها عَمليًّا على نفسه، وشتَّانَ ما بين الـمُنظِّرين، والمطبِّقينَ المخلصين، الذين تجرَّدوا من حُظوظِ نفوسِهم طُرًّا، فارتقوا إلى منازلَ لا يَصِلُ إليها إلَّا الأولياءُ حَقًّا. ولعلَّ من أمثلِ مَواطِنِ بِرَّهِ بِشَيْخِه أنَّه عَمَدَ إلى كتابِه: (شرح أحاديث من صحيحِ مُسلم: دراسة في سَمْتِ الكلام الأول)، وقدَّم كتابًا حولَه سمَّاه: (الكلمةُ نورٌ: مُحاوراتٌ منهجيَّةٌ في كتاب شرح أحاديث من صحيحِ مُسلم لشيخنا محمَّد أبي موسى)، وقد أهداهُ الكتابَ مُفتتحًا إيَّاه بهذه السُّطورِ الرَّائقةِ: “هذه أوراقٌ رقنْتُها تحدُّثًا بنعمت الله وسبحانه وبحمده عليَّ؛ أنْ جعلني ربيبَ فكرِك وبَيانِك، ووليدَ حَزْمِكَ الرَّؤوفِ، وغرسَ يمينِكَ المباركِ الدَّافقِ بجليلِ العطايا”، وقد جعله في أربعةِ فصولٍ، أوَّلها: ضوابطُ قراءةِ بيان النبوَّة ومعالمها عند الشيخ، وثانيها: آلاتُ القراءةِ عند الشَّيخ، وثالثُها: أبعادُ قراءَتِه في صحيح مسلم، ورابعُها: قضايا كليَّة في قراءة الشيخِ بيانَ النبوَّة. ولا أدري ماذا يسمى هذا النمط من التأليف، فليس شرحًا أو حاشيةً على عادةِ القدماء، وليس دراسةً نقديَّة على طريقةِ المحدَثين، ولكنَّها قراءةٌ استلهاميَّةٌ، ومحاورةٌ استكشافيَّة، تُسلِّطُ المزيدَ من الأنوارِ على نورِ فكرِ الشَّيخِ ليكونَ الكِتابُ نورًا على نورٍ، وتتوخَّى وضعَ علاماتٍ على الطَّريقِ لمنْ يهتدي بنورِ النَّجمِ، ليكونَ النَّجمُ وواضعُ العلاماتِ شَريكَيْنِ في حملِ الرَّايةِ، وقَسيمَيْن في بلوغِ الغَايةِ.
ومن مآثر الرَّاحلِ الجليلِ أنَّه لا يرى مكانةَ العالمِ بكثرةِ مُؤلَّفاتِه، فبُغَاثُ الطَّيرِ أكثرُها فِراخًا، وأمُّ الصَّقْرِ مِقْلاتٌ نَزُورُ، ولذا لم يَسْتفرغْ طاقَته في تسويدِ المذكِّراتِ الملأى بالمكرَّراتِ؛ يَقينًا منه أنَّ النُّفوسَ السَّويَّةَ جُبِلَتْ على مُعاداةِ الـمُعاداتِ، فترى ضَمْنَ مؤلِّفاته تلك العناوينَ الباذخةَ: (دلالة الألفاظ على المعاني عند الأصوليِّين: دراسة منهجيَّة تأويليَّة ناقدة)، (سبل استنباط المعاني من الكتاب والسُّنَّة: دراسةٌ منهجيَّة تأويليَّة ناقدة)، (إشكاليَّة الجمع بين الحقيقة والمجاز في البيان القرآني)، (تغييب الإسلام الحقّ: دحض افتراءات دعاة التنوير على القرآن الكريم)، (المعنى القرآنيّ: معالم الطريق إلى فقهه في سياق السورة؛ رؤية منهجيَّة ومقاربة تأويليَّة)، وله مقالاتٌ رائقةٌ منها: فقه تغيير المنكر، مستويات بناء صورة المعنى في العقل البلاغيِّ، اللُّغة العربية لُغَةُ كتابٍ وهُويَّةُ أمَّة، الرِّجال قوَّامون على النساء؛ مُدَارساتٌ إيمانيَّةٌ أخلاقيَّةٌ في ضوء علم البلاغة العربيِّ… إلى غيرها من الكتابات التي تجمع البلاغةَ والتَّفسيرَ والأصولَ وفِقهَ الوَاقعِ في قَرَنٍ واحدٍ، وتؤكِّدُ أنَّ قضيَّته المحوريَّة هي إحياءُ الفكرِ العربيِّ، وتنبيهُ النَّاشئةِ على أهميَّةِ تُراثِ أسلافِهم، ومُناداةُ الحائدينَ: ليسَ الطرَّيقُ هُنالك، وهي القضيَّةُ التي ألحَّ عليها شَيْخُه في جميعِ مؤلَّفاتِه، وبخاصَّة في مقدماتها، وهو ما فصَّلْتُه في بحثي عن الشيخ أبي موسى بعنوان: (النَّذيرُ العُريان)، المنشورِ في كتابِ الدِّراساتِ المهداةِ إليه بمناسبةِ تجاوُزِهِ الثَّمانين، فترى التلميذَ يقصُّ أثرَ شيخِه، حيثُ يشيرُ -على سبيل المثال لا الحصر- في كتابِه المعنى القرآنيّ إلى جمالِ وجَلالِ تُراثِ العربِ في علم المقاصدِ قائلًا: “ولعلمائنا نظرٌ وسيعٌ مُتغوِّرٌ في هذا الباب، لا تكادُ تجدُ له نظيرًا عند غيرهم، ولو أنّا أحسنَّا فِقْهَه، ونشْرَهُ في دِيارنا، ثمَّ في دِيارِ غَيْرنا؛ لَعَلِمُ الآخرُ قَدْرَنَا، ولَسَعَوْا إلى الأخذ عنّا، لا أنْ نَسْعَى إلى قَمِّ فُتات موائدهمْ، وإلى العَبِّ من رجيع عقولهم”، وكأنِّي بالشَّيخ والمريد يَصرخانِ بصوتٍ جهيرٍ أنْ تنبَّهوا إلى تراثِ أسلافِكُم، وأنْ تعلَّموا صِنَاعَةَ الفكرِ؛ فإنَّ صِناعةَ العُقُولِ النَّاقِدَةِ المتفتِّحة أولى من تلقينِ العلمِ لفئامٍ ليستْ لديهم ملكةٌ ناقدةٌ، وإنما هم كما قال الشَّاعرُ في حقِّ بعضِ حَفَظَةِ الأشعارِ:
زَوَامِلُ لِلأَشْعَارِ، لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ
بِجَيِّدِهَا إِلَّا كَعِلْمِ الْأَبَاعِرِ
لَعَمْرُكَ، مَا يَدْرِي الْبَعِيرُ إِذَا غَدَا
بِأَحْمَالِهِ، أَوْ رَاحَ مَا فِي الْغَرَائِرِ
وبعدَ حياةٍ حافلةٍ بالجهادِ بالكلمةِ المستنيرةِ، وبالتجربةِ المفعَمَةِ بصدقِ اللَّهجةِ ونَقاءِ السَّريرةِ، أفضتْ رُوحُه إلى بارئِها يومَ الخميسِ الثامن والعشرين من شهر شعبان 1446هـ الموافق السابع والعشرين من شهر فبراير 2025م، فضجَّتْ مواقعُ التَّواصُل الاجتماعيِ بِنَعْيِه، وفزعتْ آمالُ حَواريِّيه إلى رَجاءِ كَذِبِه، إذ بكاه كلُّ مَنْ عَرَفَه، وتألَّم لفراقه كلُّ مَنْ لابَسَه ولو يسيرًا، وحسبكَ أنْ يشهدَ له فضيلةُ الإمامِ الأكبرِ بأنَّهَ “كانَ نقيَّ الضَّميرِ، عفَّ اللَّسانِ، لا يقولُ إلَّا خيرًا، وقد تميَّز بهمَّةِ الشَّبابِ وحكمةِ الشيوخ، ولم يطلبْ أمرًا من أمور الدَّنيا، فقد عاشَ مُنْكَبًّا على طلب العلم ونشره”، فرحم الله تلكَ الرُّوحَ الزكيَّة، والنَّفسَ النقيَّة، وشفَّعَ فيها ما قدَّمَتْ منْ علومٍ سنيَّة، وإنَّا لنرجو أنْ تتلقَّى الملائكةُ روحَهُ قائلةً: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً.
❃❃❃