أدب

القراءة.. نزهة بين السطور

ليس عبثا أن تفتتح الرسالة السماوية الأخيرة إلى الإنسان بأمر إلهي يأمر بأن تكون القراءة المعتصمة باسم الرب الخالق هي وسيلة المعرفة: [اقرأ باسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق* اقرأ وربك الأكرم* الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما يعلم*].

فالقراءة سياحة فكرية، روحية، ومتعة حسية، وجسر عبور إلى عوالم غابرة وأزمنة لم تأتِ بعد، وتحرر للعقل من سجن تجاربه الضيقة. فمن خلال القراءة نرافق العظماء والمفكرين بين السطور، ونرى الأمور من زوايا متعددة، ونتحرر من الانغلاق الفكري.

وعبر صفحات الكتب نزور المدن، ونتأمل الطبيعة، ونتذوق أصناف الطعام، ونتعرف على روائح العطور، ونسكن في قصور الملوك، ونزور قلاع الفلاسفة، ونعيش حياة أخرى موازية لحياتنا، فيمتزج الواقع بالخيال، ويلتقي المجانين بالحكماء، ويتحاور أبطال القصص والروايات مع شخصيات من الواقع.

ومن خلال القراءة نعيش حياة لا تخصنا، ونتقمص أرواحا لم نلتقِ بها، ونحمل في رؤوسنا أفكارا لم تكن لنا، فالقراءة جنون جميل، ونعيم لا نهاية له، وخضوع لعملية مستمرة تعيد تشكيل وعينا وفهمنا لذواتنا وللعالم من حولنا.

ومن خلال صفحات الكتب نقف في ساحات الفلسفة نناقش الفلاسفة أسئلتهم التي لا تنتهي، ونسير في شوارع باريس مع كبار الأدباء والمفكرين، وتهيم أرواحنا في حدائق اللغة وفتنة الحروف بين قوافي الشعراء.

تعلمنا القراءة كيف نبني المدن الفاضلة في حضرة أفلاطون، وتدفعنا للاعتراف بأن الحكمة تبدأ بالاعتراف بالجهل وفقا لما شدد عليه سقراط، ويلهمنا أرسطو أسس التفكير العلمي، قبل أن نعيش الجدل الجميل الذي أثاره الفيلسوف ابن رشد بشأن التوفيق بين الفلسفة والدين، وكيف أثر لاحقا على الفكر الأوروبي في عصر النهضة.

وفي مؤلفات أبي حامد الغزالي سنجد أنفسنا نتنقل بين أفكار النفس ومشاعرها التي تبرز في كتابه “إحياء علوم الدين”. لقد كان الغزالي من أبرز علماء الإسلام الذين تناولوا تطهير النفس من الشوائب، كما كتب عن كيفية تقويم السلوك الشخصي وعلاقته بالخالق، وقدم للأمة الإسلامية دروسا عميقة في علم الفقه والتفسير، وكيفية بناء الإنسان المثالي الذي يوازن بين الجسد والروح، وينسجم مع معايير الأخلاق العالية.

وسنجد أنفسنا داخل حديقة غناء عندما نقرأ كتاب “هكذا علمتني الحياة” لمصطفى السباعي، الذي نقل لنا من تجاربه الشخصية دروسا في الصبر والتحمل والتفاعل مع الحياة بتوازن عميق، واختصر في كتابه فلسفته الخاصة في معايشة الحياة، ويعلمنا كيف نواجه التحديات دون انكسار، مع التأكيد على أهمية التربية الذاتية والنمو الداخلي، ويغرس فينا فكرة أن الحياة مدرسة لا تنتهي، وأن كل يوم هو درس جديد.

أما قراءة “في ظلال القرآن” لسيد قطب، فإنه مسار طويل للنفوس التي تسعى للاستنارة والهداية عبر التفسير اللغوي للآيات، فمن خلال التفكر والتدبر في معاني آيات القرآن الكريم نجد أنفسنا في مواجهة مع أسئلة الحياة الكبرى، ونتعلم من القرآن كيف نعد أنفسنا لمواجهة تحديات الحياة بكل صبر وثبات.

وعند السياحة في أفياء شعر الثائر محمد محمود الزبيري.. سنجد كيف تناول قضايا الحرية والرفض للظلم والاستبداد، وكانت قصائده بمنزلة صرخات ترفض الاستسلام لأي شكل من أشكال القمع، وكان شعره يعكس ضمير الأمة، وملهما للثوار والمثقفين في السعي من أجل الحرية والعدالة، والتخلص من الإمامة الكهنوتية الاستبدادية.

ومن خلال القراءة في كتب الشيخ يوسف القرضاوي، ستجد نفسك وكأنك في إحدى أمسياته الرمضانية في أحد مساجد الدوحة، وهو يجيب عن تساؤلات المصلين حول شؤون الدين والحياة.. يشرح لهم كيف أن الإسلام ليس دين تطرف أو تهاون، وأنه دين وسطية واعتدال، ويشدد على ضرورة أن تبقى الصحوة الإسلامية متوازنة، وأن تحافظ على الثوابت وتواجه التحديات الفكرية التي تطرأ، ويوضح أنه بين الغلو والتفريط يكمن الطريق المستقيم.

وإذا خطر في بالك هذا السؤال: كيف يمكن للإسلاميين أن يحافظوا على صحوتهم في زمن التشدد والتمزق؟ ستجد الإجابة في كتب المفكر محمد أحمد الراشد، وهي أن الصحوة الإسلامية بحاجة إلى ترشيد، فالإسلام لا يقاس بتيار واحد، بل فالصحوة هي فكرة وعملية تتطلب التوازن بين الاعتقاد والعمل، دون الإغراق في الغلو في الدين أو إهمال المسؤولية إزاء العالم، فالصحوة الصحيحة هي التي تضع الإسلام في إطار السلم الاجتماعي والعالمي، بعيدا عن التشدد والتفريط.

والآن أنا داخل مكتبة ضخمة تجمع كتبا فكرية وثقافية، كان المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري يجلس فيها متأملا في كتاباته حول الحضارة الغربية، سألته: ما الذي دفعك لتحليل الحضارة الغربية بهذه الطريقة؟

أجاب المسيري بنظرة حادة: الحضارة الغربية تقوم على أسس مادية وعلمانية، وقد أدت إلى تفكك القيم الإنسانية، وما يعتقدونه تقدما هو في واقع الأمر تحلل قيم الإنسان من الروحانية والأخلاق.

سألته: إذا كانت هذه الحضارة تهدف إلى تحقيق التقدم، فلماذا تؤدي إلى هدم الإنسان؟ أجاب: التقدم لا يكون بمعزل عن الأخلاق، فالحضارة الغربية تروج للعلم المادي على حساب الروح، وقد أدى ذلك إلى اغتراب الإنسان وفقدان معناه، والحضارة التي تضع الإنسان في مواجهة مع ذاته لا يمكن أن تكون حضارة متكاملة.

وفي ركن هادئ في مقهى قديم، حيث الهواء يحمل رائحة القهوة والذكريات، التقيت بمحمد الماغوط، وهو يكتب على ورقة مهملة سطورا تفيض بالمرارة والرفض، ابتسم وقال لي: أهلا بك في عالم الفقر والحرية الزائفة، هل تعلم أن أكبر ثورة يمكن أن يقوم بها الإنسان هي أن يواجه نفسه؟

أجبته وأنا أنظر إلى ملامح وجهه الذي تشبع بملامح القهر والقلق: لكن الثورة الحقيقية هي التي تتحقق خارج النفس، في المجتمع وفي الواقع الملموس، ألا تعتقد بذلك؟

أجابني الماغوط وهو يرسم خطوطا عميقة على الورقة: نعم، الثورة الحقيقية تبدأ من الذات، لكن المجتمع هو المكان الذي يقاوم فيه الإنسان بقايا الاستبداد، وعندما تتحقق الثورة في الروح، يصبح العالم حولك أكثر صدقا.

وفي إحدى المكتبات العتيقة، وجدت أنيس منصور جالسا على كرسيه المريح، محاطا بكومة من الكتب والمقالات، نظر إليّ وقال: هل جئت لتتحدث عن الفلسفة أم عن الأدب؟ سألته: هل تعتقد أن الأدب يمكن أن يغير العالم؟ أجاب: لا، الأدب لا يغير العالم مباشرة، لكنه يغير الأفراد، وإذا غير الأفراد، يمكن أن يتغير العالم، وفي النهاية التغيير يبدأ من الداخل.

في القراءةِ والكتب3 القراءة.. نزهة بين السطور

وإذا كانت الفلسفة تطرح الأسئلة، فإن الأدب يروي القصص التي تجيب عنها، فها هو شكسبير يقف على خشبة المسرح مجسدا مأساة الإنسان في “هاملت”، وبالقرب منه نجد فيودور دوستويفسكي يبحر في أعماق النفس البشرية كاشفا هشاشتها في “الإخوة كارامازوف”، وسنشاهد معه الصراع بين المشاعر والأفكار في زوايا العقل والقلب، ونعيش مشاعر المجرمين وهي تتأرجح بين الندم والتبرير في “الجريمة والعقاب”، كما نستشعر هشاشة وقوة الإنسان الباحث عن ذاته وسط الفوضى في “الأبله”.

وبلغة الضاد، تمكن نجيب محفوظ، من خلال رواياته العميقة، من جعل الحارة المصرية مرآة تعكس هموم الإنسانية.

وفي لحظة صمت وأنا في مكتبتي المنزلية، تسلل غابرييل غارسيا ماركيز إلى داخل المكتبة دون أن يطرق الباب، فالتفتُ نحوه مستغربا وعرفت فورا أنه ماركيز، ابتسم وسألني: من أنت وماذا تفعل؟ أجبته: أنا فرد من آل بوينديا وأعيش هنا في “مئة عام من العزلة”، أنا هنا في عالمك الساحر حيث تختلط الأسطورة بالواقع، وأتحسس الخيط الرفيع الذي يفصل بين الخرافة والحقيقة. وأضفت مخاطبا ماركيز: أشكرك يا صديقي، لقد تعلمت منك أن للحياة طعما آخر حين نراها بعين الحكاية. فقال لي: أخبرني بصدق، هل وجدت نفسك حقا بين صفحات الرواية، أم أنك مجرد شبح آخر يسير في متاهات الذاكرة؟ أجبته: وجدت نفسي بين السطور ثم أضعتها مجددا.

أنا هنا يا ماركيز في رحلة طويلة عبر الزمن، وأعدك بأنني سأظل أحد أبطال “مئة عام من العزلة”. وداعا يا ماركيز، أنا الآن ذاهب لزيارة المؤرخ والفيلسوف ومؤسس علم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون، الذي أذهل الأمم السابقة واللاحقة بنظريته حول “العصبية” ودورة الحضارات وتحليل قوانين قيام الدول وسقوطها، ثم سأذهب لزيارة أرنولد توينبي، الذي نظر إلى التاريخ كصراع بين التحدي والاستجابة، حيث تنهض الأمم أو تسقط بناء على قدرتها على مواجهة الأزمات.

وإذا كان الأدب والتاريخ يوثقان رحلات الإنسان الفكرية، فإن العلوم تكشف أسرار الكون، كالفيزياء والكيمياء وغيرهما، وما أجمل القراءة في هذه العلوم، تخيل نفسك جالسا مع ابن سينا، الطبيب والفيلسوف والعالم الذي أثرى الفكر الإنساني، فهو نجم ساطع في سماء الحضارة العربية هو وابن الهيثم، الذي درس الرؤية والضوء ووضع أسس المنهج العلمي.

والآن هيا بنا إلى بيت الحكمة في بغداد لنقرأ الترجمات والمؤلفات الغزيرة التي تم ترجمتها هناك، البيت الذي اجتمع فيه العلماء العرب والمسلمون لترجمة علوم الإغريق وإضافة علوم جديدة، فظهر الخوارزمي ليؤسس علم الجبر، والكندي ليكتب عن الفلسفة والمنطق، والفارابي ليصوغ رؤيته حول المدينة الفاضلة، وربطها بالأخلاق والدين، وأضاف إليها طابعا إسلاميا، وجعلها نموذجا مثاليا للحكم الإسلامي المستنير.

وبعد زيارة بيت الحكمة في بغداد، هيا بنا نزور الجزيرة النائية التي عاش فيها “حي بن يقظان” للأديب والفيلسوف ابن طفيل الأندلسي، ونتجول في تفاصيل تلك القصة التي ألهمت الفلاسفة الغربيين، ويا ليتني كنت أنا حي بن يقظان، الذي نشأ وحيدا بين أحضان الطبيعة، يتأمل الكون ويسبر أغواره بعقله المتقد.

هل تعلم يا ابن يقظان أنني أتمنى العيش في جزيرة نائية، وأظل في رحلة دائمة أبحث عن المعرفة، من التجربة الحسية إلى التأمل العقلي، وأواجه أسئلة الوجود الكبرى، وأتتبع خطى العقل في اكتشاف الحقائق بعيدا عن المؤثرات الاجتماعية؟

سأغادر الآن “حي بن يقظان” وأتجه للتنزه في حديقة إسحاق نيوتن، الآن أرى نيوتن مستندا إلى شجرة، لعله مرهق مثلي، اقتربت منه، وفجأة سقطت تفاحة أمامه، فأخذها وظل يتأمل فيها ويفكر، وألهمته تلك التفاحة إلى وضع قانون الجاذبية. ولو كنت أنا مكانه لأكلت تلك التفاحة وجميع التفاح في الشجرة دون أن أفكر بمسألة قانون الجاذبية، وكانت تلك التفاحة المفتاح الذي فتح به نيوتن الباب لعلم الفيزياء الكلاسيكية، وجاء من بعده ألبرت أينشتاين بعقله الذي قلب مفاهيم الزمان والمكان.

وفي زاوية أخرى وجدت فرانز كافكا، وهو يكتب رسالة إلى ميلينا، بدا شاردا وكأن الكلمات تثقل يده، التفت نحوي بعينيه القلقتين، فقلت له: هل تعتقد أنها ستفهم كل هذا الألم بين السطور؟ ابتسم ابتسامة واهنة وقال: أكتب إليها وكأنني أكتب لنفسي، وكأن هذه الرسائل ستنقذني من الغرق، لكنني أعلم أنها لن تصل.  قلت له: وماذا لو لم تكن رسائلك سوى محاولات لإمساك ظل يتلاشى؟ أجاب: أليس كل شيء نكتبه مجرد محاولة يائسة لاحتواء ما لا يمكن احتواؤه؟

ومن بين أكثر الكتب فائدة، تأتي المذكرات والسير الذاتية، التي تكشف تجارب المفكرين والقادة، كما يعد التاريخ نافذة لفهم الحاضر واستقراء المستقبل، بينما تغذي المجلات الفكرية وعينا بشؤون العصر وقضاياه، في حين تقدم الموسوعات كنزا معرفيا مختصرا لعقود من البحث والتأمل، ولتكن القراءة أسلوب حياة، لا مجرد عادة عابرة، لأنها تمنحنا حياة جديدة مع كل كتاب.

وهكذا نعلم أنه من خلال القراءة نعيش حياة جديدة تضاف إلى حياتنا، ونتحاور مع كبار العباقرة، ونسير في أروقة المدن، ونُحلّق في سماء النظريات والقوانين، ونتعرف على العقول الجبارة التي عبرت الأزمان والثقافات، وتركت بصمات عميقة في تاريخ البشرية.

وتظل القراءة منارة تهدي العقل وتغذي الروح، رغم هيمنة مواقع التواصل الاجتماعي، التي تسوق المحتوى السطحي والتفاعل العاطفي السريع، وتبقى الكتب المصدر الأكثر عمقا وغنى للمعرفة الحقيقية، لكن يجب أن تكون القراءة ناقدة مبصرة وقادرة على التمييز بين الحقيقة والتضليل، فليست كل الكتب تستحق القراءة، ولا كل كاتب يمتلك العمق والموضوعية، ولذلك يجب أن نقرأ بعقلية الباحث وليس بعقلية المتلقي السلبي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى