في أعقاب اندلاع الحرب بين الكيان الصهيوني وإيران في 13 يونيو 2025، تتابعت مقالات وتغريدات لعدد من الإخوة الأفاضل، تناولت الموازنة بين المشروع الصهيوني والمشروع الصفوي الإيراني من حيث الخطورة على الأمة الإسلامية.
وقد لاحظت ـ فيما اطلعت عليه من هذه الأطروحات، لا سيما تلك التي ترجّح كفة المشروع الإيراني في الخطورة ـ وجود قصور واضح في تقدير حجم التهديد الذي يمثّله المشروع الصهيوني، بل وتسطيح بالغ في فهم طبيعته وأبعاده العميقة.
ففي بعض هذه الآراء، جرى التعامل مع المشروع الصهيوني وكأنه مجرّد كيان سياسي محدود، أو دولة تبحث عن الاعتراف والسلام، بل ذهب بعضهم إلى القول بأن غاية حلمهم إقامة “إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات”، وبعدها يمكن أن يتعايشوا مع بقية المسلمين! وهذا التصور ـ في حقيقته ـ ليس سوى قراءة سطحية مضلِّلة، تُغفل جذور المشروع الصهيوني ومآلاته الاستراتيجية، ومن أبرز صور هذا الخلل، اعتبار التطبيع مجرد اتفاق سلام، دون وعي بحقيقة دوره بفرض الهيمنة الصهيونية الشاملة على المنطقة.
كما أن بعض هذه المقالات، حين تعقد المقارنة بين المشروعين، تحصر المشروع الصهيوني في حدود كيان إسرائيل ومساحته الجغرافية أو عدد ضحاياه، وأنه لا يدعو المسلمين إلى اعتناق اليهودية !
ومثل هذا التوصيف القاصر الذي يغفل جوهر المشروع الصهيوني كأداة تفكيك وتمزيق وهيمنة، يوصل إلى نتائج خاطئة لعدم صحة مقدماتها، ولولا ما رأيته من تسطيح وتهوين من قبل بعض النخب في شأن حقيقة مخاطر المشروع الصهيوني – إما تحت ضغط الألم لما قام به الرافضة من جرائم في حق أهل السنة في بلدان عدة، أو عدم اطلاع على حقيقة ما يرمي إليه المشروع الصهيوني – لما سعيت في جمع وترتيب هذه المقالة العجلى لبيان مخاطر هذا المشروع حتى لا تميل بنا العاطفة أو الألم للتهوين منه في مقابل ظلم المشروع الآخر.
إن من المهم حينما نريد أن نوازن بين “المشروع الصهيوني” و”المشروع الصفوي الإيراني” وغيرهما من المشاريع الكبرى ومعرفة أيهما أخطر على العرب والمسلمين، أن تكون هذه الموازنة قائمة على رؤية شاملة وعميقة، تتجاوز النظرة الطائفية أو العاطفية، من أجل فهم عميق للمشاريع الكبرى التي تستهدف هوية الأمة ودينها واستقلالها الحضاري.
ويمكن تلخيص الكلام في النقاط الآتية:
أولا: خطورة المشروع الصهيوني وأبعاده الحقيقية:
المشروع الصهيوني ليس مجرد احتلال لأرض فلسطين، بل هو مشروع استعماري حضاري شامل يسعى لتفكيك الأمة الإسلامية ثقافيًا ودينيًا وهوية، ويتعدى خطره الجغرافيا الفلسطينية إلى عموم الأمة، ومن ذلك:
1. تغيير هوية الأمة الدينية من خلال "اتفاقية الدين الإبراهيمي"
ما هو “الدين الإبراهيمي”؟:
هو مشروع يراد من خلاله إذابة الفوارق العقائدية بين الإسلام واليهودية والنصرانية، تحت ذريعة “وحدة الأديان”.
الهدف الخفي:
تجريد الإسلام من تفرده ونسخه للشرائع السابقة، والتخلي عن عقيدة “لا دين إلا الإسلام” و”ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه”.
الخطر الحقيقي:
ليس فقط في التطبيع السياسي، بل في فرض رواية دينية جديدة تخالف الإسلام، تفرّغ الأمة من عقيدتها وتحول الإسلام إلى ثقافة تراثية لا رسالة سماوية خاتمة.
2. فرض التطبيع الثقافي والديني والتعليمي:
التطبيع ليس مجرد سلام سياسي، بل إعادة صياغة للمناهج التعليمية، بحيث:
– يُمنع ذِكر الجهاد أو الولاء والبراء.
– إزالة مصطلحات العدو والصهيونية والاحتلال.
– تمجيد القيم الغربية الليبرالية مثل الحريات الفردية المطلقة، والمساواة المطلقة بين الأديان، والقبول بالمثلية والانحرافات تحت مظلة “الحقوق”.
وهذا ما بدأ يظهر فعلاً في بعض مناهج التعليم في بعض الدول التي انخرطت في مسار التطبيع.
3. نشر الفجور والانحلال عبر بوابة التطبيع الإعلامي والفن
من خلال:
– المسلسلات والبرامج التي تروج للتسامح مع الشذوذ والانحراف.
– الإعلام الصهيوني والتابع له الذي يدفع باتجاه تحطيم القيم الإسلامية والأسرية.
الهدف:
إضعاف الحصانة العقدية والأخلاقية للمجتمع المسلم، ليكون أكثر قابلية للاستسلام الثقافي والديني.
4. الهيمنة على القرار السياسي والاقتصادي في المنطقة:
الصهيونية العالمية (بجانب دولة إسرائيل) لها تأثير واسع على:
– الأسواق المالية العالمية.
– شركات التكنولوجيا الكبرى.
– صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
مما يجعل من مشروعهم إمبريالية ناعمة تُخضع العالم الإسلامي دون احتلال مباشر.
5. إسرائيل قاعدة متقدمة للاستعمار الغربي في قلب الأمة:
إسرائيل ليست دولة مستقلة فقط، بل هي:
رأس حربة الغرب في قلب الأمة الإسلامية، تم زرعه ليكون أداة عسكرية ضاربة في وسط العالم الإسلامي بعد خروج الاستعمار العسكري المباشر من المنطقة، ليكون الحارس القوي الأمين لاستمرار أهداف الاستعمار الذي كان مباشرا فأصبح بالوكالة، وأي خروج عن مساره فإنه يتم ضربه بشتى الحجج على رأسها تهمة الإرهاب.
فإسرائيل قاعدة استخباراتية وعسكرية دائمة تستهدف الأمن القومي العربي والإسلامي.
ومشروع “إسرائيل الكبرى” ليس فقط طموحًا جغرافيًا بل وسيلة لتفكيك دول المنطقة وتحويلها إلى كانتونات طائفية متنازعة، بعيدة عن الحكم بالإسلام وشريعته، ولعل كل ناظر إلى واقع الأمة الإسلامية يلحظ أنه بعد إسقاط دولة الخلافة انتشرت بين المسلمين مذاهب الإلحاد والعلمنة والليبرالية وغيرها وتمثلت في أحزاب بعضها أدار دفة الحكم في البلاد الإسلامية، ولا توجد اليوم دولة تتبنى الحكم بالشريعة الإسلامية إلا ما ندر، كما أن الدعوة الإسلامية مضيَّقٌ عليها في الكثير من الدول، وما ذلك إلا سير وفق الأهداف الاستعمارية.
والعجب أن بعض إخواننا الأفاضل يذكر أن اليهود لا يدعون الناس إلى دينهم، يا أخي العزيز هم لا يحتاجون إلى ذلك، هم يعملون على إخراج الناس من دينهم باعتقادات وأعمال كفرية ثم يحسبون أنهم مسلمون.
ثانيا: مقارنة بين المشروع الإيراني والمشروع الصهيوني:
المشروع الإيراني (بما فيه الشق الطائفي/الصفوي) يجب التحذير منه ومحاربته؛ لأنه يحمل خطرًا عقدياً ومذهبيًا وسياسيًا على وحدة الأمة.
لكن المشروع الإيراني:
– ليس عابرًا للقارات مثل المشروع الصهيوني، نعم هو ذو طابع مذهبي توسّعي، ويسعى للسيطرة على مراكز العالم الإسلامي (العراق، الشام، اليمن، الحرمين).
– لا يحظى بقبول دولي وإجماع غربي.
– قابل للردع من داخل الأمة نفسها عبر التوعية والاحتواء والتوازن السياسي.
بينما المشروع الصهيوني:
– مدعوم عالميًا سياسيًا وإعلاميًا واقتصاديًا.
– يستهدف الدين من الداخل، عبر “تحريف وتهويد الإسلام” وليس فقط اختراقه سياسيًا.
– يخترق المناهج والتعليم والتقنيات والهوية، والسيطرة على الإعلام، لخلق أجيال مسلوبة الإرادة كل ذلك من خلال “مشروع التطبيع الشامل”.
ثالثا: الخلاصة: لماذا المشروع الصهيوني أخطر؟
خلاصة تحليلية:
المشروع الإيراني وإن كان خطرًا، فإنه:
–يُفهم بسهولة على أنه طائفي.
– يمكن محاصرته وتحديده.
– يفتقر للدعم العالمي.
أما المشروع الصهيوني:
– نُعِت بـ “الناعم” لكنه أشد فتكًا.
– يستعمل أدوات الثقافة والعلم والإعلام والتقنية لغسل العقول.
– يُمرر تحت غطاء السلام والتسامح والتعاون.
وبالتالي، فإن الخطر الحقيقي هو في من يغير الأمة من داخلها دون أن تشعر، ويُبدل دينها باسم الإنسانية والتعايش والانفتاح، وهذا هو جوهر المشروع الصهيوني الحديث.
رابعاً الأدلة والنماذج الواقعية:
– وثائق الاتفاقات الإبراهيمية تنص على تغيير الخطاب الديني والتربوي والإعلامي.
– مناهج بعض الدول تم تعديلها بعد التطبيع.
– أفلام ومسلسلات ممولة من شركات إسرائيلية أو غربية تروج للشذوذ والانحلال وتهميش الرموز الإسلامية.
– تصريحات قادة الاحتلال أنفسهم مثل نتنياهو بأن التطبيع هدفه النهائي هو “القبول التام بنا كجزء طبيعي من المنطقة”، أي إلغاء القضية الفلسطينية وتحويل الأمة إلى كيان تابع ثقافيًا.
في الختام:
كلا المشروعين خطر على الأمة الإسلامية، لكن المشروع الصهيوني أشد خطورة من حيث العمق والتأثير والاتساع وطول البقاء في العصر الحديث فقد مر على الأمة أكثر من قرن وهي تحت وطأة المشاريع الإلحادية والعلمانية والتضليلية، فهو لا يستهدف الأرض فقط كما قد يتوهم البعض، بل يستهدف الإسلام نفسه وعقيدته وهويته وحضارته، ليحوله إلى مجرد تراث لا قدرة له على مقاومة الهيمنة الغربية الصهيونية، وإن كان المشروع الرافضي أيضاً يستهدف الإسلام لكن ليس بالتأثير والاتساع نفسه، وإذا قال البعض أنه سيطر على أربع عواصم عربية، فلنسأل على كم سيطر المشروع الصهيوني؟ إنه يسيطر على العالم الإسلامي كله.
وكم بقي المشروع الرافضي في سوريا مثلا؟ عشر سنين؟ إنه وبمجرد سقوطه تبخر؟ لكن التأثير العلماني والقيم الغربية الضالة مازالت قائمة، ويتم الضغط بها على الحكومة الجديدة!
قال الله تعالى: “ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم” [البقرة: 120] فهل بعد هذا من وضوح؟
والخلاصة ينبغي أن نقف على الأمور الآتية في اتخاذ الموقف:
– الأمة الإسلامية مطالبة بفهم طبيعة المعركة وتحديد عدوّها دون انخداع بالشعارات أو العواطف أو التأثر بضغط الآلام العاجلة.
– لا تُبنى المقارنة على الكمّ (عدد القتلى أو المساحات المحتلة مثلا)، بل على عمق المشروع وشموليته وأثره المستقبلي وعلى الأثر الاستراتيجي بعيد المدى.
– التمييز بين العدوين لا يعني الانحياز لأحدهما ضد الآخر، فكلا المشروعين عدوّان للأمة، فكل منهما يعمل لهدمها من زاويته.
– استمرار حالة التوازن والتدافع بين المشروعين يصب في مصلحة أهل السنة حتى يتمكنوا من إقامة مشروعهم الخاص، ويعطي فرصة للضعيف لتقوية نفسه والاستفادة من دروس الحرب، وخاصة أن إيران مدخل المحور الشرقي روسيا والصين للمنطقة وهو يحدث توازن مع المشروع الغربي، فلا يتفرد بالعبث بالمنطقة كما يحلو له. { وَلَوْلَا دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ ٱلْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ} البقرة : (٢٥١).
{وَلَوْلَا دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَٰتٌ وَمَسَٰجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ٱسْمُ ٱللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ} الحج (٤٠).
– الحذر من منابر تُسهم، دون قصد أحيانًا، في تبييض أحد المشروعين تحت دعوى التوازن أو الواقعية السياسية أو غير ذلك.
– لا خلاص إلا بوحدة الأمة على عقيدتها الصحيحة، ووعيها بحقيقة المشاريع التي تستهدفها، واليقظة من محاولات التسلل عبر أدوات التأثير الثقافي والديني والسياسي، وبناء مشروعها الخاص الذي يعبر عن كينونتها ودينها وتاريخها الإسلامي وأخذ العبرة منه.
نسأل الله أن يحفظ الأمة، ويكشف عنها شر أعدائها من الداخل والخارج.