هل التفاسير مضللة؟ وما هو التلقي المباشر للقرآن الكريم؟
وصلتني ثلاثة منشورات متشابهة وقصاصة فيديو يتفق مضمونها في الدعوة إلى تحييد التفسير القرآني ومنتجات مكتبة التفسير ، بمبرر طالما وأنت عربي فلك حرية التفسير الذي تهتدي إليه، الحفظ ليس ضروريًا، إتقان التلاوة ليس مطلوبًا، أدوات فهم النص ليست ذات أهمية، أقوال المفسرين ليست سوى حجب كثيفة تحول بينك وبين مباشرة النص القرآني، المهم أن تكون قادرًا على فهم النص بطريقتك الخاصة دون مقدمات، إذن فانطلق في فضاءاته التي يحاول علماء الكهنوت احتكارها لصالحهم، اسحب منهم البساط، والمنصة بعدها والميكرفون لك.
يقول جمال البنا: «المسلمون فهموا القرآن عبر التفاسير فَضَلُّوا… لا بدَّ أن نستبعد الالتزام بالتفاسير؛ إذ لا فائدة فيها، ونقرأ القرآن مباشرة»، وفق نظرية التلقي المباشر للقرآن التي يسوقها الحداثيون.
وقضية الدعوة إلى ضبط التفسير بأدواته الصحيحة لتقويم الفهم وتجويده، ليست حرمانًا أو احتكارًا، فالقرآن مشاع للجميع وما نزل إلا لهداية البشرية وإصلاح أحوالها، والمطلوب منها تطبيقه وتدبره، غير أن البيان القرآني جاء تشريعًا للأصول والمعاني، مجملًا في البيان والمباني، موكلًا عملية تكشيفه للنبي -صلى الله عليه وسلم-، والراسخين في العلم من بعده.
فالإبهام في كثير من مطاويه يحتاج إلى أدوات كاشفة لدلالاته، وقواعد موضحه لمكنوناته، وفي تراكيب نظمه معان دقيقة، ومفاهيم رقيقة، ندَّ فهمها عن العرب الأقحاح فسألوا عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- فكشف لهم عن سجف مراميها، وأبان كيف يكشفون معانيها.
كيف كان مستوى اللغة العربية في القرآن الكريم؟
كان القرآن فوق مستوى العربية آنذاك تعجيزًا لأساتيذها عن محاكات ألفاظه، وإعجازا لبلغائها عن الإتيان بمثل نظمه، فشرح كيفية الوصول إلى مفهومه، واستعمال لفظه ومنظومه، فتعليم الكتاب من مهام الرسل ﴿هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي الأُمِّيّينَ رَسولًا مِنهُم يَتلو عَلَيهِم آياتِهِ وَيُزَكّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكمَةَ﴾ [الجمعة: 2]، فتوالت منهم سؤالاته وهم العرب الخُلّص، كسؤالهم لماّ نزل: ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام : 82] ، فقالوا : أينا لم يظلم نفسه ، فربط معناه بموضع آخر، وعلمهم مسلكية تفسير القرآن بالقرآن، وسؤال عائشة عن الحساب اليسير ، فقال : ذلك العرض، ومن نوقش الحساب هلك، وقصة عدي بن حاتم في تحديد ملامح الليل والنهار، ومنهم من أخطأ تفسير ﴿وَلا تُلقوا بِأَيديكُم إِلَى التَّهلُكَةِ﴾ [البقرة: ١٩٥] فشرحها له آخر.
فالقرآن الكريم كتلة بلاغية لغوية سميكة تحتاج إلى أدوات لتفكيكها، فجُمَلُهُ القرآنية فيها إشارات عابرة، ودلالات غائرة، ولحن خطاب، وتضمن وإشارة واقتضاء، وألفاظ كنائية، واستعارات مجازية، وكلها بحاجة إلى فقه ودراسة وإمعان نظر وتفكير، وفهم أدوات العرب في استعمال ألفاظهم، فلابد من كشف حمولتها الدلالية، وتسيير كل تلك الدلالات وفق خيط ناظم، وخطام منسجم قائم، حتى تنتظم تراكيبها، وتظهر وحدة انسجامها، ولا يتأتى ذلك إلا عبر رباعية: اللغة، والسياق، والمقاصد، والفهم الجمهوري العام الذي سار عليه مجتمع الصحابة.
وفي القرآن استعمال لألفاظ غريبة ما كان يفهمها سوى العرب الأقحاح، وصُنّاع شعرهم، وبلغاء قومهم، حتى ندَّ فهمها عن بعض الصحابة، فعادوا إلى مستودع ديوان العرب يبحثون في مقاصيدها، فسأل عمر بن الخطاب عن (الأبّ) في ﴿وَفاكِهَةً وَأَبًّا﴾ [عبس: 31] فترجمها له ابن عباس، ولم يفهم ترجمان القرآن معنى (فاطر) حتى ترجمها له أعرابي.
طبيعة الحاجة إلى التفسير القرآني:
شرح أستاذ الغريب القرآني في القرن الخامس الهجري الإمام الراغب الأصفهاني(ت:502) طبيعة الحاجة إلى التفسير القرآني فأوضح أنه إما أن يستعمل في غريب الألفاظ، نحو (البحيرة) و(السائبة) و(الوصيلة) أو في وجيز كلام يبين ويشرح، كقوله: (واقيموا الصلاة وآتوا الزكوة)، أو في كلام مضمّن بقصة لا يمكن تصوره إلا بمعرفتها، نحو قوله: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ [التوبة: 37]. فأبعاد نزوله الزمكاني، وماجريات الأحداث التي نزل لعلاجها جزء مهم في فهم التنزيل.
وأبان الأصولي الكبير بدر الدين الزركشي(ت:794) أن تفسير القرآن لم ينقل إلينا عنهم بجملته، فنحتاج إلى ما كانوا يحتاجون إليه من أدوات وزيادة، لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة، واستعمالات ألفاظها، فنحن أشد الناس احتياجًا للتفسير.
ويشير أن تفسير القرآن بعضه بسطًا للألفاظ الوجيزة وكشفًا لمعانيها، وبعضه ترجيحًا لاحتمال على آخر، وبعضه إيضاح وتفصيل، لبلاغته ولطف معانيه، ولهذا لا يستغني عن قانون عام يعوَّل في تفسيره عليه، ويرجع في بيانه إليه، من معرفة مفردات ألفاظه ومركباتها، وسياقه، وظاهره وباطنه، وغير ذلك مما لا يدخل تحت الوهم، ويدق عنه الفهم.
وفي هذا العمل تتفاوت الأذهان، وتتسابق في النظر إليه مسابقة الرهان، فمن سابق بفهمه، وراشق كبد الرمية بسهمه، وآخر رمى فأشوى، وخبط في النظر خبط عشوا، وأين الرقيق من الركيك، وأين الزلال من الزعاق. «البرهان» (1/108).
فلأجلِ ذلك كله انداحت أقلام المختصين في شرحه وتفسير مراميه، وسالت أوديتهم بمختلف تخصصاتهم في بيان معانيه، ولايزال الباب مفتوحًا في نحت اللفظ القرآني السميك وما يحوي بداخله من الحمولة الدلالية التي انداحت معرفة إسلامية ثمينة عبر القرون قدمته مكتبة التفسير في مختلف البلدان والعصور ويبقى إنتاجًا فريدًا للأمه التي تبذل جهودًا في وصل الأجيال بكلام ربها وتقريب ألفاظه ومعانيه، ومحاولات الفت من عضد ما قدمته الأمه وتنقص ثروتها المعرفية مجهود يصب في صالح المستشرقين وزملائهم الحداثيين.
فنشاط حركة التفسير يجب أن يستمر ولا يتوقف اختصارًا وإطنابًا، فذلك من الوصال المستمر بالنص الذي لا تنقضي عجائبه، واللفظة القرآنية فاعلة نشطة تمنح المفسرين مادة ثرية للعطاء والاستمرار، هداية البشرية، وتبصيرًا لمسالكها، وفق أدواته ومواد كشفيات ألفاظه، حراسة له من المتطرفين يمينًا أو يسارًا الذي يبحثون عن التأويلات الرثة والوجوه الغثة بتعبير الزمخشري.
التحذير من الدخول إلى علم التفسير دون أدواته المهنية:
وقد حذر رائد التفسير القرآني في القرن الرابع عشر الإمام محمد الطاهر بن عاشور(ت:1393) من مسلكية عبثية تتورط في الدخول إلى علم التفسير مجردة من أدواته المهنية، وإجراءات تخصصه العلمية فقال: «وقد دلت شواهد الحال على ضعف كفاية البعض لهذا العمل العلمي الجليل، فيجب على العاقل أن يعرف قدره، وأن لا يتعدى طوره، وأن يرد الأشياء إلى أربابها، كي لا يختلط الخاثر بالزباد، ولا يكون في حالك سواد، وإن سكوت العلماء على ذلك زيادة في الورطة، وإفحاش لأهل هذه الغلطة، فمن يركب متن عمياء، ويخبط خبط عشواء، فحق على أساطين العلم تقويم اعوجاجه، وتمييز حلوه من أجاجه، تحذيرًا للمطالع، وتنزيلًا في البرج الطالع» «التحرير والتنوير»، (1/37)
العلامة محمد الطاهر ابن عاشور وكان ابن النقيب (ت: 769) قد حذر في القرن الثامن الهجري من خماسية تفسيرية تتوغل لفرض نفسها بديلًا عن التفسير القرآني المعتمد، وتحاول أن تختط لنفسها سبيلًا نادًّا عن مناهج الأمة في تفهيمه وتفسيره:
الأولى: التفسير دون استكمال أدواته.
الثانية: تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله.
الثالثة: التفسير المقرِّر للمذهب الفاسد.
الرابعة: التفسير أن مراد الله كذا قطعا بغير دليل.
الخامسة: التفسير بالاستحسان والهوى. «الإتقان»، (774).
ولقائل: طالما وقد يسر الله القرآن للذكر فلماذا عقدته التفاسير، ووضعتم حول أسواره تلك التقييدات والشروط؟
أقول: هذا الفهم للآية من مشكلات التفسير السطحي العابر الذي نقع فيه، وندعو في هذه المقالة إلى تلافيه، فقوله تعالى: ﴿وَلَقَد يَسَّرنَا القُرآنَ لِلذِّكرِ فَهَل مِن مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: ١٧] لا يعني التحلل من العمل العلمي في التفسير، ومباشرة النص دون مقدمات الفهم والتحصيل، وحتى نفهم الآية في ضوء حركة الحياة الاجتماعية، وسياقها البشري، والفروق الفردية بين الأشخاص أجاب أبو القاسم القشيري(ت:465): «يسر قراءته على ألسنة قوم، وعلّمه على قلوب قوم، وفهّمه على قلوب قوم، وحفظّه على قلوب قوم، وكلهم أهل القرآن». فمن المحال أن الجميع يحفظه، والجميع يكتبه، والجميع يتقن قراءته، والجميع يدرك بلاغاته ويحل غريب ألفاظه، ولكل مقبل على مجال من مجالاته تتيسر له ظروف الإمكان منه، والحصول على مطلوبه، فكلام الله ليس كلامًا بشريًا يسهل تعاطيه، والحصول عليه، فهو كلام الخالق العظيم، وقدرات المخلوق وأدواته لا يمكنها الحوط بكلام الخالق،﴿إِنّا سَنُلقي عَلَيكَ قَولًا ثَقيلًا﴾ [المزمل: ٥]، والثقل الموصوف بحسب -ابن عاشور- لاشتماله على معان ليست من معتاد ما يجول في مدارك قومه. فكان من تسير الله أن بسّط تناوله لمخلوقاته كي تبذل كدَها في فهمه، وتصل بإمكاناتها المتاحة إلى تحصيله، ولذا ختم ﴿فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾، فهل من طالب علم فيعان عليه، بتعبير مطر الوراق كما أورده البخاري عنه في آخر صحيحه، فهو يسير لمن جهد في تحصيله مع جزالة نظمه وعذوبة ألفاظه.
وكان أستاذ التناسب المعرفي للقرآن الكريم برهان الدين البقاعي(ت:885) قد لفت الانتباه إلى السياق الذي تلتهمه الآيات الأربع الواردة بنفس النص في سورة القمر، وأشار بأن الآية ناظرة بالعطف والمعنى إلى ﴿وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء﴾ [القمر: 4]، ليتجلى المعنى: «أنا ولو شئنا بما لنا من العظمة لجئناهم بعبارات لا يشمون رائحتها، وبلاغات لا يهتدون إلى وجه معناها أصلًا، لكنا لم نفعل ذلك، بل خاطبناهم بأبلغ من بلاغتهم مع تيسير فهم ما خاطبناهم به»، فلو شاء جاء بأعقد منه ألفاظًا بحروفهم المستخدمة؛ ولكنه أعجزهم من حيث أفهمهم، وتحدث القاضي البيضاوي(ت:685) أن هذه الجملة المكررة بعد كل مشهد تاريخي من مسلسل التكذيب البشري في كوكب الأرض جملة قَسَمِيّة جاءت في نهاية كل قصة تقريرًا لمضمونها، وإبلاغًا للقوم بحقب التاريخ التي ندَّت عنهم تفاصيلها، وذلك السرد كله من التيسير، وتقريب الفهم لخط سير البشرية، إذ كان اليهود يحتكرون مركزية المعرفة في الجزيرة العربية، فلما جاء القرآن سلبهم تلك القوة العلمية بألخص العبارات أيسرها.
والله الموفق.