آثار

حركة الأسود العنسي في ميزان التاريخ (ج7)

هل حركة الأسود تقتضي ضعف نفوذ الإسلام في اليمن؟

ادعى بعض الباحثين أن حركة الأسود العنسي، كغيرها من حركات التمرد، تعكس ضعف الدولة الإسلامية أو هشاشتها، خصوصًا في فترة انتقال السلطة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. إلا أن هذه الدعوى تفتقر إلى الأدلة التاريخية، حيث تكشف الوقائع عن عكس ذلك تمامًا.

حركات الردة – كحركة الأسود وغيره – لا تعني ضعف الدولة الإسلامية، بل كانت محاولات انتهازية لاستغلال فترة التحول السياسي بعد وفاة النبي ﷺ. اعتقد بعض زعماء القبائل أن خضوعهم كان مرتبطًا بشخص النبي فقط، وأن وفاته تتيح لهم فرصة للتمرد وفرض واقع جديد يخدم مصالحهم. ولكن تلك الانتهازية كشفت عن جهلهم وسوء تقديرهم في قراءة الواقع الجديد.

قوة الدولة الإسلامية في مواجهة التحديات:

في المقابل، فإن سرعة تصرف الدولة الإسلامية، في القضاء على كافة التمردات التي حدثت، وإرسال نحو 11 جيشا في وقت واحد للقضاء على تلك الحركات المرتدة لدليل على قوتها، ووحدتها، وتماسكها، وحزم قيادتها. بل إن أبا بكر قام بإنفاذ جيش أسامة بن زيد إلى الشام ووطء الدولة الرومية في تلك الأثناء، مما جعل كثيرا من المرتدين يتراجعون عن تهورهم.

دور القبائل مظهر من مظاهر قوة الدولة الإسلامية:

ومن ناحية ثانية؛ فإن معظم حركات الردة انتهت بمقاومة محلية داخل القبائل نفسها، كما حدث في قبائل تهامة وعك ونجران، وكما حدث للأسود العنسي، وبعده قيس بن مكشوح. وهذا يعكس قوة ارتباط القبائل اليمنية بالدولة الإسلامية وولاءها لها، مما ساعد في القضاء على حركات التمرد دون تدخل كبير من القيادة المركزية. كما يعكس قوة التأثير الذي أحدثه الإسلام داخل القبائل نفسها؛ فلم يعد ولاؤها للقبيلة، بل أصبح ولاؤها للإسلام.

نفوذ الإسلام في اليمن قبل حركة الردة:

وإذا عدنا إلى مرحلة دخول اليمن الإسلام، فسنجد أن دخول كثير من القبائل بوسائل سلمية (كالدعوة والمراسلات) دليل على أن الإسلام كان له تأثير إيجابي في نفوس الناس، وأن نفوذه لم يكن قائما على القهر والإكراه، بل قام على السلم ورضا الناس به، وتمسكهم به.

ولم يكن ذلك موقف عامة الناس في اليمن من الإسلام فحسب، بل سبقهم أيضا الزعماء أنفسهم، الذين أعلنوا إسلامهم، ووفدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأنفسهم. كل ذلك أسهم في تعزيز الولاء للإسلام، وانعكس ذلك في مقاومتهم لحركات الردة، وقضائهم عليها.

وإن يكن لحركات الردة من أثر فهو اختبار إيمان الناس الذين دخلوا الإسلام حديثا، ولم يتعرضوا للابتلاء والفتنة، كما تعرض لها أوائل المسلمين، الذين خاضوا المعارك مع كفار قريش وغيرهم من كفار العرب (وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله)؟ فكان هذا محك حقيقي واختبار لإيمان الناس، واختبار لولائهم: أهو للإسلام أم للقبيلة؟ وبهذا الاختبار تأهلوا لمواجهة امبراطوريتين عظميين في وقت واحد: الروم والفرس، فأسقطوهما معا.

ما مدى نفوذ الأسود؟ وهل صحيح أن حضرموت ارتدت بردته؟

يحاول بعض الباحثين اليوم الربط بطريقة فجة بين ردة الأسود العنسي وردة بعض قبائل كندة وبعض قبائل تهامة، ويصورون الأمر أن اليمن انتفضت مع الأسود العنسي!!

وفي هذا تجاوز للحقائق التاريخية. ومن يرجع على المصادر التاريخية يتبين له ما يلي:

أولا: ارتد الأسود العنسي قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأيدته بعض قبائل مذحج، خاصة بنو الحارث بنجران، فتمكن من الدخول إلى صنعاء. ولكن سرعان ما قضي على حركته في صنعاء، وقد كان قتله ليلة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبرهم بذلك، ثم جاء الخبر من اليمن في أول خلافة أبي بكر رضي الله عنه. وبهذا انتهت حركة الأسود العنسي في صنعاء دون أن تمتد خارجها.

ثانيا: ارتد قيس بن مكشوح بعد أن قتل الأسود، وكان يتوقع أن يعينه أبو بكر واليا على صنعاء، فلما لم يعينه ارتد، وحاول استمالة وجوه حمير مثل ذي الكلاع وغيره فوقفوا ضده. وسرعان ما قضي على ردته، وعلى غرار حركة الأسود، لم تخرج ردته عن حدود صنعاء.

ثالثا: بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، حدثت ردة في بعض قبائل تهامة، وقاموا بالنهب وقطع الطرق. كما ذكر الطبري وغيره، وسموهم: الأخابث. فسار إليهم الطاهر بن أبي هالة ومعه مسروق العكي فقضوا على ردتهم. كما حدثت ردة في خثعم الذين أرادوا العودة إلى عبادة “ذي الخلصة” فخرج إليهم جرير البجلي وقضى على ردتهم.

رابعاً: بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حدثت ردة في كندة بحضرموت، قادها الأشعث بن قيس الكندي، وسببها رفض بعضهم دفع الزكاة، معتبرين أن التزامهم للدولة الإسلامية انتهى بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وسرعان ما قضي على هذه الردة، واستسلم الأشعث، وأرسل إلى المدينة.

وهكذا يتبين أنه لا يوجد أي دليل يشير إلى أن ردة الأشعث أو ردة الأخابث كانت امتدادًا لردة الأسود العنسي، أو أن حضرموت أو تهامة خضعت للأسود العنسي. ومن الواضح أن الردة في اليمن لم تكن نابعة عن موقف موحد، مثلها في ذلك كالردة التي حدثت في بعض القبائل العربية الأخرى، ويخطئ من يصورها ذات ترتيب مسبق، وتنسيق موحد. إن حركات الردة بشكل عام لم تكن مرتبطة ببعضها تنظيمياً، لكنها كانت تعبر عن توجهات محلية وقبلية لاستغلال فترة الانتقال بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

هل الأسود وطني أم عنصري؟

كل ما أثر عن الأسود عبارة عنصرية واحدة: ذكر الطبري أن الأسود خاطب أمراء المسلمين بقوله: (أيها المتورّدُون علينا، أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضِنا، ووفِّروا ما جمعتم؛ فنحن أوْلى به وأنتم عَلَى ما أنتم عليه).

د. الدغشي يقارن بين عبارة الأسود ومبادئ الديمقراطيات الحديثة، التي تمنح حقوقًا متساوية للوافدين الذين يحظون بجنسيتها، مشيرًا إلى أمثلة من أمريكا وأوروبا، حيث تمكن مهاجرون من الوصول إلى أعلى المناصب، ومنها منصب رئيس الدولة، كأوباما رئيس أمريكا ذو الأصل الكيني. وتمثل ظاهرة الرؤساء العرب تحديداً في دول أمريكا الجنوبية أمرا لافتا. وتذكر الإحصاءات أن عددهم أصبح 11 رئيسا. وهذا عدا عن العمدات والوزراء والمسؤولين…. إلخ. ويضيف أن خطاب الأسود يعبر عن استثناء واستعلاء لا يتوافق مع المساواة الإسلامية، التي جمعت بين المسلمين في بوتقة واحدة ودمجت الآخر غير المسلم ضمن نظامها كما في “وثيقة المدينة”.

ويتعجب من هؤلاء الذين يدعون إلى العلمنة باعتبار أنها نظام مساواة وديمقراطية… ثم هم يرفعون شعار التورد!!  فأين نموذج الدولة الحديثة؟ وما بال دعاة القومية اليمنية إذا جاءوا إلى الإسلام استعروا من أنظمته وتشريعه… وهو الذي آخى بين الناس داخليا (المسلمون كلهم في بوتقة واحدة)… كما أنه دمج بين المسلمين والآخر غير المسلم، واستوعبهم ضمن النظام الإسلامي. كما في وثيقة المدينة.

ثم إن الأبناء اندمجوا في المجتمع وأصبحوا مسلمين خاضعين مثلهم مثل بقية اليمنيين لسلطة الرسول في المدينة. وأين هذا من النموذج العلماني الأمريكي الذي أباد الملايين من السكان ليتوطن بدلا منهم؟!

وحين يزعم د العودي أن حركة الأسود حركة وطنية، مستشهدا بدعم القبائل اليمنية لها. فإن أول رد يأتيه من الأسود نفسه الذي لم نعرف له سوى تلك العبارة العنصرية؛ فهل تجتمع العنصرية والوطنية في قلب واحد؟

وأما ادعاء دعم القبائل اليمنية فإنها دعوى هشة؛ إذ لم يعرف إلا دعم قبائل محدودة من مذحج لتلك الحركة، وهي: عنس وزبيد وبنو الحارث بن كعب وقبائل صغيرة، دفعتهم العصبية الجاهلية لدعمها، لا الوطنية. ويذكر الكلاعي أن ثمة قبائل مذحجية لم تدعم الأسود، مثل: النخع وجعفي. وهذا عدا عن كثير من أفراد مراد وزبيد وغيرهم الذين وقفوا ضد حركة الأسود.

وفي الوقت نفسه فإن قبائل اليمن الكبرى لم تدعمه، كحمير وهمدان، وغيرها. فهل تلك القبائل اليمنية بلا وطنية؟!

ولو نظرنا من منظور سياسي اجتماعي (بعيدا عن المتغير الديني)؛ فإن قبائل اليمن الكبرى كحمير وهمدان ما كانت لتسلم الأمر للأسود العنسي، الذي قد تنظر إلى سلطته على أنها تهدد سلطتها ومصالحها.

كما أن القبائل التي دعمت الأسود إنما دعمته لمصلحة قبلية محدودة، وليس انتماءً لفكرة وطنية، بدليل تخليها عنه سريعًا بعد مقتله.

وحتى هذه القبائل؛ فإن الأسود لم يحظ بدعمها الكامل، فهناك أعداد من مراد (مذحج) رفضوا ردة الأسود وانضموا إلى فروة بن مسيك لمقاومته.

بل إن تعاون زعماء القبائل اليمنية مع الأبناء للقضاء على الأسود، وإعادة صنعاء إلى الدولة الإسلامية لدليل واضح أن الوطنية الحقيقة هي التي كانت تقف في الضفة الأخرى من حركة الأسود العنسي.

وهذا ما أكده د نزار الحديثي، فيقول: “القوى التي تحالفت ضدّ الفرس وهمدان، والتي تزعمها عبهلة فيما بعد، أغلبهـا مـن مـذحج، مثـل عـنس ومراد وزبيد والحرث بن كعب وجنب وواد ومسلية وحكم، وهي قوى يحركها الولاء القبلي، أما بقية القوى الأخرى، من قبائل خولان والأزد، فهي قوى تحالفت مع مذحج في ظروف نجهلها تماما”.

وبعد أن يشير الحديثي إلى التمددات التي كان أحرزها عبهلة أشار إلى المواجهات التي لاقتها حركة عبهلة من قبل مذحج نفسها فيقول: “ومع ذلك فقد واجه عبهلة معارضين تمثلوا في الجماعات المسلمة من مذحج، التي انسحبت مع فروة بن مسيك إلى الأحسية، أما في منطقة حمير، فقد كان لجهود ذي الكلاع، وآل ذي لـعــوه الهمدانيين، المصاهرين له دور في تثبيت الإسلام، ووقفت ضده عك بتهامة”.

وهذا ما ورد في تاريخ الطبري، حيث يقول فيروز: (جاءنا اعتراض عامر ابن شهر وذي زود وذي مران وذي الكلاع وذي ظليم عليه، وكاتبونا وبذلوا لنا النصر).

الدكتور الشجاع أيضاً يذكر أن الأسود فشل في جمع القبائل اليمنية وزعاماتها حوله، فلم يجتمع له سوى بعض قبيلة مذحج، وبالأخص: زبيد وعنس وبني الحارث بن كعب. أما القبائل الكبرى كهمدان وحمير وحضرموت ومعظم خولان فلم يستجيبوا لدعوته، ولم يقدموا له ولاء، بل ساعدوا الأبناء على التخلص منه، ولا سيما بعد تلقيهم رسائل النبي.

كل ما في الأمر إذن أن الأسود استطاع السيطرة على صنعاء، لعدم وجود حامية فيها؛ فقد كانت القبائل تشعر بالأمان تحت ظل الحكم الإسلامي، ولم تتوقع مثل تلك التمردات، مما سهل لعصابة لا يتجاوز أفرادها الألف أن تقتحم صنعاء، ولكون صنعاء منطقة استراتيجية كبرى فقد بدأ خبره ينتشر بين الناس، ولكن لا دليل على أن القبائل قد تحالفت معه، او خضعت له.

والزعم أن سرعة القضاء على حركة الأسود مرده إلى هشاشة التحالفات القبلية، هو صحيح من جهة؛ فلم تنشأ سوى تحالفات محلية داخل قبيلة مذحج نفسها. ولكنه غير صحيح من ناحية أخرى؛ فسرعة القضاء على الأسود العنسي يعني قوة الدولة الإسلامية، وقوة وجودها داخل اليمن، وسرعة الدولة الإسلامية في اتخاذ القرارات الاستراتيجية والحاسمة والحازمة، ومهاراتها في ضرب الخصم، واهتمامها بحقن الدماء والقضاء على العدو بأقل الخسائر الممكنة. في الوقت نفسه فإنها دليل على أن مغامرة الأسود كانت مغامرة عبثية أزهقت الأرواح، ولم تحسب الواقع بشكل صحيح، ولو كنات حكرته وطنية لاستمرت لفترة أطول مع دعم أوسع، خاصة إذا كان التمرد ضد الفرس، كما يزعمون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى