دعوى أن قتل الأسود غيلة
وهنا نثير مسألة أخرى ذات علاقة، وهي: دعوى أن الأسود العنسي قتل غيلة، قتله الفرس (ويقصدون: الأبناء). وهي دعوى ادعاها د/ العودي وغيره من الباحثين.
ويرد د/ الدغشي على هذه الدعوى أن فيها تجاهل صريح لحقيقة حركة الأسود الذي لم تكن خصومته مع الأبناء وحدهم، بل مع المجتمع اليمني كله؛ إذ قاد الأسود حربا مشتعلة ضد المجتمع اليمني المسلم، وأهان مقدسات الإسلام الذي ينتمي إليه اليمنيون، وأعلن التمرد على الشريعة، وتمرد على مبعوثي الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولذلك فمن مصلحة القبائل اليمنية المسلمة القضاء على أي حركة ردة، والتصدي لأي تمرد؛ لأن ذلك يهدد أمنها واستقرارها. وهو ما حدث فعلا.
ودليل آخر يقدمه الدغشي، وهو أن الذين التفوا لمقاتلة الأسود كانوا القبائل اليمنية، بدءا بقبيلته مذحج، التي التف عدد كبير منها حول فروة بن مسيك المرادي المذحجي، كما أن قبيلة همدان تصدت تصديا مباشرا لحركة الأسود كما ذكر الطبري أن عامر بن شهر الهمداني أمير همدان تصدى للأسود، (ولا ندري هل يستطيع الدكتور أن ينزع عنها صفة اليمانية لمسلكها الصريح تجاه عبهلة؟)
ويضيف أيضاً أن مقتل الأسود لا يصح وصفه بأنه غيلة؛ لأن الأجواء أجواء حرب، وكان الأسود قد أراد الفتك بقيس بن مكشوح أمير جنده، حين شعر أنه يريد قتله. ولذلك عجل قيس مع فيروز وزوجة الأسود بالتخلص منه. ولا مجال لإنكار مختلف هذه الأدوار التي تؤكدها مختلف المصادر التاريخية.
ونضيف إلى ما تقدم دليلا آخر، وهو أن مقتل الأسود قرار اتخذ في المدينة نفسها، والذي اتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، الذي راسل زعماء القبائل اليمنية (حمير وهمدان ونجران) وحثهم على سرعة التخلص من الأسود نفسه؛ رغبة في تقليل خسائر المواجهة قدر الممكن. وقد تحرك هؤلاء الزعماء، ونسقوا مع الأبناء “الذين هم تحت سلطة الدولة الإسلامية” ومع قيس بن مكشوح في صنعاء، ولذلك ما أن قتل الأسود حتى تبخر أتباعه، وكأنه فص ملح وذاب، ولم يبق لهم سوى فلول تحولوا إلى عصابات وقطاع طرق يهاجمون اليمنيين ويختطفون الأطفال. وكما يؤكد د الشجاع أن سرعة التخلص من الأسود يبين أن الأسود لم يكن يشكل قوة ذات بال.
وإن انقلاب الوضع سريعًا لمصلحة المسلمين بعد مقتل الأسود، ليشير إلى أن معظم القبائل كانت رافضة لحكمه وداعمة للقضاء عليه، ولذلك لم يكن له أي حاضنة وطنية. وقد جاء في الطبري أن الأسود بعد أن دخل صنعاء أدرك أن (الناس قد انتفضوا عليه، فأحس بالهلاك).
وقد ظهر مصداق ذلك حين تمرد بعد ذلك قيس بن مكشوح (الردة الثانية)، فسرعان ما قضي على حركته وانتهت؛ لأنها مجرد نبتة ضارة بالمجتمع اليمني، فسرعان ما تخلص منها.
والملاحظ أن حركات الردة في اليمن قضي على معظمها بجهود اليمنيين نفسها، وليس بالجيوش التي أرسلت من المدينة، كما حدث مع الأسود ثم قيس بن مكشوح، وفي الإصابة: وكان أول من ارتد من أزد تهامة عكّ، فصار إليهم الطاهر بن أبي هالة فغلبهم، وأمنت الطّرق، وسمّوا الأخابث. وأما الجيش الذي أرسل من المدينة فقد تولى القضاء على ردة كندة، وهي ردة لا علاقة لها بردة الأسود.
ويؤكد د الشجاع أن معظم قبائل اليمن، وخاصة القبائل الكبرى لم ينجروا إلى الردة. بل وقفوا في مواجهة المرتدين. وكل قبيلة حدثت فيها ردة، فقد قام بعض أفرادها بالإنكار؛ فردة مذحج قاومها: فروة بن مسيك في مراد، وعمرو بن الحجاج الزبيدي في زبيد، وعبد الله بن عبد المدان في بني الحارث. وردة كندة قاومها جماعة منهم بقيادة شرحبيل بن السبط الكندي، ثم انضموا إلى زياد بن لبيد البياضي لمقاتلة المرتدين منهم. وأما الأبناء وبعض من كانوا تحت نفوذ الأسود فقد استخدموا التقية كما قال الطبري، خوفا من بطشه، وحتى تتهيأ ظروف مناسبة للتخلص منه.
وهناك سؤال: ما الذي جعل قيسا يتآمر على الأسود وينتفض عليه؟
يرى بعضهم أن سياسة الأسود في التجبر والإهانة والإذلال للناس… هي التي دفعت المقربين منه إلى الانتفاض عليه. وأن أهل صنعاء أنفسهم تذمروا من سياسته… إضافة إلى طموح قيس للنفوذ والسلطة.
ولعل الأسود لم يكن شيئا بدون دعم قيس، فالأسود غير معروف، ولكنه لكهانته ربما دعم، وقد يكون وعد قيساً أن يكون له أمر ونفوذ، ولكنه تغير عليه في صنعاء… وهو أمير على الجند.
وهناك رواية أخرى ذكرها البلاذري أن قيسا كان مرسلا من النبي للقضاء على الأسود، مع فروة. ثم خدع قيسٌ الأسود وأوهمه أنه من أتباعه حتى تمكن من قتله.
واضطراب الروايات يجعل من الصعوبة على الباحث الجزم برواية محددة، كل ما في الأمر أنه يحاول الترجيح بين الروايات دون جزم.
وأخيرا: من الذي قتل الأسود؟؟
تعددت الروايات في ذلك؛ فبعضهم يرجح أنه فيروز، والدور الأساسي كان للأبناء، كما في تاريخ الطبري. وفي البلاذري أن الدور الأساسي كان لقيس بن مكشوح. وفي الإكليل أن الذي قتله هو فروة بن مسيك، ورجحها الحديثي لأن فروة كان متربصا بالأسود ويريد اغتياله.
ومن المرجح كما ذكرنا أعلاه أن مقتل الأسود جاء بتنسيق مشترك بين الأبناء وزعماء القبائل اليمنية؛ مما يبرز هشاشة حركته وغياب الدعم الوطني لها.
خاتمة:
ختاما؛ فإن حركة الأسود العنسي – كما اتضح من المناقشات أعلاه – كانت موجهة ضد الدولة الإسلامية، التي يقودها رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه. ولم تخرج عن غيرها من حركات الردة والتمرد، وأراد الأسود العنسي فرض نفوذه على اليمن، وهو نفوذ يصطدم مع الواقع اليمني وتركيبته القبلية، ومع المتغيرات الجديدة في الجزيرة العربية، ومن الواضح أنها حركة غلب عليها التهور والمغامرات وضعف قراءة الواقع. واستخدم الأسود الكهانة وادعاء النبوة لإيجاد شرعية دينية لحركته. بناءً على الأدلة التي تم جمعها، يمكن القول أن حركة الأسود العنسي لم تكن تمردًا دينيًا بقدر ما كانت محاولة للهيمنة السياسية بغطاء ديني. كما أن تجاوب القبائل اليمنية مع هذه الحركة – سواء من خلال الدعم أو المقاومة – يظهر أن الدولة الإسلامية كانت تحظى بولاء قوي من معظم القبائل، التي كان لها دور حاسم في القضاء على حركات الردة والتمرد.
وفي الختام، إن دراسة حركة الأسود العنسي تقدم لنا مثالًا مهمًا لفهم التفاعل بين القوى الدينية والسياسية في تلك الفترة، كما تساعدنا على فهم كيفية تطور الأمة الإسلامية في مواجهة التحديات الداخلية، وكيفية التصدي للمحاولات التي سعت لزعزعة استقرار النظام الإسلامي الجديد.