ثمَّةَ مناسبات اِكتسبت منذُ وقتٍ مبكِّر في تاريخنا الإسلاميِّ مكانة مهمَّة عند أبناءِ تهامة، أُخِذَت كابرًا عن كابرٍ، فمع الاحتفاء بعِيْدَي “الفِطر والأضحى” اللذينِ يستوي فيهما جميعُ المسلمين في شتَّى بلدان العالم، اِهتمَّ التَّهاميون بمصفوفةٍ من المناسبات تبدأ من “ذكرى الهجرة النَّبوية، مرورًا بالمولدِ النَّبويِّ الشَّريف، وليلة الإسراءِ والمعراج، وليلة البهجة، ويوم عاشورا”، وهنا أسطِّرُ -بإيجازٍ- بعض عوالقِ الذِّكرى عن مناسباتِ المدينة العاشقة للحياة، مما عاصرْتُه، ورأيتُه، وعشتُه، وهي على النَّحو الآتي:
استقبال رمضان
لطالما شعرتُ بالعجبِ من دخولِ رمضان دونَ أن يحدثَ اِرتباكٌ في الزَّمانِ والمكان، لأنه يعيد ترميم علاقتك بالزَّمن، ففي مُقامِي هذا، يدلفُ رمضان بهدوء، بخفَّة، يتسلَّلُ الشَّهر بلا ضجيج، فيثير في نفسي الأحزان، وتستثار الذِّكرى، إذ لم نكن نستقبلُ رمضان بهذا الهدوء القاتل للدَّهشة، ولهفةِ الاِنتظار.
في مدينتنا: في الأيَّام الأخيرة من شعبان يتحوَّل الزَّمانُ وكأنَّه رمضان، فله أشواقٌ وأشجانٌ وتباشير وصور وذكريات، نشتمُّ رائحته، نستعدُّ له بكلِّ شيء، لأنه شهرٌ اِستثنائيٌّ مغاير، له فرادته وخصوصياته، وميزاته الرَّبانية، يتطلبُ توقًا خاصًّا، شغفًا استثنائيًّا، استعدادًا مجاوزًا، أشواقًا صاعدة، فمنذُ وقتٍ مبكر، كنَّا نخطِّطُ للدوري الرَّمضاني الرِّياضي، نعدُّ له العُدَّة، نجهزُ أماكن السَّمَر، ففي قلبِ حارتنا -مثلًا- لمبة لا تضيء إلا في رمضان، نجمعُ الأموال، لشرائها، نحوطها بشَبْكٍ حديديٍّ يحميها من الكسر، والسَّرقة، نصنعُ كل شيء للحفاظِ عليها، لأنَّ ليل رمضان نهارنا، فلا نعرفُ النَّهار في رمضان، ولا حياة إلا في الليلِ حتى مطلعِ الفجر.
كانت الأسر تتجهَّز قبلَ مجيئه، تُقْلَبُ المنازل رأسًا على عَقِب، تنظيفًا، وترتيبًا، وتطييبًا، تمتلئ الأسواق، تدبُّ الحركة في المدينة، الجميع في حالةِ استنفار، تتهيَّأ المساجد، تُزيَّن مآذنها باللونِ الأخضر، يصدحُ منها تراحيب القدوم، يستقبلونه اِستقبالَ الغائبِ المشوق، ويستفتحونَ قدومه بالذِّكر، والتَّواشيح المثيرة للشَّجن، وهي عادةٌ درَجَت عليها بعضُ المساجدِ القديمة.
مما أذكره: أنَّا كنَّا نجوبُ الحارات بأعدادٍ كبيرة، ترحيبًا برمضان، وكلما مررنا بحارةٍ اِنضَمَّ إلينا جمعٌ من الأطفال، وهكذا تتحول إلى مسيرةٍ كبرى تطلقُ فيها الأناشيد، والابتهاجات، والتَّواشيح، والأبيات الرَّكيكة الخالدة في الوجدان:
“أهلًا أهلًا يا رمضان.. ودَّعْنَا بَك يا شعبان”
وهذه الليالي الاحتفاليَّة من أمتعِ اللحظات، وأجملها، لقد كانت تعبيرًا عن الشَّوق العارِم الذي نحمله للشَّهرِ المنتَظَر، بقدومه تستيقظ المشاعر من تراب الذِّكريات، وركام الأيام، لقد كان رمضان زبدة العام، وسيده، وكنَّا نكرِّر بحسرةٍ بالغة: ليت الأيَّام كلها رمضان.
رمضان المدينة
ما عشقتُ رمضانَ إلا في مدينتنا، كانَ له نكهة الخلود، بلغَ من حبي له أني سافرتُ -في ريِّقِ الشَّباب- إلى العُمْرة في رمضان، وكنتُ في رحابِ المسجدِ الحرام، لكني أحسستُ أني أفتقدُ رمضان الذي أعرف، رمضان تهامة، الذي لا يشبهه أيُّ رمضانٍ آخر.
كنَّا نصلي الفجر، ثمَّ نشرعُ في لعبِ الكرة، وأحيانًا نخلدُ إلى النَّوم فورَ الاِنتهاءِ من الصَّلاة، يستيقظُ الجميع مع الظَّهيرة، باستثناءِ أصحاب الأعمالِ اليوميَّة، في النَّهار تخلو المدينة إلا من حرارةِ الشَّمس، لا أحد يحفِل بالنَّهار، يستعيضونَ عنه بالليل، تدبُّ الحركة بعد صلاةِ الظُّهر، يفيق النَّاس من غفوتهم، يخرجونَ لقضاءِ حوائجهم، وإكمال بعضِ أعمالهم، بعد صلاة العصر، تنتشر مباريات كرة القدم في الحواري القديمة، يخرجُ الكبار والصِّغار للمشاهدة، والتَّشجيع، وبعضهم يقضي الوقت ما بينَ العصر والمغرب بقربِ البحر، وقبيل أذانِ المغرب، يتحوَّل الجميع إلى ساعي بريد، كل أسرةٍ تهدي الأخرى من طعامها، في جوٍّ من التَّراحم، والألفة قلَّ أن تشاهده في أماكن أخرى، لا يعرف النَّاس الجوع في رمضان، كل الأماكن بقعة للكرمِ والضِّيافة، البيوت مفتوحة، المساجد تفرشُ موائدها، وبعض الحارات القديمة يخرجُ كل واحدٍ بطعامه ليأكل الجميع في مكانٍ واحد.
ومن مظاهر رمضان المنحوتة في الذَّاكرة، الزِّحام قبيلَ أذانِ المغرب للحاقِ بالإفطار، التَّجمع حول المائدة، الترقب للانقضاض على الطَّعام، وتكرار السُّؤال العبثي: لماذا تأخَّرَ الأذان؟ تقليبُ النَّظر في صحن السَّمبوسة، محاولة الاحتيال للحصول على أكبر قدرٍ منها، ودس بعضها خلسة في الجيب، الخروج أفواجًا إلى صلاةِ المغرب، باستعجال، للحاق بصلاةِ الجماعة، الضَّوضاء في أماكن الوضوء، سماع صوت رجلٍ يركضُ وينحنحُ للإمامِ للتَّريث من أجلِ اللحاق بالرَّكعة، رمضان يعني عودة الخلاف السَّنوي: “وجبة العشاء تكون قبل صلاة التَّراويح أم بعدها؟”. هذه المظاهر لها وقْعٌ في النَّفس، كلما تذكرتها أشعلت الرُّوح، وأذكت جذوة الأشواق.
في رمضان يتغير كل شيء، تغيرًا يتناسبُ مع مقامِ الشَّهر، حتى الأطعمة تتغير، يستقبلونه بأصنافٍ محدَّدة من المأكولات، والمشروبات، مثل (الشُّوربة، الشَّفوت بأنواعه، السَّمبوسة)، ومشروبات مثل (العُنَّاب، الشَّعير، القديد، الزنجبيل، الفيمتو، قمر الدِّين)، هذه القائمة -غالبًا- لا تخلو من بيتِ أحدٍ في رمضان، فهي مرتبطة به ارتباطًا وثيقًا، فلا يكون رمضان إلا بها، وقد يتفنَّن بعضهم في صنعِ العديد من الحلوى، مثل (البقلاوة، البسبوسة)، وكذا (الكريمة، الجيلي، البودر، المهلبية)، ويبسطُ الكرم جناحيه، وتتحقَّقُ على الموائدِ آياتُ الاِجتماع، والمحبَّة، وتجديد عرى الأخوة.
ولا أرى أن يُثرَّبَ على النَّاسِ بتفنُّنِهم في أطعمةِ رمضان، وتعييرهم بالزُّهد، والسَّرف، فالكلام التأثيمي لسلوكِ المسلمين في رمضان دليلٌ على الغفلةِ عن المعنى المقصود من هذا الشَّهر، فما يحصلُ في رمضان عند المسلمين هو المقصود وليسَ عكسه: “الله يريدُ للحياة العضوية أن ترتفعَ من الذَّوق المادي إلى الذَّوق الرمزي حتى يتروْحَن المادي من حياةِ البشر”(1)، فالغذاء يصبحُ في رمضان فنًّا راقيًا بعد أن كان عادة نمطية للبقاء، يأكل النَّاس كما تأكل الأنعام في الأشهر الأخرى كيفما اتفق، ينتقل الإنسان من أكلٍ يسدُّ الحاجة لا غير إلى أكلٍ يغلبُ عليه الفن الحقيقي، والتَّآنس، والتَّراحم، وجمال الصَّنعة؛ لأنه يجمع الأسرة، والأحبَّة، ويحيي الحواس كلها لتشكر الله على نعمائه، وخاصَّة حاسَّة الشَّم التي هي أقرب الحواس للرَّوائح الطَّيبة التي كانت ثالثة ثلاثة فيما يحبُّه النَّبيُّ الأكرم.
بعد صلاة المغرب، تُشْرَبُ القهوة، والبن، وبعضهم يشربُ البنَّ بالحليب، ثمَّ تتحلَّق الأُسَر على مشاهدةِ بعضِ الدِّراما اليمنيَّة التي تجسِّدُ حيوات النَّاس بأسلوبٍ فكاهي، وعلى الرَّغم من رداءتها، لكنَّ العقلَ الجَمْعي يستلطفُ المشاهدة؛ لأنها تحكي وتمسُّ شيئًا من واقعهم، تنتهي مع أذانِ العشاء، فيتجهونَ إلى الصَّلاة.
صلاة التَّراويح في مدينتنا
التَّراويح في مدينتنا، حكايةٌ من حكايا الجمال، تطربُ الذِّكرى لاستعادتها، فقد عُرِفت المدينة بمساجدها الفاخرة، وفي كل مسجدٍ قرَّاء يحيونَ الرُّوح بتلاوتهم، ولكلِّ مسجدٍ نظامٌ يسير عليه، وغالبًا كنتُ أصلي في جامعِ فاطمة الزَّهراء، لقد كانَ حياة كاملة، تخلد الرُّوح إليه، وتلقي إليه مقاليدها، كان المسجد بهجة من مباهجِ المدينة، بقرَّائه، برامجه، وبشيخه، وقد أنفذتُ خَبَره طيَّ كتابي، ولم أوفه حقَّه.
كانَ يصلي بنا التَّراويح القارئ أحمد المصباحي، يصلي بنا ولم يَطُرَّ شاربه بعد، كانَ وهجه يملأ الآفاق، وصوته يحلِّقُ في فضاءِ مدينتنا التي لو أقسمتُ أنَّ أجمل رمضان -قبل الحروب والأزمات- عشته فيها؛ ما كنتُ حانثًا.
كانَ القارئ الصَّغير ينسلُّ إلىٰ المحرابِ بوجهٍ مشرق، كأنه مَلَكٌ تنزَّلَ من السَّماء، صوتٌ جميل، وحضور مهيب، وأدبٌ رفيع. ثمَّ مضىٰ بنا الزَّمن، وبات “جامع فاطمة” الذي كانَ مشعلًا للنُّورِ والحياة في المدينةِ إلىٰ جامعٍ خافتٍ لا يكادُ يبين!
ولعلَّ من الوفاء أن أذكرَ أبرز قرَّاء التَّراويح في مدينتنا، من ترتاحُ إليهمُ الأسماع، وتسمو الرُّوح بتلاوتهم، ولعلي أبدأ بقرَّاءِ جامعِ فاطمة، وعلى رأسهم إمامه الشَّيخ محمَّد سعد الحطامي، والقارئ المتقن أحمد سعد البصير، والأستاذ عبد الماجد، وشيخي القارئ المجاز علي عقيل، والقارئ المميز الذي اخترمته يد المنون في شرخِ الشَّباب محمَّد شيبة (ت: 2015)، والقارئ رضوان العبسي. وفي “جامعِ السَّيد” الشَّيخ محمَّد أبكر بكيرة، وهو ممن ينفردُ بالمقامِ التَّهامي، يقصده النَّاس من الحواري القديمة، وفي جامعِ القدس، المقرئ محمَّد عبد الله قايد، والقارئ محمَّد السُّمين، وفي جامع الرَّحبي، القارئ سمير عبد الواحد، والقارئ عبد الرَّحمن الحطَّامي، وفي جامعِ اليقين، الشَّيخ الرَّاحل يحيى أبو كرم وهو من أندى الأصوات، وأجملها في المدينة، وفي جامعِ شمسان، أشهر قرَّاء المدينة، الشَّيخ إبراهيم رامي، والقارئ الأستاذ محمَّد خالد، وفي جامع الكويت، القارئ الفذ الشَّيخ إبراهيم الفقيه، وفي مسجد الرحمن، القارئ محمَّد البكيلي، وفي مسجد البينة، القارئ النَّابه حمَّاد عزي، وأشرف قشاش، وفي مسجدِ الأمين، القارئ الشَّاب ماجد الجعدي. وغيرهم كثير، وحسبي ما ذكرت.
وبعد صلاة التَّراويح ينتشر النَّاس لقضاءِ أعمالهم، ومصالحهم، تُفْتَحُ الأسواق، تبدأ الحياة، يتزاورون، يشرعُ الأطفال في اللعبِ، في الأزقةِ الصَّاخبة، وتفتحُ دواوين/ مبارِز القات، لقراءةِ الرَّاتب القرآني، وهذه عادة حَسَنة، فيُخْتَم القرآن على مدارِ الشَّهر الفضيل، وبعض الشَّباب يرونه وقتًا مناسبًا للتَّسكُّعِ في أسواقِ “باب مشرف والمطراق”، يسيرون على إيقاع تبختر بنات المدينة بحشمةٍ جميلة مسرعات لغاياتهنَّ الرَّمضانية. وشطرٌ من النَّاس يحيونَ الليل في بعضِ المقاهي، للحديثِ، والأنس، والنِّقاش، والإفادة من الوقتِ بالقربِ من الأصدقاء، ويستمرُّ الحال على ما وصفته لكَ إلى السَّاعةِ الواحدة بعدَ منتصفِ الليل، ثمَّ يشرعُ النَّاس في التَّجهيز لوجبةِ السَّحور.
السَّحور
من العاداتِ الغريبة في مدينتنا -لا سيما الحارات القديمة- أنَّ النَّاسَ يُقْبِلونَ على أكلِ السَّمك للسَّحور، ومن أجله تُفْتَحُ بعض المطاعم، ولعلكم ترمونني بالمبالغة، لو قلتُ لكم: إنَّ غالبَ السَّحور في منزلنا كان “السَّمك”، ولا نستطيبُ غيره إلا اِضطرارًا، هكذا وجدنا أنفسنا، فالقربُ المبارك من البحرِ خلَقَ بيننا وبينه علاقة حميمية تتجاوزُ الوصف، وقد سطَّرتُ شيئًا من أخباره في بعضِ ما كتبت.
وغالبًا يتناول النَّاس سحورهم قربَ دخولِ الوقت، فيأكلونَ بعجلةٍ، وترقُّب، فإذا سمعوا المؤذِّنَ، يقول: “الحذر الحذر قرب الوقت”، يندفعونَ لشربِ الماء، بكميَّاتٍ كبيرة، خوفًا من الحر، وفرارًا من الشُّعور بالعطشِ في النَّهارِ الملتهب.
وحينَ كنتُ طفلًا، فتحتُ عينيَّ على طقسٍ فريدٍ عجيبٍ كانت تقومُ به معظمُ الأسرِ في “مدينتنا”، في رمضان، كان لدينا حلوى، تؤكَلُ قبيلَ السَّحَر -طقسٌ من طقوسِ الفرادةِ الرَّمضانية- تباعُ وتُصنَعُ في رمضان، يُقال لها “خَاجِلة”، تقطرُ أنوثة ورقَّة، ودلالًا.
لعلَّ اسمها مأخوذٌ من هيئتها، والنَّاس عادةً يطلقونَ الأسماء بما يتوافَقُ مع كُنْهِ الشَّيء، في ظني أنَّ من أطلقَ عليها “خاجلة”، أراد معنىٰ “خجولة”، كأنَّه اِستلَّها من خِدْرها، وأسبغَ عليها ظِلالِ الحياء، والتَّمنُّع عن الاِبتذال، فأورثها معنى الحُسْن، لأنها لا تأتي إلا لمامًا، ولا تظهرُ إلا في شهرٍ واحد، ولا تُؤكَلُ إلا في ذروةِ حرارتها، ولا يُتقِنُ صناعتها إلا من توارثَ المهنة أبًا عن جد، ولا تُعْرَفُ إلا في مدينتنا، وفي بعضِ أحياءِ عدن العتيقة، يقال لها: “بنت الشَّيخ”، ويقال: “إنها إرثٌ من بقايا الهنود، اِنتقلت عبر المهاجرين الهنود إلى السَّواحلِ اليمنيَّة، منذ القرنِ العاشِر الهجري، واستقرَّ بها المقام في رحابنا”.
خواتيم رمضان
في مقتبلِ العشْر الأواخرِ من رمضان، تتغيَّر حركة النَّاس والزَّمن، وتتسارع، يجتهدونَ في الظَّفَر بليلةِ القدر، وفي الوقتِ ذاته يستعدُّونَ لاستقبالِ العيد، فتقْلَبُ المنازل مرةً أخرى، تنظيفًا، وترتيبًا، وتُرَمَّمُ بعض الأماكن فيها، ويُضْربُ الطِّلاء، وتُفْرشُ بالجديد، ويُعتنى بها اِعتناءً متقَنًا. يضيقُ الوقت، فتجد النَّاس تعملُ كل شيء بسرعةٍ بالغة، لاستثمارِ العشْر، وقرب دخول العيد. ثمَّة من يهربُ من زحامِ الأسواقِ ليلًا، فيذهبُ للتَّسوقِ بعد صلاةِ الفجر، فإذا بالسُّوق ممتلئ عن آخره، لأنَّ الجميع فكَّر بالطَّريقةِ ذاتها، لا هروبَ من الزَّحام في العشرِ الآواخر.
في بعضِ الحارات القديمة، يحتفي بعض أهل التَّصوف بعاداتٍ عتيقة، يحيونَ الخواتم بالذِّكر، طَلَبًا للقبول، واستمطارًا للعفو، والعتق من النِّيران، تقامُ المجالس في بعضِ المساجدِ العتيقة، والمجالس العَامِرة، يجتمعُ النَّاسُ إليها، يقصدونها من كلِّ مكان، للذِّكر، والدُّعاء، وترتيل الأناشيد والموشَّحات الدِّينية، للشَّيخ الشَّاعر المتصوف عبد الرحيم البرعي (ت: بعد 830)(2)، ومن ثمَّ الختم بقراءةِ دعاء ختمِ رمضان، وفيها تُوَزَّعُ الحلوى، وأشجار الرَّيحان، ويُسكَبُ ماء الورد، وتنبعثُ روائحُ العُودِ الطَّيبة، يبدأ إحياؤها من “مسجد الشَّجرة”، بحيِّ الهنود في ليلةِ الحادي والعشرين، وتنتهي في “الجامع الكبير” بحارة السُّورِ في ليلة التَّاسع والعشرين. وثمَّة مجالس عديدة، تُعْقَد منذ عقود، في قلبِ الحارات، حيثُ يجتمعُ عامَّة النَّاس، والأغنياء، والوجهاء، والأعيان، في مكانٍ واحد، يجمعهم رباطُ الذِّكر، ووداع الشَّهر، تغمرهم المحبَّة، يتبادلونَ الدَّعوات، والتَّهاني بالقبول، وحسن الحال. وقد خفتَت هذه المجالس الختاميَّة في المساجدِ والمجالس، ولا يزال بعضهم يقومُ بها، يحاول أن يحفظَ وهجها من الاِندثار والتَّلاشي.
وقد رأيتُ بعضَ تجار المدينة يجوبونَ بعضَ الحواري والأزقَّة يتعهدونَ النَّاس – لا سيما الفقراء منهم – بمبالغ نقدية من جملةِ الزَّكاة المفروضة عليهم فيما يُعْرَفُ بـ(حق الله)، لإدخالِ الفرحة، وتخفيفًا من وطأةِ الحياة، وهي من العاداتِ التي بدأت في التلاشي بسببِ الحال المزري الذي يعيشه النَّاس(3).
وهكذا، يمضي النَّاسُ في تشييعِ رمضان، ووداعه، بقلبٍ أسيف، يخشونَ ما بعدَ رمضان، لقد لمسوا قدرتَه على كسرِ نمطيَّةِ الحياة، والانقلاب الذي أحدَثَه في النَّفسِ والرُّوح، وتوثيق عرى المحبَّة، والأخوة، وتوسيع دائرة الكرم، والعطاء، والبذل، والشُّعور بالتَّوحدِ مع الملايينِ من البشرِ الذينَ قرّروا طاعة الإله، بالتَّخلي عنِ اللذَّة، اللذة بمفهومها الشَّامل، وما يضفي هذا التَّرك من معاني القدرة على التَّرك المستديم، وتحدي الرَّغبات، وقمعها، والانتصار عليها بفعلِ “الصَّوم”، الصَّوم الذي يمثِّلُ الترياق والقيمة التي تحملُ صاحبها إلى مراقي التَّجلي والارتفاعِ عن الأشياء، والنَّظر إليها من علو، كمن يملكها ويتركها متىٰ أراد، لا كمن تستحوذُ عليه وتسربله بغوايتها، ولهذا، من أدبَرَ وابتعدَ في هذا الشَّهر فهو مدبرٌ على الدَّوام؛ إلا أن يتغمده الإله برحمته؛ فينتشله من القاعِ الذي أوقعَ نفسه فيه!
❃❃❃
الهوامش:
- الجلي، أبو يعرب المرزوقي، ص276.
- العلامة الزِّركلي في الأعلام، ذكر وفاته بتاريخ (803هـ)، لكنَّ الصَّواب -بحسب إفادة أستاذنا البحَّاثة وضاح عبد الباري- هو ما ذكره المؤرخ الوشلي نقلًا عن العلامة أبو بكر بن أبي القاسم في كتابه (الأحساب العلية)، والذي بدوره ينقل عن المؤرخ البريهي أنَّ وفاته كانت بعد عام ثلاثين وثمانمائة، وهو الموجود الآن في تاريخ البريهي الكبير، الذي قام بتحقيقه الأستاذ عبد الله الحبشي.
- وقد كانَ والدي – طيَّبَ الله ثراه – يوزِّعُ الأموالَ للعديدِ من فقراءِ الحاراتِ القديمة، واستمرَّ كذلك حتى منتصف التِّسعينيات، بسببِ ما تعرَّضَ له من أزماتٍ ماليَّة جرَّاء غزو الكويت، وقطع علاقة اليمن بالمملكة، وتردي وضعه المالي.