أدب

عليّ الطنطاويّ الأديب الفقيه

في أُخريات الستينيّات، في يوم منها، قبيل المغرب، كنتُ أصغي إلى إذاعة المملكة العربيّة السعوديّة؛ فإذا بصوت ينبثق، لا يشبه غيره، تغلب عليه الفصحى مع طواعية ويسر وتدفّق، وميل نحو  أصداء من لهجة شاميّة لا يريد أن يُخفيها، وكأنّه يعتزّ بها بنحو ما، كان  يُجيب عن أسئلة تتّصل بالدين، قد وردتْ عليه، وإذا كان يبدو أنّه يقرأ الأسئلة من ورقة أمامه، فإنّه يجيب من دون أن يقرأ في شيء؛ فيستطرد إلى أشياء أخرى لم يرد سؤال عنها؛ بعضها ممّا يمتّ بسبب إلى ما وقع له في مجرى حياته، وبعضها من تاريخ الأدب العربيّ،  وربّما جنح إلى شيء من فكاهةٍ خفيّةٍ. كان حديثًا سمحًا أخّاذًا، يأنس به سامعه، ويُمتعه أن يُنصت إليه. لم أكن أعرف المتحدّث من قبل؛ كان اسمه علي الطنطاوي، وكان اسم برنامجه (مسائل ومشاكل). وصرتُ منذ ذلك اليوم أترقّب موعده، وأحرِص على سماعه؛ لقد كان نصيب الأدب والطرافة فيه يعدل نصيب الفقه.

ثمَّ اتّضح لي أمر المتحدّث شيئًا فشيئًا؛ فإذا به أديب كاتب من أهل البلاغة والبيان؛ كان يكتب المقالة الأدبيّة ، وينشر في (الرسالة)!

ولد علي الطنطاوي في دمشق، في سنة 1909 ، وتعلّم في مدارسها، وسلك سبيلي التعليم يومئذٍ: الديني والمدني، وجمع بينهما، وأراد أن يبقى فيهما كليهما، وألّا ينقطع عن أيّ منهما، وأن يجعلهما مؤتلفين عنده ، منسجمين، لا نفرة بينهما. نال شهادة الليسانس في الحقوق؛ لكنّه عمل في سلك التعليم، أوّل ما عمل. وأتى العراق، في سنة 1936 يدرّس في مدارسه؛ فعمل في بغداد، وكركوك، والبصرة، حتّى سنة 1939 وبقيت ذكرياته فيه ترد على لسانه، وعلى قلمه، كلّما اقتضى داعٍ من دواعي التذكّر أن يسترجعها.

وكان يكتب منذ أواخر العقد الثاني من عمره كتابة متّصلة، وينشر في صحف دمشق، ويقرأ عيون الأدب العربيّ القديم، والحديث ممّا كان يُنشئه طليعة أدباء مصر، وشدا أشياء من الفرنسيّة، ثمّ صار يقرأ فيها الأدب الفرنسيّ.

كانت المقالة الأدبيّة في العشرينيّات، والثلاثينيّات عنوان الأدب، لا يقلّ كبار كتّابها منزلة عن الشعراء؛ يكتبها طه حسين، والزيّات، والرافعي، والمازنيّ، وهيكل، ومن يأخذ مأخذهم، ويقتدي بهم. ثمَّ علا نجمها حين أنشأ الزيّات مجلّة (الرسالة)، وصار من طِماح ناشئة الأدب أن يكتبوا المقالة، وأن ينشروا في (الرسالة). وقد كان الطنطاوي من الجيل الذي نشأ على مائدة الأدب فيها، وذاع اسمه على صفحاتها. وكان يُجلُ الزيَّات، فلا يرد اسمه على لسانه في أحاديثه، أو على قلمه إلّا مسبوقًا بقوله: “أستاذنا”. وكان يلقى من الزيّات و(الرسالة) ما هو جدير به؛ إذ يُنشر ما يكتب إلى جوار ما يكتبه أعلام الكتابة يومئذٍ. وكان ذلك يدعوه إلى أن يجوّد ألفاظه ومعانيه، ويحسن مداخل الكلام ومقاطعه،  وقد كانت مقالته: (على أبواب الثلاثين) ذروة ما بلغ من المقالة الأدبيّة لما جرت عليه من بوح، ولما تمّ لها من انسجام، ولما نهضت عليه من تجربة؛ يقول في بعض مواردها: (نظرت اليوم في سجل ميلادي فوجدتني على أبواب الثلاثين، فتركت عملي وجلست أفكر؛ ماذا بقي لي من هذه السنين الثلاثين؟ يا أسفي لم يبق إلّا ذكريات واهية تحتويها بقيّة قلب تناثرت أشلاؤه على سفوح قاسيون في دمشق… لم أفد إلّا اسمًا مشى في البلاد فحمل قسطه من المدح والذَّم والتمجيد والشتم، ولكنني كنت في معزل عن هذا كلّه فلم ينلني منه شيء، إنّ اسمي ليس منّي؛ إنّه مخلوق من حروف، ولكنني إنسان من لحم ودم، فهل تشبعني الشهرة، أو يكسوني الثناء ولم أملك إلّا قلبًا أحبّ كثيرًا، وأخلص طويلًا، ولكنّه سقط كليمًا على عتبات الحبّ والإخلاص..)، ويمضي فيها على النغمة نفسها؛ يكتنفه يأس، ويحيط به ظلام. لكنّه ليس ممّن يُسلم لليأس مقادته، فلقد بُنيت نفسه على الثقة والرجاء، وأنّ الأبواب إذا ما أُغلق بعضها فلابدّ أن يُفتح غيره.

كتب المقالة وجوّد فيها، وكان له أن يبلغ منها أرفع ممّا بلغ لو أنّه بقي معها؛ لكنّ شؤونًا أخرى أخذته إليها؛ فلقد انتقل من التَّعليم إلى القضاء، وشرع يكتب في التاريخ؛ يقف عند أعلام منه، ويبسط القول في مآثرهم؛ فكان لا بدّ، مع هذا المنحى، أن يقلّ البوح، وأن يكتب ما يرجو أن تكون فيه الموعظة والنصيحة. لكنّ قلمه، حيثما جرى، بليغ فصيح مشرق البيان. بل إنّ ما يكتبه في التاريخ، وما يُجري فيه النصح والإرشاد يصطبغ كلّه بلون الأدب. فقد كتب: (أبو بكر الصديق)، و(قصص من التاريخ) ، و(رجال من التاريخ) ، و(صور وخواطر) ، و(في سبيل الإصلاح) ، و(الجامع الأموي) ، و(دمشق ) وكتب سيرته (ذكريات علي الطنطاوي) وغيرها . ونشر (صيد الخاطر لابن الجوزي، تحقيق وتعليق) . وكلّها ممّا تُمتع قراءته وتفيد.

ولقد كان مع الأدب والفقه يضرب في اللغة بسهم؛ ويسعى أن يجد كلماتٍ عربيّة تدلّ على مستحدثات هذا العصر؛ فقد سمّى الراديو: الرادّ؛ لأنّه يردّ الصوت الذي تبثّه الإذاعة، وسمّى التلفزيون: الرائي؛ بمعنى المرئي!

ثمّ كان أن غادر بلده في سنة 1963 إلى المملكة العربيّة السعوديّة، وعمل فيها، في سلك التعليم، وأخذ يكتب في صحافتها، ويتحدّث من إذاعتها وتلفزيونها. وكان حديثه في الإذاعة ذلك الذي سمّاه (مسائل ومشاكل ) ثمّ عدل، بعد حين ، عن “مشاكل ” إلى ” مشكلات” توخّيًا ما هو أفصح، وأدخل في الصواب! فصار اسمه (مسائل ومشكلات) وبقي يقدّمه زمنًا حتّى تقدّمت به السنّ، ثمّ ركن إلى الراحة في بيته لا يغادره.

كان الطنطاوي، يوم شرع يكتب في (الرسالة)، يغلِب عليه الأدب، مع مكانة الفقه في بنائه، ثمّ صار، من بعد، يغلِب عليه الفقه، مع حضور الأدب في حديثه وكتابته حتّى توفي في سنة 1999 …!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى