لقد تحققت النبوءة، واحترقَ السَّفر، وانتهى الأمر بالآمالِ لجُبَّةِ الأبد.. أتعلمين، سمعتِ يومًا بمقبرة الآمال!؟
حدَّثني جدي ذاتَ يوم حديثًا طويل الذيل امتدَّ عشراتِ القرون؛ حدَّثني أنَّ آدمَ -عليه السلام- في مكانٍ ما في عقله وقد هبطَ من الجنة، وقبلَ التئامِ رُوحه في طور الكمالِ تمهيدًا لخلقِ حبالِ النبوة ونقلِ الأمانة منه للنسلِ المنتقى، في مكانٍ ما وقد ذاعَ بين المخلوقات خبر الدم وانتقال هابيل للحياةِ الآخرة، ليكون بذلك أول الراحلين، أول الواصلين، أول مَن اعتاد الموت في ساحة الفناء، والوحيد الذي وطئ القبر فما أحسَّ دبيب الأرواح من حوله. يُحكى في الإسرائيليات أنَّ الملائكة حارت أوَّل الأمر فيه واستصعبت استكمال خروج الرُّوح وسحبها عبر كامل الجسدِ العملاق من بقعتها إلى طباق السماوات.
لقد استمدَّ قابيلُ حكاية الدم، وتعلَّم نطق حروف الموت والقتل من بقايا أحافير الجان على قوائم الشجر. أقول قوائم؛ لأنه بعد اجتياح الغزو الملائكي لمفسدي الجان اضطر الشجر لتقديم جذورِه قرابين للأرض مقابل الفرار عن موطن القتل وسيول الدماء، وقد باركَ الله تضحياتها، فحفظَ ثمارهنَّ عن دماء الجنِّ، عدا شجر الرمان فإن الملائكة عليه نزلتْ وفجّرت فيه أولى دماء الجن، فلون الرمان من أثر الجان، وحلاوته عوضٌ من الله. استمدَّ قابيلُ مراتٍ قبل أن يلحق بالموتِ هو الآخر، لقد استمدَّ من الجنِ القتل، ومن الغرابِ الدفن، فحتى الحضارةُ الإنسانية الأولى ليست خالصةً للإنسان.
أمّا الملائكة فأذعنت لعجزِها أمام الأسماءِ أولَّ الأمر فأمدَّها الله، وأذعنت أمام الموت الإنساني فحُفظت منه، وكما وُكل آدم فأنبأ بالأسماءِ عادت الملائكة مُوكَّلةً، تسحبُ الأرواحَ لتعود الأسماء فضلَةً لا اعتبار لها في عالمٍ سطت عليه الملائكة. إنَّ المُذعنَ يمدُّه الله، كلما حانت لابنِ آدم لحظةُ إذعان جاءَه المدد، وارتفعَ عنه إذا حان منه التفاتٌ لنفسِه. آدمُ -عليه السلام- لـمَّا سمعَ عن الخَلقِ انتقالَ أولاده إلى الرفيقِ الأعلى وأنهم يُقتَسمون بين الجنة والنار بَــزغ فجرٌ في إحدى أغوار عقله، وأتاح اللهُ لآدم -عليه السلامَ- على الأرض برهـةً من التفكير قبلَ أن يخلق له اسمَ الطالعِ الجديد. أخذَ آدم يتقوَّلُ في نفسه ويُحدّث حواءَ حديثَ نفسٍ لا حديث لسان، كانت تنظرُ إليه تنقلُ بالنظر إليه آلام المخاض، والولادة، وفقدَ ولدين، هي الأخرى لم تتمكن بعدُ مِن أن تبين. إنها تنظرُ وحسب، شعورُهُما غائبُ التسميةِ واحد، راح يتوسَّع فيهما شيئًا فشيئًا، وُلد على هيئةِ فراغٍ بطيء التمدد، الروح حفرته وهو مالئُها، تشكَّل بهيئةٍ لا تشبه تشكَّل الولدين ولا تشكُّلَ الإنسان، مضغةً وعلقة.. لا لا، إنه ظلٌ بلا جسد، تمددَ عند انحسار النور، ما كفَّ عن التموِّه إذ ما وجدَ جسدًا يحويه، ظلَّ صوتًا وعازف الكمان بعيد يمزِّقُ الأفق شدوه. نشأ ناقصًا واستمرَّ امتداده عدا أنه امتداد بغير اكتمال.
ما أثقلَ الأشياء دون جسدٍ يحملها! ما أثقل الشعورِ دون كلامٍ يقوله! أثقل كتفي آدم وأبطئ خطاه، لم تذكر الإسرائيلياتُ كم لبث آدم قبل أن يسمعَ سرورًا يمحو سوءةَ الموت، فالغربان ما علَّمت الإنسان دفنَ الشعور، بدأ الشعور ينادي فما استطاع حتى الصدى تفسيره .. فلم يلتقطه، لقد اتسعت مساحاتُ التفكير وآدم -عليه السلام- لم يجد ما يقوله بعد، ثقلَ الصمت على حواء فتعلَّمتِ البكاء، ولم تفهم تمامًا كل شيءٍ من الماءِ حيٌ إلا حينَ بكت، ورقي آدم -عليه السلام- مدارجَ الكمال وما زالَ عنه الشعور. ووالَدَ اللهُ للإنسانِ المعاني الكثيرة من المعنى الواحد، وأوحى إليه أنَّ الرزقَ لأهلِ المعنى معانٍ حتى إذا بلغ الكفاية منها أمدَّه الله بأجسامٍ تقبضُ على تلك المعاني فيخلُقها الله.
وهكذا خلق اللهُ من رأسِ آدم خلقًا كثيرًا، ولبث آدم -عليه السلام- يُطوِّف فكره في الشعور إذ ما خلقَ الله بعدُ في رأسِه اسمًا يُلقيه عَليه، إنَّ الشعور هنا كائن لم يكتمل، وُلد ناقصَ التكوين ونشأ متسكِعًا في أطراف الفكر يرى أعظمَ الخلق جسدًا يقعد فيه، يحاول الحديث بلا جدوى إذ ما تعرَّف اللغة بعد، إنه ارتباكٌ في الوجود، فراغٌ لا يُملئ، وثقلٌ ما يُحمل، سرابٌ في العدم، نظرٌ في مرآة لم تُخلق لها آلة التصوير والعكس، زرعٌ في أرض لم تعترف بمفهوم الإنباتِ بعد، سماءٌ بلا لون وغيم بلا مطر، طريق مُكرر .. حتى ما بقي في تلافيف الدماغ مكان يُفكِّر فيه آدم عليه السلام ليحاول احتواء هذا الشعور.
قررَ آنذاك العالَـمُ مواساة آدم فسكَت، جمدَ النسيم، وهدأت الطير، وخسئ الصدى، وانطوى الليل والنهار، إنَّ الصمتَ هنا آية مواساة بليغة .. أصبح الزمان أملس بلا ملامح، وأوحى اللهُ لآدم -عليه السلام- أن قد خلقتُ لك وعلَّمتك الأسماء مرةً أخرى، نظرَ الآن آدمُ إلى حواء، وأخبرها باسِمًا أنَّ حسنات الهبوط إلى الأرض بدأت تثمر؛ إذ أوحى الله إليه، وعرَّفه المعنى، والشعور، وعلَّمه كيف يُخلقُ الاسمُ وكيفَ يتخلَّقُ في العَدم، خلقَ الله له الآن لفظَ اليأس، فقال لها: كاد اليأسُ يفتكُ بي لولا أنَّه -تعالى- تداركَ وخلقَ لليأس اسمه فاحتوى كثافةَ ذاك الشعور، أدركني اللهُ من اليأس، توقفتْ حواءُ عن البكاء إذ أبانت هي الأخرى، ومرةً أخرى أذعنَ فأتاه المدد. حدَّثني جدي أن آدمَ سمى الأرض التي دفنَ فيها هابيلُ مقبرةَ الآمال كنايةً عن مقدارِ هابيل في بطنها، لأنه ما يشبه الأمل إلا ابن فقيد، ونقشَ على حجر فيها أنَّ الله يُنقذُ من اليأسِ بأمرين: بالكلمة، بالكتابة، وبتعريفِ الإنسان سبيلَ اليأس وطريقَ خلقه.