اختلف المفسرون والمعربون في بيان الإعراب والمعنى في قوله تعالى:﴿ إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [ سورة آل عمران: 175] إلى وجهات متعددة، وسنعرض ذلك في مسألتين:
اختلف أهل العلم في عود اسم الإشارة “ذلكم” إلى قولين منحصرين في كونه يعود على أعيان، أو يعود على معان.
والمعنى: إنما ذلكم المخوِّف والمثبط هو الشيطان يخوف بالوسوسة بأن ألقى ذلك في أفواههم ليُرهبوا المؤمنين، ويخوفوهم ويجبنوهم.
وهذا قول أكثر المفسرين [1].
فعن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: “مرَّ به -يعني برسول الله صلى الله عليه وسلم- معبدٌ الخزاعيّ بحمراء الأسد= وكانت خزاعة، مسلمُهم ومشركهم، عَيْبةَ نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة، صفقتهم معه، لا يخفون عليه شيئًا كان بها، =ومعبد يومئذ مشرك= فقال: والله يا محمد، أما والله لقد عزَّ علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم! .ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد، حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالرَّوحاء، قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقالوا: أصبنا حَدَّ أصحابه وقادتهم وأشرافهم، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم؟! لنَكرَّن على بقيَّتهم، فلنفرغنَّ منهم. فلما رأى أبو سفيان معبدًا قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد، قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرَّقون عليكم تحرُّقا، قد اجتمع معه من كان تخلَّف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنَق عليكم شيء لم أر مثله قط!. قال: ويلك! ما تقول؟ قال: والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل! قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم! قال: فإنّي أنهاك عن ذلك، فوالله لقد حملني ما رأيتُ على أن قلت فيه أبياتًا من شعر! قال: وما قلت؟ قال: قلت:
كَادَتْ تُهَدُّ مِنَ الأصْوَاتِ رَاحِلَتي
إِذْ سَالَتِ الأرَضُ بِالجُرْدِ الأبَابيِل
تَرْدِي بِأُسْدٍ كِرَامٍ لا تَنَابِلَةٍ
عِنْد اللِّقَاء وَلا خُرْقٍ مَعَازِيِل
فَظَلْتُ عَدْوًا أَظُنُّ الأرْضَ مَائِلَةً
لَمَّا سَمَوْا بِرَئيسٍ غَيْرِ مَخْذُولِ
فَقُلْتُ: وَيْلَ ابْنِ حَرْبٍ منْ لِقَائِكُمُ
إِذَا تَغَطْمَطَتِ البَطْحَاءُ بِالخِيِل
إنِّي نَذِيرٌ لأهْلِ البَسْلِ ضَاحِيَةً
لِكَلِّ ذِي إرْبَةٍ مِنْهُمْ وَمَعْقُولِ
مِنْ جَيْشِ أَحْمَدَ لا وَخْشٍ قَنَابِلُهُ
وَلَيْسَ يُوصَفُ مَا أَنْذَرْتُ بِالقِيلِ
قال: فثنَى ذلك أبا سفيان ومن معه. ومرَّ به ركب من عبد القيس. فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة. قال: ولم؟ قالوا: نريد الميرة. قال: فهل أنتم مبلّغون عني محمدًا رسالة أرسلكم بها، وأحمِّل لكم إبلكم هذه غدًا زبيبًا بعكاظ إذا وافيتموها؟ قالوا: نعم. قال: فإذا جئتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم! فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه: حسبنا الله ونعم الوكيل”[2].
وهذا الوجه قول ابن إسحاق [3].
فقد ذكر مقاتل في تفسيره أن أبا سفيان لقي نعيم بن مسعود الأشجعي، وهو يريد المدينة. فقال: يا نعيم، بلغنا أن محمدًا في الأثر، فأخبره أن أهل مكة قد جمعوا جمعًا كثيرًا من قبائل العرب لقتالكم، وأنهم لقوا أبا سفيان فلاموه بكفه عنكم، بعد الهزيمة حتى هموا به، فردوه فإن رددت عنا محمدًا فلك عشر ذود من الإبل إذا رجعت إلى مكة، فسار نعيم فلقي النبي- صلى الله عليه وسلم- في الصفراء. فقال: ما وراءك يا نعيم؟ فأخبره بقول أبي سفيان. ثم قال: أتاكم الناس. فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: حسبنا الله ونعم الوكيل نعم الملتجأ ونعم الحرز [5].
لأنه علم بالغلبة عليه، ولأنه هو الذي يخوف بالوسوسة [7].
ورجح هذا الوجه الشوكاني فقال: ” والظاهر أن المراد هنا الشيطان نفسه، باعتبار ما يصدر منه من الوسوسة المقتضية للتثبيط”[8].
يعني: المقال الذي قيل، قال أبو حيان: ” ولا بد إذ ذاك من تقدير مضاف محذوف تقديره: إنما ذلكم فعل الشيطان. وقدره الزمخشري: قول الشيطان، أي: قول إبليس. فتكون الإشارة على هذا التقدير إلى القول السابق وهو: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ﴾ [ سورة آل عمران: 173] [9].
وقال ابن عاشور: ” والمعنى: أن ذلك المقال ناشئ عن وسوسة الشيطان في نفوس الذين دبروا مكيدة الإرجاف بتلك المقالة؛ لتخويف المسلمين بواسطة ركب عبد القيس”[10].
وقال الزجاج: ” أي: ذلك التخويف الذي كان فعل الشيطان. أي: هو قوله للمخوفين: ﴿ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ “[11].
وقال ابن عطية: ” والإشارة بـ ” ذلكم” إلى جميع ما جرى من أخبار الركب العبديين عن رسالة أبي سفيان، ومن تحميل أبي سفيان ذلك الكلام، ومن جزع من ذلك الخبر من مؤمن أو متردد”[12].
وقال الواحدي: ” ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ﴾ (ذلك) إشارةٌ إلى التخويف؛ أي: ذلك التخويفُ الذي كان فِعْلُ الشيطان؛ لأنه سَوَّلَهُ للمُخَوَّفِين. قاله الزجاج، وعلى هذا الآيةُ مِنْ باب حذف المضاف، على تقدير: إنما ذلكم فِعْلُ الشيطان، أو كَيْدُ الشيطان، أو تخويفُ الشيطان؛ لأنَّه سبب ذلك؛ بالدعاء إليه والإغواء فيه”[13].
وقال أبو زهرة: ” والإشارة في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ﴾ هي للعمل الذي قام به أولئك الذين دسوا القول المفزع المثبط في النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه، وجعل المسند إليه من قبيل ذكر السبب وإرادة المسبب، فالمعنى: إنما ذلكم القول المدسوس هو الشيطان أي: عمله وتدبيره، ولا يمكن أن يكون إلا في أوليائه، والله ولي الذين آمنوا”[14].
اختلف المفسرون والمعربون في جملة: ﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ هل باقية على ظاهرها بلا محذوف، أو أن فيها محذوفًا؟ على قولين:
والمعنى على هذا القول فيه وجهان ذكرهما المفسرون:
فيكون المعنى: يعظم أولياءه في صدوركم فتخافونه وتخافونهم، فلا تخافوهم وأفردوني بالمخافة أكفكم إياهم.
وهذا قول السدي، وذكره ابن القيم.
وعلى هذا القول فأولياؤه هم: أبو سفيان، ومن معه، والمخوَّف هم المؤمنون[15].
والمعنى: الشيطان يخوف أولياءه الذين يطيعونه، ويؤثرون أمره، فأما أولياء الله فإنهم لا يخافونه إذا خوفهم، ولا ينقادون لأمره ومراده منهم، وهذا قول الحسن [16].
ولكن اختلفوا في تعيين المحذوف: هل هو المفعول الأول، أو الثاني، وهل هو حرف الجر الباء، أو مِن؟ على وجهين:
والتقدير: يخوفكم بأوليائه، أي: شر أوليائه في هذا الوجه؛ لأن الذوات لا تخاف.
والمعنى: يخوفكم أولياءه، ويوهمكم أنهم ذوو بأس وذوو شدة.
أو المحذوف المفعول الأول مع حرف الجر “من”، قال الزجاج معناه: يخوفكم من أوليائه؛ بدليل قوله تعالى: ﴿فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ﴾. ومثال حذف الجار: قوله تعالى: ﴿قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا﴾ [الكهف:2] معناه: لينذركم ببأس، وقوله: ﴿لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ﴾[غافر:15]، أي: لينذركم بيوم التلاق. فيكون قوله: ﴿أَوْلِيَاءَهُ﴾ منصوبًا بنزع الخافض أي: يخوفكم بأوليائه أو من أوليائه.
قال الخليل: ” نصب ﴿أَوْلِيَاءَهُ﴾ على فقدان الْخَافِض، يَعْنِي: يخوف بأوليائه، فَلَمَّا أسقط الْبَاء نصب”[17].
وقال الفارسي: ” فـ ﴿يُخَوِّفُ﴾ قد حذف معه مفعولٌ يقتضيه تقديره: يخوّف المؤمنين بأوليائه، فحذف المفعول والجارّ، فوصل الفعل إلى المفعول الثاني، ألا ترى أنه لا يخوّف أولياءه، على حدّ قولك: خوّفت اللصّ، إنما يخوّف غيرهم ممن لا استنصار له بهم”[18].
فظهر فيها أن المحذوف هو المفعول الأول، وكذلك في قراءة أبي بن كعب: “يخوفكم بأوليائه”.
وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وابن قتيبة، وابن إسحاق، والفراء والزجاج والباقولي والفارسي وابن قتيبة، وابن هشام النحوي.
ولكن رده ابن الأنباري بأن التخويف قد يتعدى بنفسه إلى مفعولين فلا ضرورة إلى إضمار حرف الجر.
فقد ذكروا أن التقدير: “يخوف الناسَ أولياءه” بدون حرف جر؛ كقول القائل: هو يُعطي الدراهم، ويكسو الثياب، بمعنى: هو يعطي الناس الدراهم ويكسوهم الثياب، فحذف المفعول الأول للاستغناء عنه.
ويدل على هذا الوجه: قراءة ابن مسعود وابن عباس: “يخوفكم أولياءه”.
وعلى هذا الوجه: فأولياؤه: أبو سفيان وأصحابه، والمخوَّف هم المؤمنون [19].
أي: يخوف أولياءه شرَّ الكفار، والفعل: ” يخوِّف ” فعل يتعدى إلى مفعولين، لكن يجوز الاقتصار على أحدهما؛ إذ الآخر مفهوم من بنية هذا الفعل؛ لأنك إذا قلت: خوفت زيداً، فمعلوم ضرورة أنك خوفته شيئًا حقه أن يخاف، والتخويف يتعدى إلى مفعولين من غير حرف جر، تقول: خاف زيد القتال، وخوفته القتال.
وهذا سائغ وارد؛ فمثال حذف المفعول الثاني قوله تعالى: ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾[القصص:7] أي: فإذا خفت عليه فرعونَ. والجارُّ المُظْهَرُ في قوله: ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ﴾، بمنزلة المحذوف مِن قوله: ﴿أَوْلِيَاءَهُ﴾.
ويكون ﴿أَوْلِيَاءَهُ﴾ في هذا الوجه هم المنافقون، ومن في قلبه مرض المتخلفون عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: أنه لا يتعدى تخويفه المنافقين، ولا يصل إليكم تخويفه.
وعلى هذا الوجه يكون المخوَّف والأولياء واحداً وهم المنافقون، والمخوف منهم هم الكفار[20].
قال الواحدي: ” هذا الذي ذَكَرْنَا: مذهب الفرّاء، والزّجاج، وأبي علي [21].
ويبدو أن الراجح في هذه المسألة أن يقال:
إن ذلك القول الذي قاله أبو سفيان وأرسل به رسله هو من وسوسة الشيطان وتسويله، يريد به تخويف المؤمنين والمنافقين من شر الكافرين؛ حتى ينثنوا عن إدراك الثأر منهم، والله أعلم.