المدونة

السيرة العطرة

حدثوني عن الحبيب حديثا 

واذكروا فيه آية أو حديثا 

كلما صار لفح وجدي قديما 

أوجد الشوق فيّ وجدا حديثا

لطالما كانت السيرة النبوية، الأكثر جذبا وتأثيرا عليّ من بين جميع الكتب التي قرأتها، كانت دائما أقرب إلى قلبي كيف لا والحديث هنا عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم وحياته والدعوة وتحدياتها والدولة وتأسيسها، وما زلت استشعر هذه السيرة العطرة وأحاول الوصول إلى ذلك الزمن البعيد وأعيش في تلك الأحداث، أكون في مكة والدعوة في بداياتها سرية، يتم اللقاء على حذر في بيت الأرقم بن أبي الأرقم بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ ما نزل عليه من القرآن غضا نديا..

تارة يكون الحديث عن الجنة دار المتقين ونعيمها والنار دار الفجار وسعيرها، وتارة عن قصص الأنبياء والصالحين، ويخبرهم بالأيام المقبلة عليهم وما تحمله من محن وبلايا ومنح وعطايا، وبوقت ستنتشرفيه الدعوة ويكون للإسلام قوة ولهذا كان تمسكهم بالحق أقوى عندما أوذوا؛ لأنه كان يقوم عليه الصلاة والسلام بتربيتهم.

أتخيل المشهد وهم جلوس حوله منصتين باهتمام بالغ فرحين ما آتاهم الله من الهدى فقد استنارت عتمة قلوبهم وطهرت دهاليز أرواحهم، صاروا أكثر نقاء وصفاء، مضت ثلاث سنوات على هذا الحال انتشر فيها أمر الدعوة، ثم تلتها فترة أكثر صعوبة فإن كفار قريش لطول مكثهم في ظلمات الشرك أصبح نور الحق يزعجهم فأبوا اتباع الحق فضيقوا الخناق في الصحابة وتمادوا في إيذاهئم..

وكان عجيبا صبر المسلمين على الأذى الذي يلحقهم جسديا ونفسيا إنها قوة الإيمان، لم تكن تربية الثلاث السنين عبثا فهاهي ثمارها تتحقق بصبر المسلمين وتمسكهم بدينهم. إذا أردنا الحديث بالتفصيل فالكلام يطول ولكن ما أود قوله أن فترة مكة كانت فترة التأسيس للعقيدة وتربية الجيل الأول فأخذت تقريبا نصف حياة الرسول أي ثلاث عشرة سنة.

وكانت المرحلة المدنية أصعب وأكثر تحديا فهناك عدو جديد دخل الساحة هم اليهود مع وجود عداء قريش، ولم يكن أمرا سهلا تأسيس دولة في ذلك الجو والمسلمون محاطون بالأعداء من كل جانب، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بكفاءته تغلب على كل الصعوبات بمدة قياسية..

ربما يكون هناك تصور خاطئ قد يطرأ في أذهان البعض بأنه مع وجود هذه التحديات الكبيرة والمصائب التي كانت تتوالى على المسلمين والأعداء المتربصة بهم، وهذه الحالة الجديّة التي كان فيها النبي صلى الله عليه وسلم ربما يصعب إيجاد وقت للتعامل السمِح في المجتمع المسلم ويغيب جانب الفرح والسعادة والتربية بالأخلاق، ولكن الأمر كان غير ذلك تماما..

فالنبي صلى الله عليه وسلم وازن بين هذين الأمرين جانب الكفائات وجانب التربية، فكان النبي مع همّ الرسالة التي يحملها يعيش بين الصحابة بعفوية وببساطة فتراه يحزن عليه الصلاة والسلام لموت امرأة من غمار الناس كانت تكنس المسجد ويعاتب الصحابة بأنهم لم يخبروه ليشهد دفنها، ويفرح عليه السلام لولادة ابنه إبراهيم ويحزن لوفاته يحب أصحابه ويقربهم فكان خلقه الكريم حاضرا على الدوام..

وهكذا هي شخصية النبي صلى الله عليه وسلم مثالية بلغت من الكمال مداه، نبلا وخلقا، رحمة وعطفا، شجاعة وكرما، أنّا التمسته في جميع مناحي الحياة تجده أفضل مثال.. ولهذا أمرنا بالائتساء والاقتداء به ” لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة” ولا حياة كريمة بدون الاقتداء بها وأول الطريق إلى ذلك هو التعرف عليه من خلال سيرته العطرة و وتتبع هديه وسمته في أحاديثه الشريفة.

ثم إنني أحب أن أختم حديثي عن السيرة النبوية بمشهدين بديعين –وكل مشاهد السيرة بديعة -علقا في ذهني

أولهما يوم فتح مكة حين دخل المسلمون مكة فاتحين من كل الجوانب ولم تقدر قريش على صدّهم يصدحون بـالتكبير، يحطمون الأصنام مردّدين: ” جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا” وأعطى النبي الأمان للناس ثم أمر بلالا باعتلاء الكعبة ورفع الأذن: “الله أكبر.. الله أكبر” إنه لمشهد مهيب حقا صوت الأذان يتردد في أرجاء مكة الله أكبر.. الله أكبر.. هذا الذي يأذن هو بلال بن رباح رضي الله عنه الذي كان بالأمس القريب يعذّب في رمضاء مكة ويسام سوء العذاب وهؤلاء هم أصحاب رسول الله صدقهم الله وعده فهم يحمدونه ويعظمونه، وهاهي مكة خلت من طغاتها وتطهرت من رجس الأصنام وتم محو الوثنية منها.. فسبحان الله يذل من عصاه.

وثانيهما هو حين صار النبي صلى الله عليه وسلم على فراش الموت واشتد عليه المرض فأمر أبا بكر أن يصلي بالناس ثم وجد من نفسه قوة فقام فرفع الستار عن نافذة بيته ورأى الصحابة قياما خلف أبي بكر يصلون لله فابتسم عليه السلام ابتسامة الرضى، فهاهي جهود السنوات أثمرت، هاقد قامت للإسلام في الأرض دولة، ورأى بعينيه أصحابه يمضون على سنته؛ اطمئن النبي صلى الله عليه وسلم على الدعوة واستمراريتها من بعده..

إنّ كلّ السيرة مشاهد عظيمة تستحق أن نحياها ونقف عندها مليا، فهي ليست قصة أو ملحمة تبدأ بولادة النبي وتنتهي بوفاته وصعود روحه إلى الرفيق الأعلى، بل هي كنز ثمين ثمين يحتاج من ينقّب عنه..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى