فكر

المقدّس الديني أم العلماني؟ وثنائية الديمقراطية والعلمانية

إنّ ما يوصف بالمقدّس((Sacred الديني ليس المشكلة الكبرى حقيقة، بالقدر الذي يؤكّد أن إحلال العلمانية ليس الحلّ السحري لمجتمعاتنا. ومع التأكيد على أن الاستبداد والعسف والطغيان قد يرد تحت دثار الدِّين أو العلمانية؛ لكن  المفارقة التي ينبغي أن لا نمرّ عليها مرور الكرام تشير إلى أمر غاية في المفارقة، ذلك أن كل من أراد أن ينال من المقدّس إنما يشير إلى المقدّس الديني وحده، دون غيره من مقدّسات العلمانية، على حين أن كل الشواهد تدلّ على أن أبرز الطغاة الذين حكموا العالم المعاصر الشرقي والغربي أغلبهم إن لم يكن جميعهم ممن ينتمون إلى تيار العلمانية، وليس التيارات الدينية، وإذا كنا جريئين فنذكر بالاسم بعض رموز العلمانية الشيوعية السوفيتية أو الصينية أو الغربية،  أو سواها، أمثال ستالين ولينين وهتلر وموسوليني، و ماوتسي تونج وحتى بوش الابن، ودونالد ترمب وسواهم من مختلف القارات والبلدان، غير أن كثيرين منّا- بمن في ذلك بعض كبار الكتاب وبعض المفكّرين والسياسيين ذوي الوزن-  لا يجرؤون على التصريح بأسماء بعض (المقدّسات) العربية العلمانية– كي لا يفقدوا بعض أصدقائهم أو قرّائهم – مثلاً-  ذلك أن  حجم الهالة وضخامة التقديس بل (إخلاص العبادة)  لبعض تلك الرموز -على الطريقة العلمانية طبعاً-  تحول دون السماح لأحد بانتقاد أو حتى إبداء ملاحظة! ورحم الله الراحل العزيز  الصديق حميد شحرة (1) الذي أشار في ذات مقالة له بمجلة نوافذ إلى أن كثرة الحديث عن المهدي المنتظر لابد له من مراجعة، إذ لا يعقل أن يظهر المهدي – وفق مذهب المؤمنين بقدومه-   في عالم لايزال يقدّس أمثال الرمز فلان وفلان،  وهم على غير منهج المهدي قطعاً(وعدّد شخصيات  وزعامات مقدّسة عند اليمين واليسار)، فلم يغفر له بعضهم وجهة نظره، بل لقد قال لي رحمه الله في ثنايا استغرابي لسرّ ذلك الهجوم العنيف عليه: أتدري ممن أتت أقسى الردود؟ فسألته ممن ياتُرى؟ وظننت أنّه سيشير إلى أحد المراهقين المتهوّرين، لكنه ذكر لي شخصية يسارية متنسكة مسنّة نسبياً – وقتذاك-، يعلو سمتها الظاهري الوقار، واشتهرت منذ سنوات خلت  بإظهار التنسّك والتصوّف والزهد عن كثير من شؤون السياسة والدنيا وصراعاتها، لكن كل ذلك ذاب أو انقلب رأساً على عقب – بالأحرى-  دفعة واحدة ،بعد أن مسّ حميد مقدّسه (الفرد) (الفاشل) بامتياز في ملف الحقوق والحريات – بالخصوص- باعتراف الجميع، وإن وضع له بعضهم المبرّرات والمعاذير لأغراض (التنزيه) و(التقديس) كذلك!!

فبالله عليك – عزيزي القارئ الفطِن- ما المقدّس في أعلى درجات الغلوّ إن لم يكن ذلك تقديساً للبشر؟!  لكن تركيز بعضنا السلبي –للأسف- على المقدّس الديني وحده، أفقده التوازن، وراح يجري وراء سراب (مقدّس) لاشعوري هو العلمانية ؟!

بتعبير آخر : أليس مثيراً للعجب حقّاً أن يأتي من يعمل على إقناعنا  اليوم  بأن سبيل التحرّر من القمع وانتهاك الحقوق والحرّيات، وإخراجنا من دائرة الاستبداد والظلم والتخلّف إنما يكمن في إعلان موقف رافض  للدين بمفهومه الحضاري الشامل، واستيراد (دين) بِدْعي غريب دخيل على مجتمعاتنا، هو العلمانية، وإن لم يعترف بذلك أنصار العلمانية، لكن العبرة بالتطبيق لها كأسلوب حياة.

يقول المفكّر المصري رفيق حبيب ( وهو من عائلة مسيحية شهيرة في مصر) :” والحق أن العلمانية ليست التعبير الدقيق فالفكرة والكلمة في القاموس الغربي هي الدنيوية في مقابل الدينية، وهي أيضاً غير المقدّس في مقابل المقدّس . ومن هذه الرؤية تم نزع الضمير عن العقل وأصبح الأخير مرجعه بيولوجياً ومادياً، لأن العقل هو أكثر جهاز بيولوجي متقدِّم ووظيفته أصبحت تحقيق الّلذة البيولوجية ، لذلك أصبحت المادة (تتقدّم) من خلال مرجعية مادية متحرّرة من كل قيد (معنوي)،غير مادي مفارق للمادة ومتجاوز للطبيعة.

ولنا أن نرى الصورة بأسلوب آخر فليس صحيحاً أن الحضارة الغربية بلا مقدّس، بل هي بلا ضمير مقدّس، فنزع القداسة عن الدِّين والضمير والأخلاق، أو بمعنى آخر تنحية هذه التكوينات المعنوية كان – وما زال- يعني أنّ القداسة تمّ سحبها من مجال المثال المتجاوز للمادة إلى المادة نفسها، فالحاصل أنّ الّلذة أصبحت مفهوماً مقدّساً، وكذلك مجتمع الوفرة والرفاهية والاستهلاك، وكل هذه المنظومة المادية . لذلك فالعقل الحرّ يمارس حرّيته من خلال اعترافه الضمني بقداسة الرؤية المادية، فأصبح حرّاً من الضمير ، وأسيراً للرؤية المادية ، لذلك فإن أيّ تفكير ينزع القداسة عن المادة ، يعتبر تفكيراً ظلامياً وخارج العصر”(2)  .

ويتابع:” بهذا المعنى نرى أن لكل حضارة مرجعية مقدّسة، لا يمكن المساس بها. وهذه المرجعية قد تكون مستمدة من الضمير والقيم والدّين، أي متجاوزة لعالم العمادة، وقد تكون ملتصقة بالمادة ونابعة منها. لهذا فروح العصر تقدّس المادة، عندما جعلت العقل مرجع نفسه، والإنسان مركز الكون ثم ومع نهاية القرن العشرين تحوّلت القداسة شيئاً فشيئاً، فيما يسمّى بما بعد الحداثة، فأصبحت القداسة للمادة التي أصبحت مركز الكون . تلك الرؤيا السائدة لدى الحضارة الغربية، هي ما يتمّ زرعه في أوساط العرب والمسلمين، منذ قرنين من الزمان تقريباً. ومع نهاية القرن العشرين  أصبحت هذه الرؤية سافرة على أمّة الوسط ، في محاولة لزرع قداسة العقل والإنسان والمادة، في مواجهة قداسة الأخلاق والقيم والدّين”(3).

ويوجز رفيق حبيب رأيه في هذا بقوله:” وحتى نحرّر المسألة؛ نؤكّد ما وصلنا إليه سابقا، من أن العلمانية هي نزع القداسة عن الدّين، أي عن المقدَّس، وجعل المادي والدنيوي وغير المقدّس مقدَّساً ضمنياً. وما أردنا تأكيده أن أيّ حضارة تبدأ ببديهيات لا تقبل الجدل ومسلّمات يفترض صحتها ولا يتم التشكيك فيها، وهذه النقاط المرجعية هي المقدّس، حتى وإن كانت أفكراً مادية وغير إنسانية. وبالتالي نتصوّر أنّ  المقدّس ضرورة، لأنه الغاية النهائية الكامنة في أيّ رؤية ، والتي تحدّد تمسك الرؤية واستمرارها وقدرتها على إعادة إنتاج أفعالها …  من هنا نؤكِّد ضرورة المقدّس، وعليه يجب أن نحدّد موقفنا لا بين الارتكان للمقدّس من عدمه بل بين أن يكون المقدّس هو الضمير أو يكون العقل الحرّ النفعي. فالتصوّر العلماني يفرض علينا مقدّسات، تحت شعارات تنادي بتحرير العقل من قيود المقدّسات.

وبالتالي فما نواجهه اليوم هو صراع بين مقدّس وآخر، أي بين قبول الرؤية المادية كمقدّس، أو إعادة إفعال مقدساتنا، والتي تنتمي للضمير والدّين والأخلاق . فالاختيار بين تقديس المادة، وتقديس المعنى. وفي النهاية فالقداسة ضرورة والاختيار بالتالي حتمي” (4).

121126 المقدّس الديني أم العلماني؟ وثنائية الديمقراطية والعلمانية

علمانية ديمقراطية أم دكتاتورية علمانية؟

إذا كان دين الإسلام يمنح كل من يعيش في كنف حضارته  حريّة فردية وجماعية قلّ نظيرها، بشهادة بعض رموز أبناء الديانة المسيحية- وقد جمع بعض تلك الشهادات بعض الباحثين- (5)؛ فإن (الدِّين) الجديد (العلمانية) الذي يستميت بعضنا في سبيل فرضه بكل الوسائل، بما فيها القوة أحياناً، ليس بأكثر من قهر لأغلبية المجتمع، وإقصاء للمخالف من داخل الدائرة، وسقوط في شرك ازدواجية فجّة في المعايير، على حين يتم استعارة خرقاء لمقدّس الآخر المهيمن ونموذجه ومعاييره، كي يُصبح وحده المطلق النهائي  المقدّس (العملي) والقول الفصل !!

ألا ترى أن بعض العلمانيين يدّعي لعلمانيته أو اتجاهه الفكري أو الأيديولوجي  (قداسة خفيّة)  قد تكون أبلغ في ممارستها من قداسة السماء،  أو أنّها قد لا تختلف  في شيء عن قداسة غلاة المتدينين وتطرّفهم؟  وإلا ففسّر لي هذا الإرهاب الفكري الذي تتولاه بعض النخب العلمانية وضحاياها في بعض مجتمعاتنا، تجاه كل من يتبنى منظومة التصوّر الإسلامي وشموله لكل مجالات الحياة، مع أن من  يتبنى ذلك  يمثل الضمير الجمعي البدهي لمجتمعات مسلمة بالكامل، أو في أغلبيتها  العامة – على الأقل- . تؤكِّد ذلك الانتخابات الحرّة النزيهة على أيّ مستوى، في أكثر من قطر. ولست أدري ما جوهر الديمقراطية التي يتباكى هؤلاء العلمانيون على ذبحها من قِبل غيرهم، على حين أنهم بمسلكهم العنيف هذا تجاه مخالفيهم لا يختلفون عن (إرهاب) الأنظمة القمعية باسم الدين أو العلمانية، غير أنهم لم يصلوا إلى (مقصلة) العلمانية في سدّة الحكم؟! فإن هم وصلوا كما في النموذجين التركي (ماقبل تولي حزب العدالة والتنمية) والتونسيي- ما قبل 2011م على سبيل المثال- فنموذجهم أسوأ نموذج في الحكم ومن حيث التفريط بالحقوق والحريات. وسيرد الحديث المفصل نسبياً عن ذلك لاحقاً.

ثم دعني أسألك -قارئ الذكي- كيف تفسّر ظاهرة الاحتراب المسلّح بين الفئات العلمانية في أكثر من قطر، ولعلك تتذكر – على سبيل المثال- أن الحركات القومية واليسارية بكل فروعها وعناوينها في عالمنا العربي – على سبيل المثال- حركات علمانية ( لا نزاع في ذلك)، وقد تمكّن بعضها من الوصول إلى كرسي الحكم في غيرما قطر، وحدث بينها وبعضها  في بعض الحقب من الاقتتال مالا يخفى تحت عناوينها (المقدّسة الخاصة)( القومية- العروبة – الوحدة- – الاشتراكية- الدفاع عن الطبقات الكادحة- العدالة الاجتماعية- الوطن- العروبة…إلخ)، ناهيك  عن مسالكها  ضد قائمة الشرّ المطلقة عندها ( الرجعية- الأصولية- القوى المتطرفة الإسلاموية-  حركات الإسلام السياسي …إلخ).  وفي سبيل قضاء  العلمانية على هذه الأخيرة استباحت كل محرّم، كتدنيس  قداسة الدّين، أو انتهاك  العرض والشرف والكرامة، أو التفريط بالسيادة، والتبعية لهذه القوة المهيمنة أو تلك.  وهل الصراع الداخلي الشهير يبن جناحي حزب البعث في العراق وسوريا طيلة العقود الماضية، أو صراع المجموعات  الماركسية المسلّحة التي كانت تحكم جنوب اليمن، وما عرف  بمحرقة 13 يناير سنة  1986م، إلى حدّ أن بلغت درجة التصفية على الهويّة – على سبيل المثال- هذا عدا الصراع الشهير بين البعثيين والشيوعيين في العراق، أو سوريا أو الناصريين والشيوعيين في مصر، إلا أمثلة محدودة من أمثلة عدّة، لكن كأني بآخرين ممن يشايعون مقولة (الحلّ العلماني)  سيقولون: سلّمنا بأن البلاد ذات الأغلبية المسلمة المتجانسة لا تستدعي العلمانية فكيف بالبلدان ذات الإثنيات والطوائف الدينية والعرقية المختلفة الكبرى كلبنان أو العراق، أو حتى  الهند أو نحوها، هل يمكن النزاع  أو التشكيك بأن  العلمانية هي الدواء الناجع والحل الحتمي في مجتمعات مختلفة كهذه؟!    وأجدني من منطلق العقل والشرع والواقع أنازع في ذلك جدّا، بل أرى أن ذلك إنما يؤيّد وجهة النظر الأخرى القائلة :إن العلمانية في المجتمعات الإسلامية كارثة مجتمعية محقّقة، وفي غير الإسلامية لا تمثّل  حلّاً مثالياً كاملاً، والهند اليوم بالخصوص صارت الدليل الأكثر بشاعة في العالم على فشل الحل العلماني، ثم بدليل جملة من الوقائع التي أكّدت ذلك، وسأشير إلى طرف يسير منها  في موضعه  لاحقاً.

العلمانية المقدّس الديني أم العلماني؟ وثنائية الديمقراطية والعلمانية

علمانية بلا ديمقراطية:

وإذا كان بعض المؤمنين بحتمية الحل العلماني يحاولون تبرير الإخفاق الذريع الذي منيت به التجربة العلمانية في أكثر من مجتمع؛ بأنّه لم يتلازم مع الديمقراطية؛ فبالله عليك أجبني –  قارئي المتفاعل- مرة أخرى: ما الذي يتبقى من العلمانية إذا أفرغت من جوهرها الديمقراطي هذا؟ أي بأن تصادر حقوق أغلبية المجتمع الإسلامي –  في أيّ قُطر- حين تفرض عليه الحل العلماني إرضاء لرغبة (نخبة) هامشية معزولة، لاقيمة لها في الضمير الجمعي للمجتمع، ولا تأثير يذكر، كمّاً ونوعاً! واسمح لي هنا بأن أورد رواية ذات مغزى حكاها الشيخ  المجاهد الراحل محمّد الغزالي – وهي تكشف جانباً من أزمة الوعي والخُلُق معاً لدى الاتجاه العلماني بعامة- فيروي الشيخ أن حواراً جرى بينه وبين شخص (يدّعي العلمانية والديمقراطية)؛ حين بادره الشيخ بالسؤال عن معنى الديمقراطية، فأجاب الرجل -في زهو-: أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، فردّ عليه الشيخ أكْمِل التعريف، فردّ الرجل بأن هذا هو التعريف بأكمله، فألح عليه الشيخ إلا أن يكمل التعريف، فردّ الرجل بإصرار أكبر، وثقة لامجال فيها للشك، بأن هذا هو التعريف ولا مزيد عليه، فردّ الشيخ: إن بقية التعريف عندكم: أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، إلا أن يكون الشعب مسلماً، فلا يحق له ذلك!! (6).

وقد توصل العديد من الباحثين الغربيين المنصفين إلى أن تطور دول العالم الإسلامي طبقا لقوانينه الطبيعية الخاصة يؤدي تلقائيا إلى الأسلمة الدستورية والسياسية، ما لم يحُلْ دون ذلك قهر داخلي، أو تدخل خارجي، أو هيمنة للأقليات الدينية واللادينية على سرديات الهوية والذاكرة والمستقبل. فتوسع حضور الإسلام في الشأن العام متلازم مع توسع مساحة الحرية السياسية والحقوق الأساسية في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة، والنضال من أجل الديمقراطية هو نضال من أجل الحياة الإسلامية في الوقت ذاته. ولا يحتاج الأمر إلى سلطة قهرية -كما تعتقد جماعات الغلو والعنف الأهوج- وإنما يحتاج إلى شعوب حرة مؤمنة بالإسلام وبإنسانية الإنسان. فالمفارقة بين التدين المجتمعي والعلمانية السياسية ظاهرة مفتعلة في المجتمعات الإسلامية، وهي ظاهرة تمزق هذه المجتمعات، وتحرمها التصالح مع ذاتها، واستئناف حضارتها”(7).

إن عدت وقلت لي إن استشهاد خصوم العلمانية بالنماذج التي  حكمت سوريا أو العراق أو مصر أو تونس أو بنغلاديش أو تركيا أو جنوب اليمن سابقاً علمانيات منقوصة، لأنها افتقدت شرطاً أساسياً فيها وهو  الديمقراطية، فسيجيبك الإسلاميون قائلين:  ولماذا إذاً تحرصون  أنتم على انتقاء  أكثر  الاتجاهات الإسلامية  غلواً وعنفاً كالجماعات التي تعلن إيمانها بالجهاد ضدّ خصومها  داخل المجتمعات الإسلامية؟ أو تلك الجماعات المتشددة في تدينها وسلوكها؟ أو تلك المتسيبة جدّاً، حتى أحالت الدّين سلبية وهروباً من مواجهة تحديات الواقع؟ أو أن تركزوا على بعض الأحداث والوقائع أو الفتاوى  والمقولات الشاذة في القديم أو الحديث سياسياً واجتماعياً ؟ وتدَعون الأغلبية الساحقة من الاتجاه الوسطي الهادر، ذاك الذي يمثّل جمهور الأمة وسوادها الأعظم؟ مع فارق أن حديثنا الآن عن الذات، وليس عن الآخر الذي ترومون فرضه بالقهر على مجتمعاتنا. ومن جانب آخر  هب أن  دعواكم هذه في عدم تمثيل أي من تلك الاتجاهات أو الأنظمة القمعية  في بعض مجتمعاتنا للعلمانية أمر مسلّم به لدى  كل من يؤمن بالحل العلماني، وأن ذلك بات اعترافاً من الجميع بخطيئة  القمع الإقصاء والمصادرة  التي لحقت  ببعض فرقاء العمل السياسي والفكري في السابق، وفي مقدّمتهم ذوو الاتجاهات الإسلامية؛ وأن ذلك الاعتراف إعلان رسمي بالتوبة بعد الخطيئة؛ فإن اعتراضاً آخر وجيهاً  على منطق كهذا سيرِد من داخل الفلسفة العلمانية ذاتها، وذلك حين تطالبها بان تكون ديمقراطية، بمعنى أن تسمح لجميع قوى المجتمع وفعالياته الحيّة بالمشاركة بمن فيهم الإسلاميون، مع أن الإسلاميين هم الأغلبية التلقائية عادة في المجتمعات العربية والإسلامية (وسيظل النموذج التركي أكثر النماذج حضوراً  وقوّة في هذه المرحلة بالخصوص)؛ بيد أن التناقض السافر والساخر معاً سيبرز بفجاجة ما بعدها فجاجة، حين تأخذ العلمانية باليسار ما تظن أنها قد أعطته باليمين، أي أن بعض هؤلاء (الشجعان) من أبنائها الذين ينتقدونها من الداخل ويعترفون بجريرة قهرها وتسلطها وإقصائها لأكبر القوى الحية في المجتمع– وهم يقصدون الإسلاميين بطبيعة الحال- سينزعون روح الإسلاميين في الوقت الذي يطالبون فيه بالسماح لهم بالمشاركة السياسية ببرنامجهم (الإسلامي)،  لأنهم  إذ يطالبون العلمانية بالتوأمة أو التلازم مع الديمقراطية؛ فإنهم يطالبون الإسلاميين في الوقت ذاته بأن يخضعوا لشرط الديمقراطية (العلمانية) التي فصلوها على مقاس العلمانيين وحدهم، حيث أرادوا تعميم نموذجهم وفرضه على الجميع بهذا الوجه أو بالآخر، أي أن  يحدّد الإسلاميون موقفاً واضحاً من الإسلام بوصفه نظاماً تشريعياً شاملاً، بحيث يتخلون عن مقوّمهم الأساس وروحهم  النابض وهو الإيمان بشمول الإسلام للنظام السياسي والقضائي والاقتصادي والتربوي والإعلامي والمجتمعي والسلوكي كآفة، حينها قد يسمحون لهم أن  يمارسوا دورهم كحالة سياسية هامشية  ديكورية  في المجتمع،  لكن بعد التأكّد من نزع روحهم، أي  تجسيدهم العملي لحقيقة الفصل بين عقيدتهم المؤمنة بقيام ذلك النظام الشامل في الإسلام وبين الممارسة لذلك الدور، بعيداً عن كل ما يشي  إلى الإيمان بعلاقة الدين  بالسياسة أو الاقتصاد أو التربية أو  الاجتماع  أو الإعلام أو سواه .  وحين يعود الإسلاميون إلى ذواتهم فيتذكرون أن الدّين  يمثّل القاعدة الأساس المكوّن لوجودهم والموجّه العام لفكرهم وسلوكهم، فإن فزّاعة (الإسلام السياسي) سرعان ما سترفع في وجوههم، كي يثبتوا أنهم تخلوا عنه، فيغدون  مجرّد حزب سياسي  بلا شريعة أو مرجعية تشريعية، شأنهم في ذلك شان كل الأحزاب العلمانية، بمرجعياتها الوضعية المختلفة، أيّاً كانت أيديولوجياتها مادامت غير إسلامية!! وبذلك  فإن هذا  المطلب شرط القوى العلمانية أو أكثرها  للسماح للإسلاميين بالمشاركة السياسية والاجتماعية، ومن ثمّ فإننا  سنعود لندور في الحلقة المفرغة مجدّداً (علمانية بلا ديمقراطية)، إذ عادت العلمانية للإجهاز مجدّداً على روح الديمقراطية، حين تشترط  فرض نموذجها الدخيل القادم من وراء البحار قسراً على المجتمع المسلم أو أغلبيته  باشتراطها التعسفي الإقصائي  المستحيل هذا!

والواقع أن هذا حاصل  كلام العلم  والعقل والواقع، وقد أقرّ به – على سبيل المثال- فقيهان دستوريان أمريكيان هما نوح فيلدمان ورومان مار تينيز اللذان درسا  حالة الديمقراطية في المجتمعات الإسلامية فتوصلا إلى نتيجة فحواها  أن ”  المسألة ببساطة أن مزيداً من الديمقراطية  يعني مزيداً  من الإسلام” (8).   ويعلق على ذلك  محمد المختار الشنقيطي  قائلاً:” وهكذا  يتبين أن تطور دول العالم الإسلامي طبقاً لقوانينها الطبيعية الخاصة – دون قهر داخلي أو تدخل خارجي- يؤدي إلى الأسلمة الدستورية، ويقود  في النهاية إلى  حل الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية” (9).

الهوامش:

  1. حميد شحرة ، صحفي يمني رأس تحرير مجلة نوافذ الشهرية، ثم صحيفة الناس الأسبوعية، واشتهر بنشاطه الإعلامي اللافت، لكن عاجلته المنية باكراً ، حيث قضى في حادث سير في طريق عودته من مكة المكرمة إلى اليمن في 1429هـ-2008م.
  2. رفيق حبيب، المقدّس والحرّية،ص 10- 11، 1418هـ- 1998م، الطبعة الأولى، القاهرة وبيروت: دار الشروق
  3. المرجع السابق، ص 11.
  4. المرجع نفسه، ص 12-13.
  5. راجع: يوسف  القرضاوي، بيّنات الحل الإسلاميوشبهات العلمانيين والمتغربين، ص 231- 247، د.ت، د.ط، د.م:د.ن .
  6. أورده الشيخ الغزالي في إحدى مقالاته الشهيرة بصحيفة (المسلمون) الحق المر، تلك التي جمعت لاحقاً  في كتاب تحت ذلك العنوان.
  7. محمد المختار الشنقيطي، ديمقراطية لا علمانية، موقع الجزيرة  نت ،17/10/2021م (دخول في 19/8/2022م).
  8. الشنقيطي،  الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية، مرجع سابق، ص 519-520.
  9. المرجع  السابق، ص  520. 

أ.د أحمد الدغشي

أ.د أحمد محمد الدغشي أستاذ الفكر التربوي الإسلامي بجامعتي صنعاء - اليمن وإغدر (الحكومية) التركية لديه ٢٤ كتابًا منشورًا، وكتب أخرى تنتظر النشر. -حاصل على جائزة رئيس الجمهورية التشجيعية للبحث العلمي في ٢٠٠٩م. -شارك في عدة فعاليات وأنشطة فكرية وتربوية في العالم العربي وفي أوروبا وأمريكا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى