أدب

إطلالة على الأدبِ النِّسوي في اليمن

الكتابة الأدبية أساسًا تظللها مظلة واحدة هي الكتابة الإنسانية, فلا يمكن تصنيفها بالنِّسوية أو الذُّكورية. فلها نفس الدوافع والواقع ذاته, إلا أنَّ خصوصية الكتابة النسوية قائمة بسببِ المعاملة الخاصة التي تواجهها المرأة في المجتمعاتِ العربية بشكلٍ عام واليمنية بشكلٍ خاص. والذي حتم كتابات تتحدث عن هذه النظرة أو تعالجها بقالبٍ أدبيٍّ أو توعوي.

الكتابة هي حفرٌ بالكلماتِ في جدران هذا الواقع المحاصر للمرأة, تركب أعنتها لتخوض التجربة وتثبت جدارتها لفنون هي أولى بها. فالمرأة حكَّاءة بطبيعتها, فنانة بفطرتها. والكلمة امرأة, واللغة أنثى, وتجارب هذه الأنثى الإنسانية والخيالية هي أجدر من يصوغها بعباراتها المثلى بواقعيةٍ وسهولة.

إن لم تكن الكتابة أنثى فمن لقلوب الإناث المثقلة بالهزائمِ والمعافرة لتحقيق نصر الوجود في بيئةٍ طاعنة في إنكار هذا التأنيث, والبحث عن ألفاظٍ معقدة كي تخفيه عن العيون .

ففي اليمن ما زلنا نجد من يتحاشى النُّطق باسم زوْجه أو قريبته, بل يبحثُ عن لفظ  كـ “البيت” و “الأهل” و “الجماعة”, وعشرات من المسميات إلا اسمها أو لفظ يعري وجودها للأسماع .

في بيئةٍ كهذه تظهر نساء خارقات يتصدَّرنَ المشهد كأضحيات يقدمن أنفسهنَّ من أجل عبور أخريات لمشهد حياة تحترم وجودهن. هؤلاء النساء هنَّ الأديبات والكاتبات اللاتي يمضغ الكثير أسماءهن بغرابةٍ و القليل بتقديرٍ واهتمام.

ولهذا, تنفرد الكتابة النسائية في اليمن بصعوباتٍ ذات شجون, لا يحصيها العدد. فالمرأة في مجتمعنا تُسلط نحوها تلك النَّظرة القاصرة والنَّظرة لما تقول أو تكتب أشد قصورًا وإجحافًا.

 وعقِب البدايات الضَّئيلة في الظهور أصبحت المرأة الكاتبة رغم الصُّعوبات أكثر قدرة من الرَّجل على تمثيلِ نفسها وبنات جنسها, وإبراز ما يختلجُ في داخلها من تغيراتٍ حول كل ما يدور حولها.

صارت قادرة على إظهار همها الاجتماعي أو السِّياسي, أو حتى العاطفي باقتدارٍ وخصوصية قد يعجز الرجل عن قولبتها, أو صياغتها بنفسِ المهارة و القدرة.

وبالرَّغم من أنَّ تجربة الكاتبة اليمنية تعدُّ حديثة, و تنطوي على قصورٍ كبير بسببِ تأخر المجتمع اليمني ككل عن ركبِ الحياة الثَّقافية الطبيعية, وتأخر المرأة بشكلٍ خاص عن التثقيف والمشاركة.

ورغم ما يُساق إليه المجتمع من تجهيل حاليًا هو أشد من سابقه لتصبح بذلك الكتابة الأدبية فيه ترف المبعدين فقط, وفعل مقاومة لكلِّ الظروف القاهرة التي أتت بها الحرب. رغم كل هذا إلا أنها في السَّنوات القليلة الماضية قطعت أشواطًا كبيرة في هذا المجال تحسبُ لها رغم كل الظُّروف المثبِّطة التي تحول دون المضي قدمًا في تمثيل نفسها في أي مجال.

 

مقارنة ببداية السِّتينيات من القرنِ المنصرم والآن تُعدُّ غزارة الإنتاج الأدبي النسوي في اليمن كبيرة وملفتة ودالة على هذا الحضور المتنامي. نصف قرن منذ اقتحمت المرأة اليمنية مجال الكتابة الأدبية على أيدي كاتبات قلائل أبرزهن “شفيقة زوقري” صاحبة رواية مصارعة الموت و”رمزية الإرياني” في روايتيها “ضحية الجشع” و”قتلنا القات” .

34 إطلالة على الأدبِ النِّسوي في اليمن

وبعد أن كانت الرِّوايات الصَّادرة في بداية السبعينيات لا تتجاوز الخمس روايات, نجد الآن بحسب موسوعة ببليوجرافيا دكتور “إبراهيم أبو طالب” والتي ستصدر قريبًا, إن عدد الروائيات اليمنيات بلغ حتى عام 2021م ثمانون روائية, أنتجنَ 135 رواية تتراوح أعدادها ما بين رواية واحدة لأغلبهنَّ وسبع روايات كحدٍّ أقصى للروائية الواحدة.

 

هذا في مجال الرواية فقط, وتشهد بقية الأنواع الأدبية من شعر ونثر وقصة قصيرة غزارة إنتاج مضاعَف في السَّنوات الأخيرة. 

يظل لجوء المرأة للسَّرد طاغيًا, فهو المساحة الواسعة لقلم المرأة الخجول, المتخفي, والمقموع؛ لينطلق معبرًا عن همومها وقضاياها وطموحاتها وآمالها بصورةٍ فضفاضة. بعيدًا عن قيود الشِّعر, وإن كان ظهور أساليب متنوعة من الكتابة تنسب للقصيد ولا تتقيد بقوانين الشعر أتاحت للمرأة مجالًا أوسع للكتابة.

تبنت الكتابات النسائية في بداياتها الاتجاه الواقعي في بنائها، على حساب جماليات السَّرد الإبداعية، كما تأثرت المسيرة الأدبية النسائية اليمنية خلال القرن العشرين بتباين مجتمع الشّمال والجنوب حيث حصلت المرأة في عدن على نصيب وافر من التمدن والتحضر وسبقت المرأة في الشمال بعقدينِ من الزَّمان في مجالِ الكتابة الأدبية.

وبما أنَّ كل مجتمع له خصوصياته المعينة التي يتفردُ بها عن باقي المجتمعات المتشابهة, وفي داخل هذا المجتمع ذاته يوجد تفاوت كبير في معاملة المرأة و النظر إليها, فنظرة المجتمع الريفي بحياته الشَّاقة ستختلف تمامًا عن مجتمع المدينة الذي انفتحَ على العالم نوعًا ما, كما تختلف مجتمعات المدن بعضها عن بعض في تثمين أي خطوة جديدة تقوم بها المرأة بحسب ثقافة ووعي الرجل.

وبالتالي, يختلف مقدار معاناة كل كاتبة وهمومها عن غيرها وأسلوب انتاجها أيضًا. المشاهد أيضًا هو امتلاك المرأة القدرة على تطوير أساليب الإبداع وجماليات السَّرد رغم واقعيته.

تحاول المرأة أن تصرخ بحروفها كي تصل إلى الأسماع وتعري كثافة الحجب التي تفصلها عن النجاح والعالمية كأي أديبة عربية وصلت قبلها بمراحل.

فماذا ستكتب أديبة كل خبراتها في الحياة مقارعة الواقع وتحمل أعباءه ؟

في نظرة سريعة لأديباتٍ كاتباتٍ يمنيات نلاحظ أنَّ جلّ الفكرة تدور حول نقاط ومحددات تكاد تتشابه في كل باكورة عمل أدبي, فهي لا تخلو من ذاتية الأديبة ورفضها للواقع الذي تصفه بمرارة كبيرة, فكتابات المرأة مِرآة الواقع ونبضه المهموس بحياء وخوف.

كما أنَّ الزخم العاطفي يتدفق بقوة في الكتابات النسائية, ربما لطبيعة المرأة النَّابضة بالعاطفة والحب, أو هو رد فعل لكبتِ العيب و إخفاء المشاعر نحو الأخر أو إبداءها للأخرين .

 الكاتبة الأنثى بفطرتها العاطفية الجياشة دومًا ما تميل للكتابة عن الحب, ربما بإسرافٍ وعاطفة باذخة كفطرة طبيعية, ومشاعر تجتاح المرأة في بيئة تعاني من كبتٍ عاطفي تحت مسمى الخجل والعيب .

AdobeStock 109341983 Preview إطلالة على الأدبِ النِّسوي في اليمن

فكما تقول “مدام دوستايل: “الحب هو تاريخ المرأة وليس إلا حادثًا عابرًا في حياةِ الرجل”, أو كما قال “هوجو: “قد يكتب الرجل عن الحبِّ كتابًا ومع ذلك لا يستطيع أن يعبر عنه, ولكن كلمة عن الحب من المرأة تكفي لذلك كله”.

كما تظل البيئة القبلية اليمنية حاضرة كمحور حتى في المناطق التي اضمحل فيها كيان القبيلة, ما يزال الفكر القبلي هو المسيطر على مجريات الحياة, وتقييم الأفراد نساءً ورجالًا. ورغم تشدق الكثير بمسمياتٍ وشعارات كحقِّ المرأة وحرية المرأة, إلا أنه ما يزال مجرد ظاهرة ادعائية لا تمت لواقعهم بصلة .

بل إن هناك من أصبح علامة فارقة في المناداة بشعارات كهذه, وتجده في حياته الخاصة أبعد ما يكون عنها, بل, إنه مبالغ في ممارسة الالتزام بفكر عادات و تقاليد القبيلة التي تحاصر المرأة كعيبٍ وعوْرة .

الدِّين أيضًا, بمفهومهم؛ يعدُّ الغطاء الشَّرعي لعادات وتقاليد القبيلة, زاد من تمسكِّ العامة والجهلة بهذه التقاليد, وكأنها جزء من الدِّين الذي يؤمنونَ به . ناهيك عن النَّظرة القاصرة للمرأة فيما يخص أقوالها و أفعالها, تلك النَّظرة التي تصنفُ كتاباتها كثرثرة نسائية عن واقعها المرير.

هذه الواقعية ما زالت هي السِّمة الغالبة في الكتاباتِ النَسوية, ويُلاحظ هذا في إنتاجِ الفترة الأخيرة, فكل الكتابات تقريبًا تصبُّ في أتون الصِّراع الرَّاهن ونصيب المرأة الثقيل منه ومعاناتها جراء هذا الصراع. وتطرق لتداعيات الحرب التي سحقت المجتمع اليمني وأفرزت أمراضًا اجتماعية تتفاقم كل يوم.

الكاتبة  تعبر حقلًا من الزجاج المكسور, مليء بالمحظورات و المحرمات, فتنبشُ بأصابعها العارية هذا الواقع فتدمى جوارحها وروحها حتى تصل لأرضية صلبة تقف عليها بثقة دون خوف السقوط .

ففي وطنٍ تمزقه الحرب. الكتابة الأدبية أيضًا يمزقها الاختلاف بين التَّوجهات السِّياسية, وتحكمها الشللية, والأدباء ليسوا بمنجى منها أبدًا. فنجد الدَّعم لنوعيةِ الأدب الموجه الذي يخدم قضايا وأفكار بعينها على حساب أعمال تنأى عن الأيديولوجيا الموجهة وتظهر بقالب أدبٍ إنساني لا يخدم طرفًا ضدَّ طرف.

ولعلَّ أثقل الصعوبات الراهنة التي تواجه الكاتبة أيضًا, حالة البلد الاقتصادية التي أثرت على الإنتاج الأدبي لدى الجميع رجالًا ونساءً, لكن بحكم خصوصية المرأة تعاني الكاتبة من مسألة طباعة وتوزيع إنتاجها الأدبي, ونجد الكثيرات يؤجلن طبع أعمالهن أو تأجيل وضعها على الإنترنت حتى تجد التَّسويق المناسب. هذه الصعوبة في طباعة الإنتاج الأدبي؛ تعود لغياب دور النَّشر المتخصصة, وتكاليف الطباعة والتوزيع الباهظة.

ويحدونا التفاؤل بمقدرة المرأة على تجاوز معضلة النَّشر وغياب الدور المعنية على طبعِ وتوزيع الكتاب, فالمرأة التي تحدَّت عصور التجهيل, قادرة على إيصال كلماتها إلى كل مكان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى