أدب

الصورة الأخيرة!

لا أتذكر متى صرت مغرما بهذه العادة التي سيطرت على عقلي ونفسي، ولكن الذي علق بذاكرتي: أني فوجئت يوما بأحد أقاربي يرمي خارج منزله المجاور لبيتنا بكميات غير قليلة من المجلات المصورة التي كان يحتفظ بها في مكتبته التي لم يكن يسمح لأحد بدخولها في غيابه، وهي كانت السبب الرئيسي للمشادات التي تحدث بينه وزوجته التي كانت تضيق من اهتمامه بالصحف والمجلات؛ مرة عندما يشتريها وأخرى عندما يحتفظ بها في المكتبة المزدحمة بأشياء عديدة.

وقفت مشدوها أمام ذلك الكم الكبير من الصحف والمجلات المرمية؛ لكن سرعان ما تمالكت نفسي ورحت أفرزها بسرعة مركزا جهدي على المجلات المصورة العربية منها والأجنبية، ذات الورق المصقول والطباعة الأنيقة. وسرعان ما كنت أتسلل بها إلى منزلنا ودسستها تحت السرير الذي أنام عليه؛ تجنبا من غضبة نسائية تصدر هذه المرة من والدتي التي لن يكون رد فعلها لرؤية تلك الأوراق إلا مشابها لرد فعل زوجة قريبنا.

❃❃❃

انتهزت أول فرصة خلا فيها بيتنا من ساكنيه؛ فأخرجت واحدة من تلك المجلات المصورة، ورحت أتصفحها بانبهار، وبحكم صغر سني يومها فلم أكن مهتما بالعناوين ولا بالكلام المكتوب فيها؛ بقدر ما شدتني تلك الصور الجميلة الملونة التي كانت مبثوثة بين المقالات، وتختلف أحجامها ما بين صورة صغيرة، وثانية بحجم الكف، وثالثة بحجم صفحة كاملة. وبدون تردد حسمت أمري فيما أريده من هذه الصحف والمجلات، ورحت مسرعا أقطع الصور بعناية حتى انتهيت، فتجمع لي عدد كبير منها وضعتها في كيس بلاستيكي دسسته تحت السرير، وجمعت ما تبقى من الصحف والمجلات، وخرجت بها من المنزل ورميتها بقرب زاوية من الشارع تعود الناس أن يضعوا فيها ما يريدون التخلص منه.

ومن يومها صار ذلك الكيس البلاستيكي هو خزانتي الأثيرة التي لا أسمح لأحد كائنا من كان أن يفتحه أو يطلع على ما فيه. وكنت في البداية كلما وجدت وقت فراغ أخرج الكيس من تحت السرير وأبدأ باستعراض ما فيه صورة.. صورة، وحينها لم يكن يجتذبني إليها إلا الألوان الجميلة، والمناظر الطبيعية الخلابة.. ونادرا ما كنت أهتم بالتفرس في الوجوه أو الأحداث التي صورتها عين الكاميرا. ويوما بعد يوم صرت مدمنا على التأمل في تلك الصور، وسقطت أسيرا لما فيها من جمال وتناسق.. أو من أحداث بعضها مرعب ومخيف، وبعضها لا يخلو من دلالة معينة.. أو هكذا بدا لي يومها.. لكن طريقة أخرى في التأمل في الصور بدأت تستولي على اهتمامي فانشغلت بها محاولا تفسير بعض ما أراه فيها.. ومحاولا استنتاج شيء ما مما أظنه موجودا في عيون إنسان.. أو حركة يده.. أو التفاتة رأسه. وتحول الأمر إلى عادة مزمنة سيطرت على كياني فلم أعد أستطيع مقاومتها ولا نسيانها، وكثيرا ما كنت أضبط نفسي في المدرسة وأنا أفكر في صورة ما مجهِدا في محاولة معرفة سر نظرة أو لفتة أو إشارة. ولفتت حالتي الطارئة انتباه بعض المدرسين، وتندر عليها زملائي.. لكني أعرضت عن كل ذلك، وصرت في الصف جسدا بلا روح.. ساهم العينين، غارقا في تذكر شكل إنسان ما أو تفاصيل حادثة أو تجمع بشري في إحدى الصور التي علقت بذهني.

ومع توالي الأيام ازداد تعلقي بالكيس البلاستيكي، وصار سلوتي ورفيقي في ساعات الفراغ، ولا أنتهي من عمل كلفت به إلا وأسارع إلى إخراجه والانزواء به بعيدا عن أفراد أسرتي، قبل أن أبدأ بإخراج بعض الصور وتأملها ومحاولة فهم شيء ما فيها حتى صرت قادرا على قراءة ما أظن أن الوجوه والجوارح تنطق به بدون صوت.. فقط من خلال التأمل في الوجوه، والعيون، والحركات، واللفتات!

كان من ضمن الصور مجموعة صور تاريخية.. واحدة منها كبيرة بحجم صفحة كاملة كنت كثيرا ما أتأمل فيها، وهي تصور موكبا مهيبا لأحد الزعماء (عرفت بعد فترة أن اسمه: هتلر الذي تسبب في مآسي الحرب العالمية الثانية) وهو يستعرض صفوفا حاشدة منظمة من الشباب والفتيان المؤيدين له! ولأن الصورة كانت منتزعة من مجلة أجنبية فلم أستطع معرفة معلومات عن المناسبة.. كانت صورة الزعيم وهو رافع يده اليمنى محييا الجماهير تجسيدا للقوة والفخر والغرور! في الصورة تبدو وجوه كثيرة متنوعة الملامح والتعبيرات؛ مثل ذلك الرجل الذي يجلس في المقعد الخلفي للسيارة ساهما تبدو عليه علامات الضجر والسأم رغم دقة الموقف المهيب. وبجواره كان يجلس ضابط عسكري ينظر بحدة إلى ظهر الزعيم وكأنه يتمنى أن تخترق نظرته ظهره فتقتله.. أو هكذا تخيلت!

وفي الصفوف الأولى للجماهير كان هناك شبان وغلمان يلبسون ملابس موحدة، يرفعون أيديهم محيين، وتندلع من عيونهم نظرات فرح مجنون برؤية الزعيم.. لكن كان أكثر ما يلفت نظري هو ذلك الرجل الذي يقف بين صفوفهم، ويبدو شكله مرعوبا وكأنه يهمُّ بعمل شيء ما أو أنه يقوم بمهمة أمنية خاصة! وفي المحصلة كنت أستغرق في محاولة توقع مصير هؤلاء الرجال والشبان وما صاروا عليه الآن؛ من منهم نجا من القتل في تلك الحرب المجنونة؟ ومن منهم ما يزال حيا.. وكيف صار شكله وكم صار عمره؟ وهل ما يزال فخورا بموقفه ذاك لو أتيحت له فرصة رؤية صورته وهو مسرور بتحية ديكتاتور مجنون قتل ملايين البشر؟

صورة ثانية كانت مخيفة لحادث مروري بشع تصادمت فيه عدة سيارات، وبدا فيها القتلى في حالات تشوه حادة، وواحد منهم انكسرت رقبته تماما، وثان بدت عيناه جاحظتين كأنهما جمدتا على لحظة الاصطدام المروع من هول ما رأى، وثالث لا يبدو عليه أنه ميت بل كأنه نائم في هدوء.. والجرحى ملقون هنا وهناك، وعدد من المارة متجمعون في مكان الحادث يتفرجون فقط على الضحايا وعملية الإنقاذ!

صورة ثالثة كنت لا أضجر من التأمل فيها لأن المعلومات المكتوبة أسفلها تقول إن العريسين قتلا في حادث مؤسف أثناء سفرهما لقضاء شهر العسل! الصورة كانت منتزعة من مجلة عربية، تضم عريسا وعروسة في صورة تذكارية بمناسبة الزفاف. وبينما كانت عينا الفتاة تنطقان بالسعادة كان الفتى بجانبها يبدو غارقا في حالة من الوجوم غير مفهومة في مثل هذه المناسبة، وبذلت جهدا لقراءة ما في عينيه فلم أجد إلا نظرة.. ميتة! وحول العروسين كان هناك مجموعة من الأطفال الصغار: أولاد وبنات في ثياب جميلة، ويبدون مسرورين أكثر من العروسين.. وفي طرف من الصورة كانت تجلس سيدة متقدمة في السن في حالة لا تتناسب مع المناسبة فالوجوم يعلو وجهها، ونظرات عينيها توشي بالضجر والقرف.. فهمت من كل ذلك أنها أم العريس، وبالتأكيد كانت غير راضية عن اختيار ولده لزوجته التي ستكون هي حماتها!

❃❃❃

مدرسية مدمرة الصورة الأخيرة!

ومرت الأيام وحالي مع الصور كما هو.. حتى وقع حادث مأساوي في حياتي أعطى للصور دورا جديدا في خاصة مشاعري، فقد أجريت لي عملية جراحية بسيطة مكثت بسببها في المستشفى عدة أيام، وفي اليوم الأخير زارني زملائي في الفصل مع معلمنا المحبوب، وقبل انصرافهم التقط لنا والدي صورة جماعية كانت الأولى من نوعها أراد بها تخليد المناسبة وتجربة آلة تصوير جديدة من تلك النوعية التي تخرج الصور فورا.. وحدثت المأساة بعد انصراف الزوار بساعتين؛ إذ وصلنا خبر تعرض الحافلة التي أقلتهم لحادث مروري مفجع احترقت بسببه الحافلة وركابها وقضوا كلهم حرقا!

لا تتخيلوا سوء الحالة التي صرت عليها بعد مقتل زملائي الذين كانوا قبل الحادث يزورونني في المستشفى، ويحاولون ببراءة إدخال السرور على قلبي، وإغرائي بسرعة الشفاء لأعاود اللعب والمرح معهم! وكدت في الأيام الأولى أصاب بحالة نفسية بسبب خاطر داهمني أنني المسؤول عما لحق بهم لأنهم كانوا في الحافلة من أجلي، ولولاي لما حدث ما حدث! وبذل والدي وأساتذتي في المدرسة جهودا كبيرة لإزالة هذا الهاجس، وخفت الآلام مع مرور الأيام لكن شيئا ما دفعني للانعزال عن الناس، وصرت أقضي جل وقتي خارج المدرسة في غرفتي مع كيس الصور!

وفي يوم تذكرت تلك الصورة الجماعية التي التقطها لي والدي مع زملائي قبل ساعات من مقتلهم، فطلبتها منه فأخرجها من مظروف وأخبرني أنه احتفظ بها ولم يرد أن أشاهدها لكيلا تزداد أحزاني.. وأخذتها وأنا أتأمل فيها باهتمام وألم، ووضعتها في برواز خشبي وعلقتها على الجدار لأراها دائما. وكان ذهني قد بدأ ينشغل منذ الحادث بفكرة الموت الذي لا يعرف موعدا، ولا يرسل إنذارا ويختطف الأحباب فجأة، واستولى عليّ سؤال: هل حقا أن الموت يأتي دون إنذار ولا إشارة ما؟ ودفعني ذلك للبحث في كيس الصور عن صور الحوادث المؤسفة، وتلك الصورة الأخيرة التي فهمت أنها تصور الضحايا قبل زمن قصير من مقتلهم أو موتهم على غرار صورتي مع زملائي الراحلين وصورة العريسين! وجمعت من هذه الشاكلة عددا لا بأس به من الصور وضعتها في ملف خاص، وبدأت أنشغل بتأملها وملاحظة الأجواء واللفتات باحثا عما يمكن أن يكون إشارة أو إنذارا بما حدث بعد التقاط الصور!

لم يكن أمر التأمل في الصور مسليا لكن الفكرة هيمنت على عقلي تماما، واستخدمت القلم لأضع خطوطا، ودوائر، وعلامات استفهام وتعجب في كل صورة كنت أجد أن في بعض أجزائها شيئا غير طبيعي مثل وجه مكتئب أو نظرة حائرة أو خلفية معتمة.. ومع تكرار التأمل والتدقيق صارت الصور مطبوعة في ذهني، وصار بإمكاني استعادتها في ذاكرتي بمجرد أن أغمض عينيّ.. حتى كان يوم انفجر فيه في رأسي خاطر غريب بعد أن لفت نظري وجه رجل رأيته يسير في جنازة مرت في حارتنا.. لحظتها خطر ببالي أنني أعرف هذا الوجه جيدا، وأنه مألوف إلى درجة الاعتياد في رؤيته! ورغم ابتعاد الجنازة إلا أنني اندفعت أجري وراءها بحثا عن الوجه المألوف لأتأكد منه، ولحقت بالجنازة إلى المقبرة لكنني فوجئت أن الرجل لم يكن موجودا بين الناس، ولم يعد له أثر، وعبثا بحثت عنه حتى لفت انتباه الآخرين إلى حركاتي الغريبة! وعدت يائسا يومها لكن الوجه المألوف جدا لعينيّ ظل يلاحقني ويفرض ملامحه في ذهني وعيوني حتى عندما أويت للنوم ووضعت رأسي على المخدة، لكن وبمجرد أن أغمضت عينيّ حتى تذكرت أين رأيت ذلك الوجه الذي كان بلا تفاصيل مثيرة أو ملفتة للنظر باستثناء شامة سوداء على خده الأيمن، لكنني لأني كنت أراه دائما في إحدى الصور التي أتأملها كل يوم فقد انطبعت الصورة في ذهني وعرفتها لما رأيته سائرا في الجنازة!

ليلتها قاومت كثيرا رغبتي في ترك السرير والبحث عن الصورة التي أيقنت أنني رأيت فيها ذلك الوجه المألوف جدا لي، وعندما استيقظت في الصباح لم أجد فرصة للبحث لاضطراري للذهاب إلى المدرسة؛ حيث ظللت منشغلا بالصورة ومنتظرا وقت الانصراف بلهفة للعودة إلى الغرفة وكيس الصور!

ولما اختليت بنفسي في غرفتي فتحت ملف صور الحوادث، ورصصت ما فيه في صفوف مرتبة أمامي: واحدة واحدة ودقات قلبي تزداد سرعة من غرابة الحال الذي وجدت نفسي فيه.. فوجود الوجه المألوف في إحدى هذه الصور هو لغز كبير بحد ذاته لأن كل الصور كانت لحوادث قديمة وأشخاص أجانب ليسوا من بلدتنا!

وبيدين مرتعشتين بدأت بالصورة التي توقعت أن يكون الرجل موجودا فيها؛ وهي عن حادثة مرورية مؤسفة؛ وبسهولة وجدت وجه الرجل واقفا ضمن المارة الذين تجمعوا مكان الحادث، وبسرعة رسمت دائرة على وجهه، وزادت نبضات قلبي وأنا ألاحظ أن الحادثة كانت قديمة وفي بلد أجنبي؛ ومع ذلك فالوجه الموجود في الصورة هو الوجه نفسه الذي رأيته بالأمس!

تحول الأمر إلى حالة غامضة ولغز كبير، وبدأ شعور بالخوف يسري في جسدي، وتناوشتني أفكار سوداوية.. وفجأة خطر ببالي أن أبحث أيضا في سائر صور الحوادث والأشخاص، وكانت دهشتي بل رعبي كبيرا ففي كل صورة كنت أجد ذلك الوجه موجودا في مكان ما.. حينا واضحا وتارة أقل وضوحا بسبب قبعة يرتديها أو تزاحم الرؤوس! ولا أدري كيف التفت دون شعور ناحية الصورة المعلقة على الجدار التي جمعتني وأنا على سرير المرض وحولي زملائي ومعلمنا الذين قضوا في ذلك الحادث المأساوي، ونهضت متثاقلا وكأنني أحمل أثقالا من الأوهام والألغاز نحو الجدار، واقتربت بصعوبة إلى الصورة ورحت أتأمل في الوجوه الموجودة فيها.. وتجمد الدم في عروقي، وشعرت أن شعر رأسي يكاد يتناثر، واتسعت عيناي وأنا أكتشف وجود ذلك الوجه في الصورة.. هناك في أقصى اليسار بجوار معلم الفصل! لحظتها تهاوت قدماي على الأرض، ووضعت رأسي بين كفي وأنا أتساءل دون صوت ولا تفكير: كيف لم أره يومها؟ ومن هذا الرجل صاحب هذا الوجه الذي يظهر في صور الحوادث المؤسفة.. وبجوار أشخاص يلقون حتفهم أو يموتون بعد التقاط الصور بزمن قصير؟

لم أدرِ بنفسي إلا وأنا ملقى على الأرض، فتحت عينيّ بصعوبة، كنت خائر القوى، منهك الأعصاب، ضيق النفس لا أقوى على الوقوف.. تلفت حولي حائرا من هذا الوضع الذي وجدت نفسي فيه على الأرض، والصور مبعثرة حولي وتحت جسدي.. وقفزت إلى ذهني حكاية ذلك الوجه المألوف الموجود في الصور، وانتفضت بقوة أجمع الصور، ورحت أتأمل من جديد بحثا عن ذلك الوجه الذي رسمت حوله دائرة في كل صورة.. ولشدة دهشتي لم أجد الوجه في الصورة الأولى.. وبعصبية ويداي ترتعشان فرزت الصور كلها فلم أجد الوجه، وأحسست أنني أسقط في قعر هاوية لا قرار لها.. هل كنت أحلم؟ أم كنت متوهما منذ البداية؟ هل أضرت معاشرة صور الحوادث المؤسفة والأشخاص الميتين بعقلي وجعلتني أرى وجوها غير موجودة وأتخيل أشياء وهمية؟ وهرعت إلى الجدار حيث الصورة الأخيرة لزملائي الراحلين فلم أجد فيها أيضا ذلك الوجه!

إذا كانت أوهاما وتخيلات مريض وأعصاب واهنة!

وسحبت جسدي المنهك إلى السرير وتمددت كالميت، ورحت في نوم مضطرب كان ذلك الوجه قاسما مشتركا في كوابيسه وأحلامه، ولم أستيقظ إلا على صوت والدي وهو يهزني بقوة وينادي باسمي حتى فتحت جفني بصعوبة.. سمعته يتحدث مع شخص لم أره بوضوح عن حمى مرتفعة، وحالة هذيان مزعجة منذ أمس ليلا!

عرفت من الحديث الدائر حولي أنهم يتحدثون عني.. فأنا المريض إذا.. وحالة الهذيان خاصة بي! لم أفهم كثيرا ما كان يقوله الشخص الآخر الذي يبدو أنه الصيدلي الذي يسكن قربيا من منزلنا.. سمعته ينصح والدي أن يكتفي تلك الساعة بكمادات باردة للتخفيف من الحمى على أن يأخذني إلى المستشفى حينما يبدأ دوام العمل بعد ساعات، واعتذر لوالدي بأنه مسافر بعد ساعة، وهو مضطر للذهاب إلى المطار للحاق بموعد الطائرة فقد تأخر الوقت، وأصر والدي على اصطحابه بسيارته إكراما لمجيئه إلى البيت لرؤية ابنه المريض.. وقبل أن يغادرا الغرفة سمعت والدي يدعوه لأخذ صورة مشتركة للذكرى بآلة التصوير الفورية!

لم نذهب للمستشفى ذلك اليوم، فقد حدث ما شغلنا عن كل شيء، فقد وقعت حادثة مؤسفة لسيارة والدي أثناء ذهابه لتوصيل جارنا إلى المطار بسبب السرعة للحاق بالطائرة! لم يصب والدي فيها بأذى كبير لكن رفيقه في المشوار جارنا الصيدلي لقي حتفه في الحادث!

زادت تلك الحادثة من سوء حالتي النفسية، وكان وعيي يغيب أحيانا فلا أشعر بشيء حولي، وكدت أهلك بعد أن امتنعت عن الأكل حتى اضطروا إلى تغذيتي بالسوائل عبر المغذيات الصناعية.. وتردد طبيب نفسي على المنزل لمتابعة حالتي التي أوضحها لأهلي في أنني أعاني من أوهام مرعبة سيطرت على عقلي، ونصح بالراحة والابتعاد عن الضوضاء والإزعاج. وبدأت أحاديث وتفسيرات تدور حول سريري؛ وأصحابها يظنونني في غيبوبة لا أسمع شيئا؛ أنني مصاب بمس غريب.. وسمعت من يقول: ربما واجه موقفا مرعبا في مكان ما.. وقائل إن كل هذا مجرد لعب مراهقين مع اقتراب موعد الامتحانات!

لا أدري كم استمرت حالتي وأنا بين اليقظة والنوم، وهذيان وصراخ كما قيل لي بعد الشفاء.. لكن الذي أتذكره أنني في يوم ما انتبهت ووجدت في جسمي قوة على الحركة، فنهضت وغادرت السرير، وتحركت قليلا في الغرفة، وكدت أدعو أمي وأبي لولا أنني لمحت على طاولة في الغرفة صورة موضوعة فجذبني إليها عشقي للصور، وتناولتها بيد واهنة وعرفت أنها الصورة التي أخذها والدي لنفسه ولجارنا الصيدلي قبل ذهابهما للمطار في ذلك اليوم الذي وقع فيه الحادث المؤسف! ورفعتها بيد بدأت ترتعش بقوة ونبضات قلبي ترتفع حتى تكاد تصدر صوتا، ورحت أتأملها بحثا عن الوجه المألوف فوجدته في الصورة خلف والدي والصيدلي المسكين! وقبل أن تسقط الصورة من يدي كنت قد أطلقت صرخة مدوية سقطت بعدها إلى الأرض فاقد الوعي!

ولم أستعد وعيي وصحتي إلا بعد فترة طويلة، ووجدت نفسي على سرير طبي في مستوصف خاص بالأمراض النفسية، وكان أول ما رأيته وجها مبتسما لرجل يلبس ملابس بيضاء حيّاني بهزة من رأسه، وسألني إن كنت أريد أن آكل أو أشرب شيئا ما؟ وبعد دقائق من الحديث البطيء بدأنا نتحدث دون موانع، وكان هو يجتهد أن يدفعني إلى الكلام.. وعرفت منه أنه الطبيب النفسي الذي يشرف على علاجي.

ولم يأت الظهر إلا وقد صرنا صديقين، واستطاع الطبيب أن يكسب ثقتي بسهولة، ورحنا نتحدث عن أشياء كثيرة مع مرور الوقت، وأدهشني أنه عرض عليّ ألبوم صور قال إنه خاص به، وفيه صور كثيرة له أثناء دراسته في الخارج وفي مناسبات شتى.. وأثناء تقليب الصفحات سألته فجأة: هل توجد صورة لشخص متوف؟ ووجدت الدهشة تعلو وجهه فورا لكنه قلب شفتيه وهو يحاول أن يتذكر ثم هز رأسه نافيا، ولحظتها أغلق ألبوم الصور وسألني عن سر السؤال؟ فاندفعت أشرح له كل شيء منذ بدء اهتمامي بالصور حتى رأيت الرجل صاحب الوجه المألوف في الجنازة إلى آخر الأحداث التي حدثت لي!

ران صمت عميق على الطبيب، وضم ألبوم صوره إلى صدره.. قبل أن يسألني عن تفسيري للحكاية كلها؟ وبالطبع أعلنت عجزي عن فهم شيء ما بدليل حالتي المرضية! وفجأة فتح ألبوم الصور ووضعه أمامي وطلب مني أن أفتش في الصور عن ذلك الوجه المألوف، واستجبت له دون تردد، ورحت أتأمل في الصور بدقة فلم أجد فيها الوجه المألوف.. فأغلقت الألبوم وأنا أشرح له أن الذي استقر في ذهني أنه لا يظهر إلا في الصورة الأخيرة لشخص ميت أو صور الحوادث المؤسفة.. وأنت قلت إنه لا توجد أي صورة لشخص ميت في الألبوم!

تناول الطبيب الألبوم مرة ثانية، وراح يقلب صفحاته بدوره حتى توقف عند صورة، وراح يتأمل فيها بعمق ثم انفرجت أساريره وهو يقول لي:

– انظر هذه صورة لي مع أحد الزملاء.. ولم يعش بعدها إلا أياما قليلة فقد وجدوه ميتا في منزله، ومع ذلك فلا يوجد فيها إلا أنا وهو!

وفي اللحظة التي هممت فيها بالنظر إلى الصورة دخل أهلي إلى الغرفة؛ فاضطر الطبيب إلى إغلاق الألبوم، ووضعه على الطاولة، واستأذن للخروج ليتيح للأهل فرصة الجلوس معي.. وكانت جلسة عائلية مبهجة وخاصة لوالدي ووالدتي اللذين أبديا فرحا كبيرا بتحسن صحتي، وتمنيا أن أعود قريبا إلى البيت.. وانقضى وقت الزيارة سريعا، وغادرني الأهل وتركوني وحيدا.. وفور خروجهم تذكرت ألبوم الصور فسحبته ورحت أقلب صفحاته باحثا عن الصورة التي أخبرني عنها الطبيب.. ولم أجد صعوبة في العثور عليها بفضل الوجه المألوف الذي كان موجودا خلف الصديقين.. ولحظتها حدث معي أمر غريب فلم أرتعب، ولا جمدت الدماء في عروقي، ولا صرخت كما كان يحدث في مرات سابقة، وكنت في حالة غريبة بلا وزن ولا أبعاد طول وعرض، وأغلقت الألبوم بهدوء ووضعته على الطاولة، وتمددت على جنبي وألقيت اللحاف على جسدي كله.. وراحت أفكاري تترتب حول ما يحدث:

– إذا أنا الوحيد الذي يستطيع أن يرى وجه الرجل الغريب الذي يظهر دائما في صور الموتى والحوادث المؤسفة.. وهو نفسه الذي رأيته في الجنازة ذلك اليوم، وكل هذا يعني شيئا واحدا أن هذا الرجل له صلة ما بما يحدث معي ولي!

وأخذتني غفوة لا أعلم مقدارها كنت فيها بين النوم واليقظة.. رأيت فيها مناظر غير واضحة المعالم.. وسمعت أصواتا مبهمة.. لكن في لحظة ما أحسست أن هناك من يتحرك بجواري.. لحظتها تجمد جسدي تماما حتى أنفاسي صارت هادئة كأنني ميت.. وسمعت صوتا عميقا ذا أبعاد عدة بعث الرعب في قلبي يتحدث مع من بجواره وهو يقول له:

– خذ الألبوم.. وامح صورتك.. وأسرع إلى الطابق الثاني فهناك صورة جماعية يجب أن تكون فيها!

ورد صوت بالنغمة نفسها التي تبعث الرعب:

– تقصد تلك المرأة المريضة التي أعطيتني اسمها في الصباح؟

– نعم؛ أسرع الآن.. إني أراهم يستعدون لالتقاط الصورة!

ولحظتها شعرت بريح قوية سريعة تتحرك في الغرفة.. وحين ظننت أن الغرفة خلت من الأصوات؛ شعرت بدفعة ريح جديدة، وسمعت صوتا مخيفا ثالثا يتردد في الغرفة:

– انتهى عملنا اليوم.. إلامَ تنتظر هنا يا.. عزرائيل!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى