أدب

الطريق إلى الحرية.. حكاية يمنية متجددة(3/3)

جمال الحرية رغم تكاليفها وتضحياتها! (3-3)

تذكرها/ فتح عبدالباري:

 وصلتُ مدينة تعز وأنا مرهق بسببِ الطَّريق الوعر والطويل المار عبر منطقةِ الأقروض، وهي منطقة محصورة بين جبلين شاهقين تغطيهما أشجار معمَّرة، وفي بعضِ الأماكن أسفل الجبلين تنتشر مزارع القات ونادرًا ما لاحظت أشجار الجوافة، وتبدو المنطقة وكأنها خالية من السُّكان، ونادرًا ما نجد بقالات صغيرة على الطريق مبنية بطريقةٍ بدائية، وفي الطريق كانت هناك ثلاث نقاط عسكرية للحوثيين، تليها ثلاث نقاط للشرعية، ويتم التفتيش الدقيق للمسافرين في أول نقطةٍ من قبل الحوثيين، حيث يطلبون البطائق الشَّخصية للركاب، وأي راكب من خارج محافظة تعز يحتجزون بطاقته وينزل من السَّيارة إلى عند قائد النقطة الذي يسأله عن اسمه ومكان عمله ولماذا هو ذاهب إلى تعز؟ ويتفحَّص الصورة في البطاقة ليطابقها مع وجه الشخص للتأكد أنها بطاقته أم أنها بطاقة لشخص آخر أراد من خلالها التضليل على النِّقاط الأمنية!

في النِّقاط التالية لم يكن هناك أي تفتيش للمسافرين، ويبدو أنها نقاط للجباية فقط، تستوي في ذلك النقاط التابعة للحوثيين والنقاط التابعة للشرعية، لكن محور تعز العسكري تحرك فيما بعد وأزال نقاط الجباية باسم الشرعية. وبعد الخروج من الطريق الترابي في منطقةِ الأقروض توجد نقطة تفتيش تابعة للشرعية، وفيها أيضًا يتم إنزال أي شخص ليس من محافظةِ تعز، ويذهب إلى قائد النقطة الذي يسأله من أين جاء ولماذا ذاهب هو إلى تعز؟ ويدوِّن بيانات البطاقة في دفتر كبير، ويطلب رقم الهاتف، كما يتم تفتيش حمولة أي سيارة من البضائع تفتيشًا دقيقًا، ولدى الجندي سكين صغير يقطع به قليلًا من الصناديق والأكياس التي تبدو ثقيلة للتأكد من محتواها، كما يتم هز حقائب المسافرين وأي حقيبة ثقيلة الوزن يطلبون من صاحبها فتحها للتأكد من محتواها وما إذا كان بداخلها متفجرات أو أي ممنوعات يتمُّ تهريبها إلى المدينة.

كانت لحظة وصولي إلى مدينة تعز بمثابة نقطة مفصلية بعد سنواتٍ من المكوث في العاصمة صنعاء, وما كنتُ أشعر به فيها من ضيق واكتئاب بسبب عملية التطييف الواسعة التي تبرز مظاهرها في المدارس والجامعات واللافتات في الشَّوارع والعبارات المصبوغة على الجدران، لكن ما لفت نظري في مدينة تعز هو تكدُّس القمامة في بعضِ الأماكن القريبة من الأسواق، وعدم وجود مطاعم نظيفة.. تناولتُ طعام العشاء بصعوبة، لكن الحقيقة هي أنني شعرت وكأنَّ تغيرًا كبيرًا قد حصل لي، وفي الفندق نمتُ نومًا عميقًا, لم أشعر بأي قلق كما كان يحصل في مناطق سيطرة الحوثيين، التي تتابع بدقة وتتفحص هويات وبيانات نزلاء الفنادق، مثلما تتفحص أيضًا بدقة بيانات المسافرين عبر وسائل النقل الجماعي الكبيرة، ولعلَّ أبرز سبب لكلِّ ذلك التدقيق هو ضبط أي شخصية من قياداتها أو غيرهم من الشخصيات الاجتماعية تحاول الفرار إلى مناطق سيطرة الحكومة الشرعية وإعلانهم الانضمام إليها.

WhatsApp Image 2021 12 07 at 5.53.02 PM الطريق إلى الحرية.. حكاية يمنية متجددة(3/3)

بدأتُ من اليوم التالي رحلة البحث عن بيت أو شقة للإيجار أسكن فيها لكن كانت كل المؤشرات صادمة منذ البداية، فهناك أزمة خانقة في السَّكن، بسبب النُّزوح الداخلي من مناطق التماس إلى المناطق البعيدة نسبيًا، وهناك أشخاص تعرضت بيوتهم للتدمير الجزئي أو الكلي ولم يتمكنوا من إعادة ترميمها فاضطروا للسكن في بيوت الإيجار، وهناك نازحون من مديريات أخرى يسيطر عليها الحوثيون نزحوا إلى مدينة تعز هربًا من بطش المليشيات ومضايقتها لهم، كل ذلك سبب ضغطًا على المدينة، فارتفعت الإيجارات وبرزت أزمة الشقق، وجعل ذلك سماسرة العقارات، المعروفين بـ”الدلالين”، يسلكون طرقًا ملتوية في التعامل مع الباحثين عن بيوتٍ للإيجار، والهدف هو نهبهم بأي وسيلة ممكنة، فوجدتهم نسخة طبق الأصل من سماسرة العقارات في صنعاء، حيث يوهمون الضحية بأن هناك بيتًا أو شقة للإيجار، ويذهبون به إلى عمارة أو بيت لم يكتمل بناؤها، وأحدهم يمثل دور صاحب البيت، ويطلبون من الضحية مبلغًا من المال كحجز للشقة مقدما حتى يتم “تشطيبها” خلال أسبوع أو نصف شهر أو شهر كامل ويأتي ليسكن فيها!

وأحيانًا يذهبون به إلى مناطق التماس ويدخلونه بيوتًا مهجورة ويوهمونه بأنها منطقة آمنة والبيت للإيجار، وكالعادة يأتي أحدهم ليمثل دور صاحب البيت، وآخر لديه نسخ مصورة من أوراق عقود الإيجارات، ويعلم الله كم من الضحايا وقعوا في فخ تلك العصابات، وحصلت الكثير من المواقف المطابقة تمامًا لمواقف حدثت في صنعاء عندما كنتُ أبحث فيها عن شقة للإيجار، ومن أظرف تلك المواقف الحديث عن شقة للإيجار تملكها امرأة مسنَّة ولديها عدد كبير من البنات الشابات في البيت، بل ويتصلون بتلك المرأة، والتي يبدو أنها ضمن العصابة، وتجيد تمثيل دور صاحب البيت، فتقول إنَّ شقتها ستتجهز بعد أسبوع أو في نهاية الشهر بعد أن يخرج منها المستأجر السابق، وأن هناك كثيرًا من المستأجرين يريدون حجز الشقة، وأن من سيدفع حجز إيجار شهرين أو ثلاثة مقدمًا سيتم حجز الشقة له، وفي كل موقف أشعر أنَّ سماسرة العقارات في صنعاء وتعز وكأنهم ذرية بعضها من بعض إلا من رحم الله!

تحول البحث عن شقة أو بيت للإيجار إلى كابوس مزعج، ولم أتمكن من الحصول على شقة إلا بعد 25 يومًا من البحث والتعب، وكنت حينها على وشك العودة إلى صنعاء، خصوصًا أنني لم أكن قد سلمت الشقة التي كنت أسكنها هناك لصاحبها، وما زال الأثاث وكل الأغراض الشخصية فيها، وخلال مدة البحث كنت أترقب الوضع في المدينة وما يقال في الإعلام عن انفلات أمني فيها، والحقيقة أنَّ كل ذلك كان حديثًا مبالغًا فيه، فالانفلات الأمني حاصل في معظم المحافظات اليمنية وبشكل أسوأ من تعز أحيانًا، لكن الإعلام الموجه يسعى للنيل من تعز والمبالغة في التضخيم من الانفلات الأمني، وفي الحقيقة لم أرَ بعيني أي مظاهر للانفلات، لكن يزعجني تجوال عدد من المسلحين بملابس مدنية في الأسواق لكن عددهم أقل بكثير مقارنة بصنعاء مثلًا التي ينتشر فيها حمل السلاح بكثرة، علمًا بأنَّ أكثر ما يغيظني في تعز هو القمامة المكدسة في القرب من الأسواق وبعض الأحياء السكنية، ولما سألت عن أسباب ذلك كان المبرر هو شحة السيارات المخصصة لنقل القمامة التابعة للبلدية لأنَّ الحوثيين نهبوا جميع سيارات المؤسسات الحكومية بما فيها سيارات نقل القمامة التابعة للبلدية ونقلوها للحوبان وإلى المناطق الأخرى التي يسيطرون عليها.

Yemen war 1 الطريق إلى الحرية.. حكاية يمنية متجددة(3/3)

طبعًا كان قد سبق لي زيارة تعز في العام 2008، ولذلك آلمني كثيرًا مظاهر الخراب والدَّمار فيها، فلم تعد بذلك البريق الذي كانت عليه، ومن يسكنها الآن أغلبهم من الطبقة الفقيرة والكادحة والبسيطة وبعض الفارين من مناطق سيطرة الحوثيين، ويكاد لا يبدو في المدينة أي أثر لطبقة التجار والمثقفين والأكاديميين الذين نزح معظمهم إلى خارج الوطن بسبب الحرب، والمدينة ما زالت تحت خطر القصف العشوائي من مليشيا الحوثيين التي تحاصر المدينة وتطوقها من جميع الجهات تقريبا من مسافات قريبة، بل وتسيطر على جزء من المدينة من جهة الحوبان، وهناك مناطق تماس خالية من السكان تقع بين الحوبان وحوض الأشرف وغيرها، وقد زرعت المليشيات أعدادًا كبيرة من الألغام حول المدينة لإعاقة الجيش الوطني عن التقدم، بل قد تمَّ زراعة ألغام فوق بعضها بعضًا لإعاقة إزالتها، بحيث إذا انتزع لغم فإن الذي تحته سينفجر حالًا، وهناك ألغام مكشوفة لكنها بهيئة ألعاب أو أحجار أو أشكال فنية أو عبوات ماء، كما ظهر من بعض الصور التي رأيتها في هواتف بعض الزملاء هناك، وهو ما يعكس مدى إجرام المليشيات الحوثية واستهتارها بالأرواح وحقدها على المجتمع اليمني الرافض لها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى