أشتات

السياسة اللغوية التركية

العلاقاتُ بينَ العربِ والأتراكِ مُتجذِّرةٌ ومُتشعِّبةً دينيًّا وتاريخيًّا وجغرافيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا، فقبلَ الإسلامِ قصدَ أميرُ الشِّعرِ العربيِّ في العصرِ الجاهليِّ امرؤُ القيسِ بلاطَ قَيْصَرِ الرُّومِ؛ يستمدُّهُ قُوَّةً يستعينُ بها على استردادِ مُلكِه الضَّائعِ، بعدما قتلَ بنو أَسَدٍ أباهُ، ولكنَّهُ أدركَتْهُ المَنِيَّةُ هناك، قِيلَ بِالجُدريِّ، وقِيلَ بالطَّاعونِ، وقيل بِحُلَّةٍ مَسْمومةٍ، وقد دُفِنَ قريبًا من (أنقرة) عاصمةِ تركيا اليوم، ويُنْسَبُ إليه قولُه عندما حَضَرَتْه المَنِيَّةُ هناكَ:

رُبْ طَعْنَةٍ مُثْعَنْجِرَةْ

وَجَفْنَةٍ مُتَحَيِّرَةْ

وَقَصِيدَةٍ مُحَبَّرَةْ 

تَبْقَى غَدًا بِأَنْقَرَةْ

وفي عصرِ الخُلفاءِ الرَّاشدينَ وَطِئتْ أقدامُ جيوشِ المسلمينَ الفاتحينَ أرضَ تُركيا حاليًا، وقاموا -ومَنْ تَبِعَهُم بإحسانٍ- بمحاولاتٍ مُستميتةٍ لفتحِ القُسْطنطينيَّة، ولكنَّ فتحَها تأخَّرَ أكثرَ من ثمانيةِ قُرونٍ، وما خبرُ وفاةِ الصَّحابيِّ الجليلِ أبي أيُّوبَ الأنصاريّ على أراضِيها عنَّا ببعيدٍ، فقد انضمَّ -وهو شيخٌ طاعنٌ في السنِّ- إلى أحدِ جُيوشِ الفتحِ بقيادةِ يزيدِ بنِ معاويةَ بنِ أبي سُفيانَ عام 52هـ، لكنَّه مرضَ هناك مرضًا شديدًا، فطلبَ وهو على فراشِ الموتِ ممَّنْ حوله أنْ يُوغِلُوا بِجُثمانِه في أرضِ العدوِّ، فلمَّا ماتَ حملوا جُثْمانَه، وأوْغَلوا به، حتَّى دفنُوه عند أسوارِ القُسطنطينيَّة، وقبرُهُ معروفٌ هناك إلى اليومِ، والمسجدُ الذي يحملُ اسْمَه، بجوارِ قبرِهِ من التُّحَفِ المِعماريَّةِ الفريدةِ.

وفي العصرِ العَبَّاسيِّ صارَ للجُندِ الأتراكِ سَطْوةٌ كبيرةٌ جدًّا، حيثُ استعانَ بهم الخليفةُ المُعْتصِمُ باللهِ (ت227هـ)؛ لإيجادِ نوعٍ من التوازُنِ مع الفُرْسِ الذينَ كانوا مُتَغلِّبينَ في زمنِ أسلافِه من الخُلفاءِ العباسيِّين، حتَّى صارتِ الأمورُ فِعليًّا بأيدي التُرك، وما أسماءُ القادةِ الأتراكِ الكِبارِ مثل: أوتامش، وشاهِك، وباغِر، ووَصِيف، وبُغَا، وبِجَكْم، وتُوزُون، بخافيةٍ على كلِّ مَنْ درسَ تاريخَ الدَّولةِ العَبَّاسيَّةِ، فقد كانَ هؤلاء يتلاعبونَ بالخُلفاءِ كتلاعُبِ الأفعالِ بالأسماءِ، حتَّى قال أحدُ الشُّعراءِ سَاخرًا من حالِ الخليفةِ العباسيِّ المستعينِ باللهِ (ت252هـ):

خَلِيفَةٌ فِي قَفَصٍ 

   ‌بَيْنَ ‌وَصِيفٍ ‌وَبُغَا

يَقُولُ مَا قَالَا لَهُ 

كَمَا تَقُولُ البَبَّغَا

ثُمَّ انتقلتِ الخلافةُ الإسلاميَّةُ إلى (إستانبول)، وصارتْ جميعُ البلادِ العربيَّةِ تابعةً لها، وهي مرحلةٌ تَنُوشُها الأكاذيبُ المُتعمَّدةُ من كلِّ حَدَبٍ وصَوْبٍ، فمنْ واصفٍ لها بأنَّها فترةُ الاحتلالِ العُثمانيِّ، ومِنْ مُدِّعٍ أنَّها كانتْ سببًا مُباشرًا في تخلُّفِ جميعِ الدُّولِ العَربيَّةِ، ومِنْ زاعمٍ أنَّها حاولتْ مَسْخَ الهُويَّاتِ الوطنيَّةِ كافَّةً، وعملتْ على إحلالِ الهُوِيَّةِ التُّركيَّةِ مَحَلَّها، فيما سَمَّوْهُ سياسةَ التَّتْريكِ (Turkification)، لكنَّ الواقعَ يؤكَّد أنَّ اللُّغةَ العربيَّةَ لم تُمْحَ من أيِّ دولةٍ عربيَّةٍ على طولِ عهدِ التبعيَّةِ لدولةِ الخِلافةِ العُثمانيَّةِ، وأنَّ الكلماتِ العربيَّةَ التي دخلتِ اللُّغةَ التركيَّةَ أضعافُ الكلماتِ التركيَّةِ التي دخلت اللُّغةَ العربيَّةَ، وهو ما تفرضُهُ قوانينُ الصِّراعِ اللُّغويِّ، وقواعدُ تداخُلِ اللُّغاتِ، ويُدْرَسُ ضمنَ مجالاتِ علمِ اللُّغةِ العامِّ وعلمِ اللُّغةِ التَّقابليِّ.

ttt السياسة اللغوية التركية

وعلى سبيلِ المثالِ هناكَ كلماتٌ عربيَّةٌ كثيرةٌ دخلت اللُّغةَ التركيَّةَ مثلَ: مرحبًا، قلم، كتاب، درس، عربة، فرن، تمام، تشكر، ممنون، لطفًا، تكرار، حيوان، مقام، إلهام، ضمير، فكر، فتنة، فائدة… وغيرها، وقد قدَّرَ كثيرٌ من اللُّغويِّينَ تلك الكلماتِ بنحو 6500 كلمةً، وهي تمثِّلُ قُرابةَ 5% من المُعجمِ التركيِّ، مع اختلافاتٍ طفيفةٍ في النُّطقِ بسببِ اختلافِ النِّظامِ الصَّوتيِّ بينَ اللُّغَتَيْنِ.

وفي المقابلِ دخلتْ كلماتٌ تركيَّةٌ عديدةٌ اللُّغةَ العربيَّةَ، خصوصًا إبَّانَ فترةِ الخلافةِ العُثمانيَّةِ، حيثُ كانتِ اللُّغةُ التركيَّةُ هي اللُّغةَ الرَّسميَّةَ في كثيرٍ من الدَّواوينِ الحكوميَّةِ، ولا زلْنا حتَّى اليوم نستخدمُ كلماتٍ تركيَّةً في الاستعمالِ اليوميِّ في مصرَ خاصَّةً، مثل: أبلة، أوضة، كنبة، سَبَت، دُشْ، دولاب، جمرك، طُزّ، درابزين، دوغري، شاكوش، بوية، صامولة، صنفرة، طرمبة، طابور، طبنجة، كريك، كوبري، ماسورة… وغيرها، فضلًا عن اللَّاحقةِ (خانة) التي التصقتْ ببعضِ الكلماتِ مثل: أجزاخانة، كتبخانة، سلخانة، شفخانة، واللَّاحقةِ (جي) مثل: عربجي، بوسطجي، بلطجي، قهوجي، مكوجي، سُفْرَجي… إلخ.

ولا ننسى أنَّ اللُّغةَ التُّركيَّةَ كانتْ تُكتبُ بالحروفِ العربيَّةِ منذ القرنِ الرَّابعِ الهجريِّ/ العاشرِ الميلاديِّ تقريبًا، حتَّى قامَ الهالكُ مصطفى كمال أتاتورك (1881-1938م) بإلغاءِ الخِلافةِ الإسلاميَّةِ في ذلك التَّاريخِ الأسودِ (27 من رجب 1342هـ/ 3 من مارس 1924م)، ثمَّ أتْبَعَ هذا الانقلابَ السياسيَّ الفاجعَ بانقلابٍ لغويٍّ فادحٍ؛ حيثُ أصدرَ المرسومَ رقم 1353 بتاريخ 1 نوفمبر 1928م، والذي ينصُّ على وجوبِ استخدامِ الحروفِ اللَّاتينيَّةِ بدلًا من الأبجديَّةِ العُثمانيَّةِ الَّتي كانتْ تستخدمُ الحروفَ العربيَّةَ؛ ممَّا سَيُؤدِّي حتمًا -حسبَ فهمِه الكَلِيلِ- إلى قَطْعِ الصِّلَةِ بين الأتراكِ والثقافةِ العربيَّةِ الإسلاميَّةِ على المَدى البعيدِ.

واليومُ تعملُ الحكومةُ التركيَّةُ جاهدةً على تعزيزِ مكانةِ اللُّغةِ التُّركيَّةِ؛ باعتبارِها أهمَّ رموزِ الهُويَّةِ التُّركيَّةِ، فهي اللُّغةُ السَّائدةُ في الشارعِ التُّركيِّ، والأتراكُ يغضبونَ جدًّا عندما تسألُ أحدَهم في بلدِه: هل تتكلَّمُ اللُّغةَ الإنجليزيَّةَ؟ ويعدُّها سَبًّا له، وانتقاصًا من شأنِ لُغَتِه، ولذلك فإنَّ نسبةَ الأتراكَ الذين يتكلَّمونَ اللغةَ الإنجليزيَّةَ بطلاقةٍ في تركيا محدودةٌ جدًّا، وفقًا لدراساتٍ ميدانيَّةٍ عديدةٍ. ومعظمُ البرامجِ التعليميَّةِ في تُركيا تُقدَّمُ باللُّغةِ التُّركيَّةِ وحدَها، مِمَّا يُحَتِّمُ على أيِّ طالبٍ أجنبيٍّ أنْ يتعلَّمَها؛ لِيُكْمِلَ مَسيرَتَه التعليميَّةَ هناك. وقد أنجزتِ المؤسَّساتُ التُّركيَّةُ عددًا كبيرًا من السَّلاسلِ التعليميَّةِ المتميِّزةِ في تعليمِ اللُّغةِ التُّركيَّةِ، والتي تطبِّقُ أحدثَ نظريَّاتِ تعلُّمِ اللُّغةِ الثانيةِ، كما أنجزتْ تطبيقاتٍ إلكترونيَّةً عديدةً لتعليمِ اللُّغةِ التُّركيَّةِ، وهي مُتاحَةٌ مجَّانًا على متاجرِ (جوجل) و(أبل)، ويصلُ عددِ مُسْتخدِميها إلى مئاتِ الآلافِ، وتُقدِّمُ كثيرٌ من المؤسِّساتِ مِنَحًا مَجَّانِيَّةً لتعليمِ اللُّغةِ التُّركيَّةِ حول العالمِ.

tt 01 السياسة اللغوية التركية

وثمَّةَ نموذجٌ واقعيٌّ شاركتُ فيه بنفسِي، فمنذُ ثلاثةُ أشهرٍ عَرَضتِ السِّفارةُ التُّركيَّةُ في بروناي دارِ السَّلامِ على جامعةِ السُّلطانِ الشَّريفِ عليِّ الإسلاميَّةِ (UNISSA) -الَّتي أعملُ بها- أنْ تُقيمَ دورةَ مجانيَّةً في تعليمِ اللُّغةِ التُّركيَّةِ للرَّاغِبينَ من أعضاءِ هيئةِ التَّدريسِ وموظَّفِي الجامعةِ، فانضمَمْتُ إليها، وفي يومِ تَدْشِينِها حضرَ سعادةُ السَّفيرِ التُّركيِّ لدى بروناي، وهو رجلٌ أكاديميٌّ حاصلٌ على الدُّكتوراهِ في العلومِ السياسيَّةِ من أمريكا، وقد حاضرَ في جامعاتٍ عديدةٍ حولَ العالمِ، ومعه السيَّدةُ زَوجَتُه، وهي أكاديميَّةٌ كذلك، كما حضرَ عددٌ كبيرٌ من موظِّفي السِّفارةِ التركيَّةِ، وبعد حفلِ الافتتاحِ مُباشرةً، كانتِ البدايةُ التي أذهَلَتْنا بهذه الأمورِ:

(1) أنَّ جميعَ المحاضراتِ في مقرِّ الجامعةِ، وليستْ في مقرِّ السَّفارةِ، فنحنُ لا نتكبَّدُ عناءَ الذَّهابِ إليهم، بل هم الذين يأتونَ إلينا دون أيِّ مُقابلٍ.

(2) أنَّ الكُتُبَ وُزِّعَتْ علينا مَجَّانًا، وهي مطبوعةٌ طبعةً مُلوَّنةً فاخرةً جدًّا، وتتضمَّنُ الكتابَ الأساسيَّ، وكتاب التدريباتِ، ودليلًا للطالبِ، وقد التحقَ بعضُ الزُّملاءِ لاحقًا بالدَّورةِ، فكانتِ المُحاضِرَةُ الكريمةُ تأتيهمْ بمجموعةِ الكُتُبِ مُباشرةً، ومِنْهم مَنْ حَصَلَ عليها، ثم تفلَّتْ بعدَ محاضرتَيْن أو ثلاثٍ؛ نظرًا لصعوبةِ هذه اللُّغةِ، واختلافِ نظامِها كُلِّيًّا عن العربيَّةِ والإنجليزيَّةِ والملايويَّةِ جميعًا.

(3) أنَّ التي تُحاضرُ هي حرمُ سعادةِ السَّفيرِ بنفسِها، وأشهدُ أنَّها مُخلِصَةٌ تمامًا في أداءِ عملِها، فهي لم تتغيَّبْ يومًا واحدًا قطُّ، وما ذهبْتُ إلَّا وجدتُها سابقةً لنا جميعًا، حتِّى إنَّنِي تعمَّدْتُ يومًا أنْ أذهبَ قبل الموعدِ بنحوِ عشرِ دقائقَ، فوجدْتُها تنتظرُ وحدَها في القاعَةِ، وأذكرُ أنَّنا في أولِ يومٍ حانَ أذانُ المغربِ قبل نهايةِ المُحاضَرةِ بنحوِ رُبْعِ ساعةٍ، فطلبْنا منها التوقُّفَ من أجلِ الصَّلاةِ، فقد تَعِبْنا؛ فتوقَّفتْ ساعةَ رَفْعِ الأذانِ، ثمَّ واصلتْ، فكلَّمْنا رئيسَ الجامعةِ أنْ يطلُبَ منها تقليلَ مُدَّةِ المُحاضرةِ من ساعَتَيْن إلى ساعةٍ ونصفٍ، فوافَقتْ على مَضَضٍ!

(4) في نهايةِ الفصلِ الدِّراسيِّ الأولِ طلبْنا منها التوقُّفَ مؤقَّتًا؛ لأنَّ معظمَنا سيكونُ في إجازةٍ، فوافقتْ، وأخبرتْنا بأنَّ المحاضرةَ يومَ الأربعاءِ الأخيرِ من شهرِ نوفمبرَ المُنصرمِ ستكونُ الأخيرةَ في هذا الفصلِ، ثمَّ نستأنفُ في ينايرَ إن شاءَ اللهُ تعالى، وفي ذلك اليومِ قدَّمتْ لكلِّ مُنتَظِمٍ في الدَّورةِ هَديَّةً فيها قلمٌ ودفترٌ وميداليَّةٌ وأشياءُ أخرى قيِّمَةٌ مُحَلَّاةٌ بالعَلَمِ التُّركِيِّ.

(5) عرفْتُ لاحقًا أنَّ هذه الدورةَ ليستْ مَقصورةً على جامِعَتِنا، فثمَّةَ نظائرُ لها في جامعاتٍ أخرى بالطريقةِ ذاتِها، بل هناك دوراتٌ في مقرِّ السِّفارةِ للرَّاغبينِ من غيرِ المُنتسِبينَ إلى الجامعاتِ، وكلُّ ذلك بالمجَّانِ تمامًا.

ولا يفوتُنا في هذا المقامِ أن نستنبطَ منْ هذا الأمرِ المعانيَ الآتيةَ:

أولُّها: شَتَّانَ شَتَّانَ بينَ السِّفاراتِ الَّتي تَحمِلُ همَّ بلادِها، وتعملُ على نشرِ ثقافَتِها، وتُنْفِقُ من ميزانيَّتِها في سبيلِ تحسينِ صُورةِ بلدِها، وبخاصَّةٍ إذا أُسندَ الأمرُ فيها إلى رجالٍ ذوي رسالةٍ علميَّةٍ وثقافيَّةٍ، وسفاراتٍ أخرى تُسِيءُ مُعاملَةَ أبناءِ بلدِها، بل تُلاحِقُهم، وتُضَيِّقُ عليهم، وتستغلُّهمْ مَادِّيًّا عند تقديمِ أيِّ خِدمةٍ لهم؛ لأنَّ علاقةَ المسئولينَ فيها بتلك القِيَمِ الثَّقافيَّةِ السَّامِيَةِ كعلاقَتِهم بحروفِ اللُّغةِ الصِّينيةِ، أو رموزِ الخُطوطِ المِسماريَّةِ!

ثانيها: لا شكَّ أنَّ هذا النَّشاطَ الثقافيَّ الهادفَ -الذي لم يكلِّفِ السِّفارةَ كثيرًا، مُقارنةً بما تُنْفِقُهُ سِفاراتٌ أُخرى من أموالٍ طائلةٍ على الحَفلاتِ ونحوِها- سيعودُ بالنَّفعِ على تُركيا ماديًّا ومعنويًّا، فكثيرٌ منا قد اعتزمَ أنْ يزورَ تُركيا، وأذكر أنَّ أحدَ الموظَّفينَ الأتراكِ سألني: هل زُرْتَ إستانبول؟ فقلتُ له: لمَّا، ولكنِّي أرجو أنْ أزورَها قريبًا إنْ شاء الله، فقال: تفضَّلْ بزيارَتِنا لِلحُصُولِ على التَّأشيرةِ، فقلتُ له: أعتقدُ أنَّ جوازَ السَّفرِ المصريَّ لا يحتاجُ إلى تأشيرةٍ لدخولِ تركيا، فقال: ولماذا تُعرِّضُ نفسَكَ للمساءلةِ من مُوظَّفٍ قد يَجهلُ القانونَ في أيِّ مطارٍ هنا وهناك، تفضَّلْ لِنشربَ الشايَ سويًّا، ريثما تكونُ تأشيرَتُكَ جَاهزةً!

ثالِثُها: تعملُ الأمَمُ المُعتزَّةُ بهويَّتِها على تعزيزِ ثقافتِها، وفي الصَّدارةِ منها اللُّغَةُ، فالصِّينُ وكُوريا واليابانُ تقدِّمُ دَعْمًا كبيرًا للأقسامِ العلميَّةِ التي تُدرِّسُ اللُّغاتِ الصينيَّةَ والكوريَّةَ واليابانيَّةَ في عددٍ من الجامعاتِ المصريَّةِ، وأنا أعلمُ أنَّ باكستانَ تُرسِلُ أساتذةً على نفقَتِها لتدريسِ اللُّغةِ الأرْديَّةِ في عددٍ من الجامعاتِ المصريَّةِ، وتربِطُنِي صداقةٌ حميمةٌ بالزَّميلِ الدُّكتورِ زاهد منير عامر، الذي كان يُدرِّسُ اللُّغةَ الأُرديَّةَ في كليَّةِ اللُّغاتِ والتَّرجمةِ بجامعةِ الأزهرِ، وكان يتقاضَى مُرتَّبًا كبيرًا من الحكومةِ الباكستانيَّةِ، وحسبُكَ أنْ تعلمَ أنَّه كان يُقيمُ في مَسْكَنٍ فَاخرٍ بالزمالك، وكان أبناؤهُ ملتحقينَ بأرقَى المدارسِ الدوليَّةِ في القاهرةِ، وقد زارَنِي في قَرْيَتِي، وكتبَ عنها أكثرَ من مقالٍ باللُّغةِ الأُرديَّةِ، كما زُرْتُهُ في بيتِه المُسْتقلِّ بمساكنِ أعضاءِ هيئةِ التَّدريسِ داخلَ حرمِ جامعةِ البنجابِ، في مدينةِ (لاهور) التاريخيَّةِ، بباكستانِ.

رابِعُها: إنَّ انسلاخَ الشَّخْصِ من هُويَّتِهِ اللُّغويَّةِ من أبرزِ علاماتِ الضَّياعِ، فقد شعرُتُ بِالاشمئزازِ وأنا أشاهدُ قَدَرًا اللَّاعبَ المصريَّ محمَّد صلاح، وقد وُجِّهُ إليه في الكُوَيتِ سؤالٌ باللُّغةِ العَربيَّةِ، فقال: أجيبُ بالعربيَّةِ أم بالإنجليزيَّةِ؟ فقالتْ له المُذيعةُ: بالعربيَّةِ، فبدأ يتكلَّمُ بها، ثمَّ نَكَصَ على عَقِبَيْهِ، وتحوَّلَ إلى اللُّغةِ الإنجليزيَّةِ، على الرغم من أنَّ السَّائلَ والمسئولَ والسُّؤالَ والمكانَ ووسيلةَ الإعلامِ كُلُّها عربيَّةٌ! ويعملُ معنا الآن أكثرُ من زميلٍ ماليزيٍّ سبقَ لهم العملُ في بعضِ البُلدانِ الخليجيَّةِ، لكنَّهمْ لم يتعلَّموا شيئًا ذا بالٍ من اللُّغةِ العربيَّةِ هناك، فقلتُ لهم: لِمَ ضيَّعتمْ تلكَ الفُرصةَ ولم تتعلَّموا اللُّغةَ العربيَّةَ؟ فقالوا: هُمْ هناك لا يريدونَ مِنَّا إلَّا أنْ نتكلَّمَ باللُّغةِ الإنجليزيَّةِ، ويُحبُّونَ مُمَارَسَتَها معنا!

t1 السياسة اللغوية التركية

وقُلْ مثلَ ذلكَ في عالم الملايو، فقد تحولَّتْ (سنغافورة) رسميًّا في نظامِها الإداريِّ والتعليميِّ إلى اللُّغةِ الإنجليزيَّةِ تمامًا، وإنْ كانتِ اللُّغةُ الملايويَّةُ تُدرَّسُ هناكَ كما تدرَّسُ مادَّةُ التربيةِ القوميَّةِ في بعض البلادِ، وأذكرُ أنَّنِي عندما ابتدأتُ العملَ في بروناي التحقْتُ بمعهدٍ مُجاوِرٍ لأتعلَّمَ اللُّغةَ المَلايويَّةَ، فلم أجدْ مَنْهجًا مُناسبًا، والمعلِّمَةُ لا تتكلَّمُ إلَّا الإنجليزيَّةَ تقريبًا، والأنكى أنَّنِي عندما حاولتْ أنْ أستخدمَ في التَّعامُلاتِ اليوميَّةِ بعضَ الجُملِ الملايويَّةِ التي تعلَّمْتُها كانَ الجوابُ يأتينِي باللُّغةِ الإنجليزيَّةِ، ففيمَ العَناءُ؟ كما أذكرُ أنَّنِي إبَّانَ مُراجعةِ أسئلةِ الامتحاناتِ هذا العامَ سألتُ الزَّميلَ الذي يُدرِّسُ مادةَ التَّرجمةَ، والذي وَضَعَ سُؤالًا معتادًا: (تَرْجمِ النصَّ الآتيَ من اللُّغةِ العربيَّةِ إلى اللُّغةِ الملايويَّةِ أو اللُّغةِ الإنجليزيَّة). وهو سؤالٌ مُعتادٌ بهذهِ الصِّيغةِ من أجلِ الطُّلابِ غير المحليِّين؛ لكنَّ هذهَ الدُّفعةَ ليس فيها أيُّ طالبٍ من خارجِ بلادِ الملايو، فقلتُ له: كم نسبةُ الطُّلابِ الذين يترجمونَ إلى الإنجليزيَّةِ، مقارنةً بالذينَ يترجمونَ إلى اللُّغةِ الملايويَّةِ، التي هي لُغَتُهم الأمُّ؟ فقال: الأغلبيَّةُ العُظمَى يَختارونَ اللُّغةَ الإنجليزيَّةَ!

فليتَ شِعْري، متى يدركُ المسئولونَ أهميَّةَ اللُّغةِ في تعزيزِ الهُويَّةِ الوطنيَّةِ؟ ومتى يفهمونَ أنَّ هناك علومًا تُسمَّى السِّياسةَ اللُّغويَّةَ والتَّخطيطَ اللُّغويَّ؟ ومتَّى تتحوَّلُ السِّفاراتُ العربيَّةُ إلى مناراتٍ لنشرِ اللُّغةِ والثَّقافةِ العربيَّةِ؛ ليكونَ لها من اسمِها نَصيبٌ؟ ولِتنشغلَ بها عن المُؤامراتِ والمُقامراتِ واليانصيبِ؟!

د. مصطفى السواحلي

د. مصطفى السواحلي أستاذ اللغة العربية وآدابها في جامعة السلطان الشريف علي الإسلامية، سلطنة بروناي دار السلام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى