أشتات

العودة إلى الماضي

 
 

الطبع السائد في الناس وتمسكهم بالماضي:

كانت عجلة التَّاريخ هي المنتصرة دومًا، وهي تمضي إلى الأمام، ضدَّ من يتصدَّى لها ويقاومها لإعادتها إلى الوراء.

الإنسان في العادة مغرم بما أَلِفَ، متمسِّك به، وقليلٌ مِن النَّاس الَّذي يتطلَّع لأمر غير مألوف، ولولا هذا الطَّبع السَّائد في النَّاس لانعدمت القرى والمدن أو لانعدم تولُّدها؛ فالصِّنف الأوَّل هو الَّذي يحافظ على بقاء القرى والمدن رغم مرور قرون عليها لثباته، والصِّنف الثَّاني هو الَّذي نشأت القرى والمدن الجديدة لتحوُّله.

وكما هو في الماديَّات، يسري هذا القانون السُّنني في المعنويَّات، فالعقائد والأفكار والتَّصوُّرات والآراء إذا انتشرت أخذت طابع الثَّبات وأصبح مِن غير الممكن على النَّاس تجاوزها وتغييرها. والمألوف مِن العادات والتَّقاليد وأنماط العيش يأسر النَّاس، وإن لحقه نوعُ ظلمٍ أو فسادٍ أو حرمان، لذلك قليلًا ما تطرأ التَّحوُّلات عليها.

 

أمثلة تاريخية للتمسك بالماضي:

تاريخيًّا، عندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثار عمر بن الخطاب رضي الله عنه على من قال: مات رسول الله. لقد عبر عن رفضه عن هذا التحول استمساكا بالماضي وما فيه من جمال. وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أفقه من عمر وهو يتقبل مبدأ استمرار الحياة وإن طوت صفحة ماضية ليعلن أن محمدا صلى الله عليه وسلم مات وأن الله تعالى حي لا يموت!

الثورة العباسية

وعندما سقطت منهجيَّة (الخلافة الرَّاشدة)، انقسم النَّاس على منهجيَّة (الملك الوراثي) إلى فصيلين: فصيل استجاب لتحوُّلات المرحلة وحافظ على استمراريَّة الحياة عمومًا، وفصيل حاول استعادة “التَّاريخ المفقود” أو “النَّموذج الأمثل”، غافلا عن تحوُّلات السِّياقات وتغيُّر الظُّروف، فحاول الثَّورة ومواجهة الواقع المستجد، لكنَّه لم يتمكَّن مِن إحداث عودة سليمة، بل أضاف للواقع تعقيدًا جديدًا وتسبَّب في إحداث معاناة ومآسي لا تندمل.

لم تكن فلسفة بقيَّة الصَّحابة الَّذين أدركوا تحوُّل منهجيَّة الحكم مِن (الانتخاب الجمعي) إلى (الملك الوراثي)، كأمثال ابن عمر -رضي الله عنه، وتعايشوا معها استجابة لطبيعة التَّغيُّرات الَّتي نشأت أساسًا في البنى الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والسُّلطويَّة والثًّقافيَّة، هي خدمة للباطل كما يظنُّ البعض، وخضوعًا للانحراف كما يراه آخرون. فشكل الدَّولة وقالب السُّلطة وطبيعة ممارستها هو ممَّا يتغيَّر بتغيُّر الظُّروف والأحوال والنَّاس أنفسهم وما يحملونه مِن تديُّن وقيم ومبادئ وأخلاق وعادات وتقاليد وثقافة. فالدَّولة المثاليَّة لا تنشأ في مجتمع سوء، والسُّلطة الرَّاشدة لا تنتج في مجتمع سفه وطيش، والنَّقص لا يولِّد الكمال.

إذن هل ننحدر مجاراة لهذه الفلسفة؟ أليس هذا المنطق يبرِّر الانحرافات والانتكاسات؟ ويخدم الباطل؟

 

دلالات لمصطلح المنكر:

الاستيعاب جزء مِن المشكلة، وشتَّان بين مواكبة التَّاريخ والزَّمان وبين إقرار المنكرات إذا ظهرت في مجتمع “المعروف” وتوفَّرت القدرة على إزاحتها فعليًّا. إنَّ فلسفة “المنكر” في الدِّين أوسع دلالة ومعنى مِن مسألة الحرام وغير الشَّرعي. ولذلك لم يرد في كلِّ نصوص الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر لفظ (النَّهي عن الحرام)، لأنَّ النَّهي عن الحرام قد يكون منكرًا يجب النَّهي عنه أحيانًا. خذ مثالًا ما فعله ابن تيميَّة -رحمه الله تعالى- عندما رأى تلامذته ينكرون على بعض جنود التَّتر شرب الخمر، فنهاهم عن ذلك، بالرَّغم مِن أنَّ الخمر محرَّمة وينبغي الإنكار على مَن شربها، غير أنَّ السِّياق يجعل الإنكار في هذا المحلِّ منكرًا ينبغي إنكاره، إذ تركُ جنودِ التَّتر لشرب الخمر يدفعهم لقتل الأنفس وانتهاك الأعراض والإفساد في الأرض إن صَحَت عقولهم.

لذلك فمصطلح “المنكر” مصطلح أوسع دلالة مِن الحرام، وأقرب لمواكبة سياق المنطق العقلي الجامع بين النَّصِّ والواقع بسياقاته وملابساته المختلفة، فلو رفع شخص في كتيبة تجسُّس مِن المسلمين في ديار الكفر كلمة التَّوحيد لكان إشهاره لكلمة التَّوحيد في هذا المقام منكرًا عظيمًا يعرُّض أرواحًا معصومة للقتل. فكلُّ ما جرَّ إلى منكر أعظم، ولو بدعوى “شرعيَّة”، فهو منكر.

هذه الحقيقة تحكم واقعنا اليوم في طرح الحلول السِّياسيَّة والاجتماعيَّة لأزمات ومشكلات قائمة إذ ينشد البعض العودة إلى الوراء في صيغة مستحيلة تصعِّب التَّقدُّم إلى الأمام في مسار طبيعي، ولا تنجح في العودة إلى الوراء. فطبيعة الأيَّام التَّداول، وطبيعة الزَّمان المضي قدمًا، وعجلة التَّاريخ لا تتوقَّف.

مجلس السلطان العثماني

 

محاولات لـ استعادة الماضي :

حاول المسلمون استعادة الخلافة بعد سقوط الدَّولة العثمانيَّة، أواخر الرُّبع الأوَّل مِن القرن العشرين، غير أنَّهم عجزوا عن ذلك وذهبت جهودهم أدراج الرِّياح، فقد كان مِن المستحيل بناء قصر مشيد على كثيب مِن الرِّمال المتحركة. وعوضًا عن مسايرة التَّاريخ كانت الأنفس منجذبة إلى الماضي ومتخوِّفة مِن المستقبل، لكن لم يفدها ذلك الإنجذاب والخوف شيئًا.

في اليمن؛ حاولت الإمامة استعادة عهدها بعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م ففشلت، ولم تستوعب أنَّ التَّاريخ تجاوزها. وعندما أرادت العودة مجدَّدًا بعد نصف قرن عادت بشكل دموي جبري يخالف التَّاريخ ويصادم القدر.

وحاول الحزب الاشتراكي اليمني بعد قيام الوحدة في 22 مايو 1990م العودة إلى الوراء، ولم يستوعب أنَّ الزَّمان تحوَّل، كانت محاولته الأولى عام 1994م فاشلة وخاسرة، وها هو اليوم يعود بواجهة دمويَّة عنيفة ليعود بالتَّاريخ إلى الوراء، لأنَّه لولا ذلك لن تعود الحياة إلى الخلف.

وحاول علي عبدالله صالح بعد ثورة 11 فبراير 2011م، وتنازله عن السُّلطة، استعادة ملكه الَّذي رغب في توريثه لأبنائه وعائلته، ولم يعِ أنَّ عجلة التَّاريخ مضت قدُمًا. لذلك ذهب يتحالف مع أعداء الأمس ليعود مِن منطلق الدَّمويَّة والعنف.

وهكذا فإنَّ كلَّ محاولة للرُّجوع إلى الخلف تتلبُّسها حالة عنف وجبر، في سبيل تطويع عجلة التَّاريخ!

ولأنَّ التَّداول سنَّة كونيَّة تقرِّر التَّقدُّم، وعدم الثَّبات على أشكال وقوالب وأشخاص وأفكار، فإنَّ القرآن يعبِّر عن حالة التَّحوُّل في المشهد السِّياسي بوصفها “انتزاعًا”، ((وينزِعُ الملكَ ممَّن يشاء)). فذوي الملك مسكونون ببقاء المألوف، وامتداد الماضي على الحاضر والمستقبل وكأنَّ التَّاريخ لا يتقادم والزَّمنَ لا يتقدَّم.

 

عبد الرحمن الداخل صقر قريش

لماذا لم يحاول عبدالرحمن الداخل استعادة دول بني أمية؟

في المشهد القديم لم يحاول عبدالرَّحمن بن معاوية بن هشام بن عبدالملك، الأمويُّ القرشيُّ، (113هـ- 172هـ)، والمعروف بـ”صقر قريش” أو “عبدالرَّحمن الدَّاخل”، استعادة دولة بني أميَّة في المشرق بعد سقوطها، بل ذهب يؤسِّس لمولد جديد يواكب ملابسات الواقع وسياقاته، فذهب إلى الأندلس ليقيم أعظم خلافة إسلاميَّة تشهدها أوربَّا الغربيَّة عبر التَّاريخ. ولو صرف جهوده في المشرق لمقاومة التَّغيُّر النَّاشئ لا عن لحظة عابرة ولكن عن تراكمات ساقت إلى هذا التُّحوُّل الكبير لهلك كما هلك الحسين بن علي -رضي الله عنه، وهو يقاوم التَّغيُّر النَّاشئ بعد مقتل والده وذهاب كبار الصَّحابة -رضي الله عنهم أجمعين.

 

ضرورة تلبية الاحتياجات والسير مع المتغيرات في الحاضر اليوم:

اليوم، هناك تغيُّرات جديدة على المشهد العام في المنطقة وبعض دولها، كاليمن مثلًا. والنَّاس فيه على عدَّة أصناف، والغالب مِنهم مَن هو مشدود إلى الماضي وعودة عجلة التَّاريخ إلى الوراء يبكي الأطلال وحسن العيش القديم! وهناك في المقابل مَن هو ثائر بلا رشد ولا وعي، إمَّا طلبًا لمثاليَّة دينيَّة (كبعض الجماعات الجهاديَّة النَّاشدة لقيام خلافة إسلاميَّة) أو مثاليَّة دنيويَّة (كبعض التَّيَّارات الَّتي تنشد دولة مدنيَّة ومدينة فاضلة عادلة كاملة). وبين الطَّرفين المتطرِّفين قلَّة قليلة مَن تحسن فهم السُّنن وتبني مشروعًا يسير مع الاحتياجات ويساير المتغيِّرات ويعرف أين يتموضع وكيف يتخلَّى عن البنى والهياكل والأشكال والقوالب الَّتي انتهت فاعليَّتها وجدواها، لينطلق مِن بنى جديدة ملائمة للظُّروف والملابسات العصريَّة.

هذه القلَّة القليلة مبعثرة، ولا تزال مجرَّدة مِن الإمكانات، وتفتقد رؤية واضحة المعالم وفكرة بيَّنة الأركان، لا لعيب فيها ولكن لأنَّ الواقع بطبيعته القائمة ضبابي وذو سيولة متحرِّكة غير ثابتة. كما أنَّ ضغط الواقع وتكاليفه عليها يجبرها على التَّأني وتقدير قدراتها للقيام بمشروع كبير تنقطع دون بلوغه الرِّقاب وتنكسر مِن أعبائه الظُّهور. لكنَّ حادي السُّنن يقول لهم: غدا سيعي الجميع أنَّ الحكمة لم تكن في استعادة الماضي، ولا القفز إلى المستقبل، ولكن ركوب عجلة التَّاريخ العابرة مِن الماضي نحو المستقبل مرورًا بالحاضر. عندها سيكون مِن الواجب عليهم امتلاك الإجابات المناسبة عن تساؤلات النَّاس: ماذا ينبغي علينا أن نفعل؟

أنور الخضري

كاتب وباحث يمني مهتم بالقضايا السياسية والشأن اليمني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى