أشتات

عن ترشيد علاقة المثقف بالسلطة

من طريف ما يحكيه الأستاذ العقاد (ت1383هـــ/ 1964م) عن نفسه في مذكراته هذه الحكاية: “إن أديبًا زارني، فوجد على مكتبي بعض المجلدات في غرائز الحشرات، فقال مستغرباً: ومالك أنت والحشرات؟!.. إنك تكتب في الأدب وما إليه، فأي علاقة للحشرات بالشعر والنقد والاجتماع؟!.. فقلت: لعلك نسيت أنني أكتب أيضًا في السياسة!”(1).

إن داء الاستبداد المتأصل هو ما يجعل السلطات تضيق ذرعًا برأي المثقف الحر وتصطدم معه باعتباره ـــ بحسب تعبير جان بول سارتر (1905 ـــ 1980م) ـــــ: “إنساناً  يتدخل ويدس أنفه فيما لا يعنيه”(2)! وحين يتبنى المثقف قضايا الشأن العام ينزعج السياسي السلطوي وحاشيته من ذلك ولا مناص من أن ينعت من قبلهم “بأنه شخص يثير العراقيل والفتن… وبأنه خيالي طوباوي، وفي أسوئها بأنه متمرد”(3). ويرد المثقف على ذلك العسف السلطوي بمزيد من الاحتقار والمزيد من سياط النقد اللاذع، وتزداد هوة التباعد بين الطرفين.

يتحدث الأديب المفكر توماس إليوتThomas Eliot” ” (ت1965م) عن خطورة الفصام بين العقل السياسي والعقل الثقافي، فيراها خطورة بالغة تصل حد انحلال المجتمع فيقول: “يتعرض المجتمع لخطر الانحلال حين يعوزه الاتصال بين الناس ــــ في المجالات المختلفة من النشاط ــــ بين العقول السياسية والعلمية والفنية والفلسفية والدينية”(4).

ونفس هذه الدرجة من الخطورة يقررها المفكر الدكتور ماجد عرسان الكيلاني (ت1436هـ/2015م) بقوله: “إن الانشقاق بين ممثلي المعرفة أو رجال الفكر، وممثلي الثروة والقدرة القتالية أو رجال الاقتصاد والجندية هو تدمير للقيادة الحكيمة في المجتمع وتركه فريسة الأهواء والجهالة والارتجال، وهو مخالف للأصول السياسية في الإسلام”(5).

ولعل من أهم المداخل إلى إعادة ترتيب وترشيد العلاقة بين الثقافي والسياسي أن يكتسب المثقف إلمامًا بعالم السياسة وتفهمًا لمشكلاتها ومآزقها وتقديرًا لــ “فن الممكن السياسي”، وأن يدرك السياسي أهمية الصلة بعالم الثقافة لتهذيب نوازعه، وتوسيع مداركه، واستنقاذ إنسانيته من قسوة وجفاف عالم السياسة، ويحدثنا المفكر الفيلسوف تيري إيجلتون”Terry Eagleton” عن فعل الثقافة هنا فيقول: “إن ما تفعله الثقافة هو أن تستقطر إنسانيتنا المشتركة من نفوسنا السياسية الطائفية، وأن تخلص الروح من الحواس، وتنتزع الأبدي من الزائل، وتستخلص الوحدة من التنوع. إنها تعني نوعًا من الانقسام الذاتي كما تعني شفاءً ذاتيـــًا على نحوٍ لا يبطل ذواتنا الشموسة، وإنما تشذبها بنوع من إنسانية أكثر مثالية“(6).

وفي كتابه: “نزهة الظرفاء وتحفة الخلفاء” يؤكد الملك العباس بن داود بن علي (ت778هـ) ــــ أحد ملوك الدولة الرسولية اليمنية ــــ على أهمية أن يمد السياسي جسور التواصل مع النخب العلمية والفكرية والثقافية لتنوير العقل وتهذيب النفس فيقول: “وينبغي أن يكون الملك كثير الاعتناء بمجالسة العلماء الصلحاء، والأدباء الفضلاء، فإن في ذلك تلقيح للعقل، وتهذيب للنفس”(7).

إن منظور التجريد الذي يهيمن على عقل المثقف/ المفكر يجعله لا يرى  ثمة فرق كبير بين تناول المجال السياسي بالنقد والتطوير وتناول غيره من المجالات، وإذا كان التجديد غالبًا ما ينظر إليه بحذر وتوجس، فهو حين يقترب من المجال السياسي يخلق دوائر أوسع من القلق، وهذا ما لاحظه المفكر “فرانسيس بيكون” (1561 ــــــ 1626م) حين لفت الأنظار إلى “أن هناك بالتأكيد فارقــًا كبيرًا بين الأمور المدنية السياسية، والأمور الفنية أو العلمية من حيث حجم الخطر الناجم عن التجديد في كل من الحالتين، أما في الأمور السياسية فحتى التغيير إلى الأفضل يعد مقلقــًا نظرًا للاضطراب الذي يثيره؛ ذلك أن السياسة تقوم على السلطة والاتفاق والصيت والرأي، ولا تقوم على البرهان”(8).

والمثقف الذي يستشعر دوره الرسالي لا يمكنه أن يمارس نقدًا عدميًا تجاه المجتمع والسلطة، ولكنه يمارس النقد المسؤول الذي يجترح الحلول والمعالجات، وفي حديثه عن الشروط الموضوعية لنقد المثقف للسلطة يقول المفكر إدوارد سعيد (ت 2003م): “ليس قول الحقيقة للسلطة ضربًا من المثالية الخيالية، بل إنه يعني إجراء موازنة دقيقة بين جميع البدائل المتاحة، واختيار البديل الصحيح، ثم تقديمه بذكاء في المكان الذي يكون من الأرجح فيه أن يعود بأكبر فائدة وأن يحدث التغيير الصائب”(9).

إن بإمكان المثقف أن يذهب بعيدًا في نقد وتعرية السلطة وكشف مساوئها وبيان أخطائها، كما يمكنه التماهي معها ليكون أحد أبواقها التي تشيد بمنجزاتها صباح مساء، وبإمكان السلطة أن تذهب بعيدًا في إقصاء وتهميش واضطهاد المثقف، أو احتوائه وتطويعه، كل ذلك وارد، ولكن حين تكون الإرادة هي إرادة النهوض ومواجهة التحديات الوجودية فلا مناص حينئذِ من التفكير مليًا في إعادة ترتيب وترشيد العلاقة بين المثقف والسلطة.

وتتعاظم الحاجة إلى هذا الترشيد في عالمنا العربي إذ تعد إشكالية علاقة المثقف بالسلطة إحدى أخطر الإشكاليات المزمنة على المستوى الحضاري، وفي ظل غياب الترشيد لهذه العلاقة صار الفصام بين العقل السياسي والعقل الثقافي هو الحالة السائدة لدينا، وقد انعكست هذه الحالة بأسوإِ النتائج والآثار على واقع مجتمعاتنا العربية، ولا مخرج من ذلك إلا بإعادة ترتيب العلاقة بين المثقف والسلطة على أساس الاحترام المتبادل والتكامل في أداء الأدوار؛ بحيث تتكامل القدرات المعرفية والسياسية والاقتصادية تكاملاً يؤسس للنهوض الحضاري ويُفعّل مقادير القوة الذاتية لمواجهة التحديات المصيرية.

إن العلاقة المتوترة بين (المثقف) و (السياسي) جعلت أمتنا تخسر كثيرًا، حين “وُضِع رجال الفكر والثقافة في صراعٍ دائمٍ مع رجال السياسة والعسكر، وقامت علاقات الطرفين على الشك والريبة والتدابر والتقاطع، حتى إذا انفرد رجال السياسة والعسكر في معارك التحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مضوا مكبين على وجوههم، إلا ما كان من خُطب المنافقين من كُتّاب الصحافة ومحدّثي الإعلام وحداة المغنين، فوقعوا ضحية الغرور والارتجال والهوى وآل أمرهم إلى الحبوط والفشل الذريع”(10).

ومن يمعن النظر في نتائج وآثار القطيعة بين العقل السياسي والعقل الثقافي في عالمنا العربي لا يخالجه شك في ضرورة ترشيد العلاقة على نحوٍ يحقق التعاون والتكامل بدلاً من التقاطع والتدابر، وتلك هي الفريضة الحضارية الغائبة في مجتمعاتنا العربية، ولا نبالغ إذا قلنا إن إحياء هذه الفريضة هو مفتاح التحول الحضاري المنشود.

الهوامش:

  1. عباس محمود العقاد:  أنا. ط مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة 2013م، ص 58. 
  2. جان بول سارتر: دفاع عن المثقفين. ترجمة: جورج طرابيشي. ط1، منشورات دار الآداب، بيروت1973م، ص11.
  3. د. محمد عابد الجابري :المثقفون في الحضارة العربية .. محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد. ط2، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت2000م، ص25.
  4. توماس. س. إليوت: ملاحظات نحو تعريف الثقافة. ترجمة: شكري عياد. ط1، دار التنوير، مصر 2014م، ص117.
  5. د. ماجد عرسان الكيلاني: هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس. ط دار الفرقان،  عمّان 1998م. ص395
  6. تيري إيجلتون: فكرة الثقافة. ترجمة شوقي جلال. ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر 2012م، ص21.
  7. الملك الرسولي العباس بن علي بن داود: نزهة الظرفاء وتحفة الخلفاء. تحقيق: محمد بن محمد الشعيبي. ط1، مكتبة الفوز، صنعاء 2006م، ص42.
  8. فرانسيس بيكون: أوهام العقل.. قراءة في الأورجانون الجديد.  ترجمة عادل مصطفى. ط1، مؤسسة هنداوي، ــ المملكة المتحدة 2018م، ص 95.
  9. إدوارد سعيد: المثقف والسلطة. ترجمة: د. محمد عناني. ط1، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة 2006م، ص169.
  10. د. ماجد عرسان الكيلاني: هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس. مرجع سابق، ص 400. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى