المدونة

الأشواق الممتنعة

ربما حظي الإنسان بامتياز لعنة المخلوق الوحيد الذي يحمل تطلعات وآمالًا تسوقه نحو الأمام دومًا، مبررة وجوده، ومانحة إياه القدرة على البقاء. إنه دائم التطلع نحو شيءٍ ما، طلب دائم وسعيٌ حثيث, وإن وقفت دونه العوائق على الدَّوام، فذلك لا يهم بتاتًا، ولن يغير في الأمر شيئًا، طالما هو يعرف ما يريد إن على الصعيد الدنيوي أو الأخروي،  فهو يجد في تحقيق رغباته غير مستطيع الإفلات منها.

إنَّ هذا الجهد المبذول، هذا السَّعي الدائم نحو شيء ما لا ينطلق من فراغ، إنَّ المرء لا يسعى لأنه يريد أن يسعى، إنه يفعل ذلك ليجتاز هذا الوجود المفروض عليه ، ليملؤه بشيء ما يخفف من سطوة فراغه، ليجعله مستساغًا، بل ومحبوبًا في الكثير من الأحيان.

إنَّ الوجود نفسه كأمر مجرد شيء مفزع رهيب، وعذاب وحشي غير محتمل، أن تكون هنا، دونما معرفة سبب لذلك، أن تكون نهبًا للأفكار المتضاربة والأوهام والهواجس إنه ضرب مما لا يطاق حقًا.  لذلك كانت الديانات والمذاهب الفلسفية مرحب بها على الدوام؛ لأنها ببساطة متناهية،  تمنح الإنسان دليل عيشه، إنها توفر عليه عبء التفكير في الأمر، قائلة له: “الطريق من هنا”.

فالإنسان يعوزه أبدًا دليلٌ ما، يجتاز به صحراء الوجود المترامية أمامه، يحتاج يدا ما أيا تكن يمنحها كفه لتقوده في هذه المتاهة ولو يد من سراب.

في خضم مسيرة اجتيازه المحفوفة بالمخاطر، يتعلق الإنسان بآمال دنيوية كثيرة ومتنوعة تمنحه البقاء والاستمرارية في هذا الواقع الهش، فهو يطمح أبدًا لجمع المال الذي يمكنه من عيش حياة رخية وسهلة ، لا تخنقه فيها الضرورات كما لا يعوزه فيه التمتع بكماليات مرفهة، إن المال بقدراته الواسعة على تحقيق الكثير الآمال المشتهاة يصبح خيارًا أول في رأس قائمة طويلة يتحقق معظمها عن خلاله، أن المال يسعفه غالبًا للزواج بالفتاة التي يريدها، والسفر إلى أي مكان يريد، يمنحه الجاه والسلطة في محيطه الاجتماعي، ويساعده على بلوغ السلطة التنفيذية إن أرادها، إنه ميسر حياتي رائع، بدونه تغدو الحياة صنوفا متعددة من المتاعب.

على الصعيد الآخر هناك إنسان آخر حتى وإن ظفر بآمال دنيوية رائعة أو لم يظفر فهو ممتلئ كليًا بأشواق عارمة نحو حياة آخرى موعودة، إنها الشوق الحقيقي بالنسبة له، وهي الشوق الوحيد الذي يستحق منه كل ذلك الجهد المبذول، إن جميع الآمال الدنيوية بالنسبة له وإن تحصل عليها، تبدو ضئيلة جدًا، وحقيرة جدًا إذا ما قايضناها بلحظة واحدة في أبدية النعيم اللامتناهي والحياة الخالدة.

جميع ما سبق يضعنا أمام حقيقة واحدة، إنَّ الإنسان على اختلاف توجهاته وتنوع آماله، على الصعيد الدنيوي أو الأخروي، هو كائن مدمن حقًا لا يقدر على العيش دونما كيف يقتات عليه، إن هذا الكيف هو من يملأ الفراغ حوله كما أسلفنا، وهو من يكسر إحساسه بالواقع الهش على الدوام مخلصا إياه من وطأة الزمن التي لا ترحم حينما يحشو روزنامته الزمنية بأفعال وواجبات ومنجزات يجب تحقيقها وفق خطة زمنية مرسومة. إنه الآن يسير وفق خطط زمنية تستغرقه وتحرره من المجهول الذي يخيفه، إن هذه الزمنية المحددة  تدخلنا في عالم جديد مفارق للفراغ الذي كاد يبتلعنا، كل شيء فيه مؤطر وممكن.

كلما انخرطنا أكثر في آمالنا وأشواقنا؛ تحررنا من زنزانة الواقع البليد، حقيقة كوننا موجودين مأسورين، ولا حل لذلك، إن جميع ما نصبو إليه هو اختبار كاشف لعدم صحة الواقع السجن وينسفه من جذوره الغائرة جدا، ولو لحظة تعاطينا لهذه الأشواق على الأقل.

إن هذه الأشواق ربما كانت متغلغلة فينا باعتبارنا كائنات أسمى، كائنات متسائلة تستنطق جميع ما حولها باحثة عن سر وجود يؤرقها، حتى وإن لم تدرك ذلك بوعيها جيدًا، فكل ما تفعله في سبيل  وجودها الدنيوي أو لأجل الوجود الأخروي المرتقب هو في حقيقته إجابات مختلفة عن التساؤل المركزي لا يكف عن التردد حول معنى الوجود ، ما المعنى منه؟ وما الذي علينا فعله لنمنح هذا الوجود القسري الباهت معنى يجعله زاهيًا ويستحق العيش والأمل في الماوراء أيضًا؟؟

إنَّ الإنسان هو ابن شرعي لآماله الممتنعة عليه، إنه يتوق شوقًا للعثور عليها للظفر بالارتماء في حضنها الدافئ كأم…

لكنه، ولسوء حظه، وفي المراحل الأسوأ من تاريخ الإنسانية تتحول أشواقه الممتنعة عن كونها كمالات مرتجاة أو اشباعات عليا منشودة لتغدو ضروريات حياتية معدومة يكافح المرء جاهدًا لنيلها ليعود محسورًا يائسًا، إنها لقمة عيش مستحيلة وسرير نوم عزَّ مناله ومساحة آمنة معدومة. إن ذلك لمروع حقًا، إن أشد ما يسحق هذا الإنسان هو الضروريات المعدومة فحينما تهوي أشواقه العليا لتغدو ضروريات معيشية من قبيل الطعام والشراب عندما لا يجد منهما شيئًا ويحمل هم إطعام صبية صغارًا، أو ملء بطنه الفارغ تمامًا، إنه يناضل ليبقي على حياته فلم يعد الأمر نضالًا من أجل الطعام بل من أجل الحياة نفسها، إنَّ حالات السَّحق الرهيبة هذه لها طبيعتها المهيمنة بحيث يغدو الحديث عن التبعات الأخلاقية لعمل ما، وإن كان غير مشروع،  نوعًا من الترف المعرفي أو ادعاء للفضيلة متعال لا أكثر.

إنَّ إنسانًا مريضًا يعيش في أحياء شعبية مزدحمة مكدسة بالنفايات والبشر في بيئة رطبة جدًا، وبيت حقير تحيط به مياه الصرف الصحي من كل جانب، يعاني مرضًا صدريًا ما، ويحلم ببيتٍ صغير وجاف وبأشعة شمس نقية، إن السَّحْق الرهيب الذي يتعرض له الإنسان أحيانًا يجعل من أشعة الشمس النقية حلمًا بعيد المنال، ثمة الكثيرون ممن يعيشون السَّحق الرهيبة هذه في عالمنا العربي اليوم.

إنَّ أحلامهم الكبرى وأشواقهم الممتنعة جدًا لا تتجاوز ضرورات المأكل والمشرب والمسكن الجيد والأمن على النَّفس. إنهم مهددون طوال الوقت بفقدان كل ذلك. إنَّ واقعنا العربي اليوم يقصي حق العيش بعيدًا فارضًا علينا منطق النجاة، إنك هنا وحيدًا في خضم المخاطر وهي تحيط بك من كل جانب، إنك محاصر ومذعور تسعى طوال الوقت للنجاة في أن تحظى بضرورات ممتنعة عليك، بينما الجميع يسرق باسمك- من الدولة حتى المؤسسات الخيرية – مروجًا كذبته الأثيرة إليه،  أنه يسعى جاهدًا ليوفر لك كل ما ينقصك، وأنتَ مقيم في بؤسك وليس لك من خيار، أما أن تقترف حماقة التفكير بالأمر الآخر و أنك إنسان وجد هنا ليعيش حياته بمعايير إنسانية تليق به، من حقه عيش حياة كريمة، أن يحلم، أن يحظى بأشواق عليا تدفعه للأمام، تنقذه من بؤس الوجود، وليس الركض الأبدي كطريدة أُنسِيت معنى العيش الكريم فهي مهجوسة بالنجاة تركض أبدًا لاتقف وتكاد تنفق لانقطاع نفسها، ولكنها تركض رغم ذلك، فذاك قدرها وما من خيار آخر ينتشلها، أما أن تكون كذلك فهو أمر ممتنع التحقق كتلك الأشواق ذاتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى