المدونة

البوذية في أروقةِ علم النفس

تعتبر الهندوسية ديانة الهند الكبرى، وهي ديانة قديمة يُظَنُّ أنَّ تاريخ نشأتها يعود إلى ألفي سنة قبلَ الميلاد. ولا يعرف تحديدًا متى أو كيف نشأت. وأغلب الظَّن أنها تطورت عن أصول مختلفة عبر حقب تاريخية متداخلة، حتى وصلت إلى الصيغة التي استقرت عليها، واستمرت حتى يومنا هذا. ولما كانت الهندوسية ديانة ذات نظام طبقي يقسِّم المجتمع إلى أربع طبقات، أعلاها طبقة الكهنة (البراهمة)، تتلوها طبقة الملوك والمحاربين (كشتريا)، ثمَّ طبقة الفلاحين والتُّجار والحرفيين (فيشيا)، وأدناها طبقة الخدم (شودرا)؛ نشبت في الهند ثورتان دينيَّتان أفضتا إلى نشوء ديانتين مستقلتين عن الهندوسية، وكان سذهاتا غوتاما حامل شعلة إحدى الثَّورتين(1). سيذهاتا غوتاما هذا هو الذي سيصبح لاحقًا (بوذا) بعد رحلة شاقة وطويلة في طلب “الاستنارة”. فكلمة (بوذا) تعني العارف المستنير.

وقصة سيذهاتا غوتاما من الولادة إلى الاستنارة – لمن عرفها – تؤكد على أمورٍ عدة، لعلَّ من أهمها أنَّ البوذية خرجت من رحم الهندوسية، فـ سذهاتا غوتاما (بوذا) نفسه وُلد هندوسيًّا، ولم يبتدع طريقة مبتكرة كليًّا في رحلته إلى الاستنارة. بل على العكس، تتلمذ في رحلته على كهنة من الهندوس، وتشارك في تأملاته مع نُسَّاك هندوس.

فلا عجب إذًا من اشتراك البوذية في كثير من العقائد والشرائع مع نظائر لها في الهندوسية. فالبوذية – كما الهندوسية – قائمة في الأساس على وحدة الوجود. ويؤمن البوذيون بالكارما باعتبارها ناموس الطبيعة، ويؤمنون بالتقمص (2) من حيث المبدأ، ولكن باعتبارات مختلفة، وتسمى هذه العقيدة عندهم “تكرار المولد”. ويؤمنون بالخلاص بما يشابه عقيدة الإنطلاق (الموكشا) في الهندوسية، وتسمى في البوذية “النيرفانا”.

إلا أنَّ بوذا – وإن كان في الأصل هندوسيًّا – قد نحا منحىً تجديديًّا إصلاحيًّا؛ أفضى أخيرًا إلى نشأة نظام ديني جديد يختلف عن النظام التقليدي الذي سبقه (الهندوسية). ولعلَّ من أهم نقاط الافتراق بين البوذية والهندوسية في هذا السياق، أن البوذية الأصلية (التيرافادا)(3) لا تعتني بمسائل الألوهية والغيب، بل يظهر أن بوذا نفسه همش عامدًا تلك المسائل؛ حتى قيل إنه كان يُنكر على من يكثر التفكير والسؤال عن مسائل الألوهية والغيب. ولذلك لا تجد مفهوم الإله حاضرًا في البوذية الأصلية، ولا تجدهم يتوجهون بالعبادة إلى آلهة.

أما ما قد تجده اليوم عند البوذيين من عبادة آلهة مختلفة (وفي مقدّمهم بوذا نفسه)، فتلك أمور طرأت على البوذية لاحقًا، خاصةً بعد انتشارها خارج حدود الهند، إلى الصين واليابان والتبت. وهذا التغييب لمفهوم الإله في البوذية الأصلية، جعلها أقرب ما تكون إلى المادية ومذاهب الإلحاد أو الربوبية.

في أروقةِ علم النفس1 البوذية في أروقةِ علم النفس

سر قبول البوذية اليوم

من الملاحظات التي يصطدم بها المهتم بتتبع حركة أديان الهند في العالم اليوم، وفي العالم الغربي خاصة؛ أنَّ الديانة البوذية أكبر حظوة وقابلية للاعتناق من الهندوسية. مع أنهما تشتركان في الرؤية الكونية، وكثير من الأصول العقدية، والطقوس التعبدية! فما سر القبول والحظوة الذين تنعم بهما البوذية في الغرب؟

أرى – وهذا تحليلي الشَّخصي – أنَّ البوذية اختصت عن الهندوسية بخصائص ثلاث أسهمت في انتشارها، ويسّرت للمهتمين تفضيلها على الهندوسية.

أولى تلك الخصائص: تَوجَّه بوذا في تحاشي التعرض للأسئلة الوجودية وقضايا الألوهية والماورائيات. هذه الخصيصة المركزية في واقع الأمر مهدت طريق البوذية لبلوغ أمصار شتى. فالبوذية مثلًا قد وصلت منذ عهود سالفة إلى الصين واليابان، وامتزجت بسهولة مع أديان وثقافات تلك البلدان. لأنَّ بوذا خلَّف فجوة واسعة لما ترك كبريات الأسئلة الوجودية بغير إجابات واضحة، الأمر الذي أعطى شعوب تلك البلدان مساحة اجتهاد – إن جاز التعبير – لسد تلك الفجوات بإجابات تتسق مع ثقافاتهم وأديانهم البدائية، فكيفوا تعاليم بوذا وفقًا لذلك.

هذا التوجه البوذي العامد إلى قطع الحبل الواصل بين الإنسان والغيب؛ حمّل الإنسان وحده عبء مسؤولية نفسه. هذه المسؤولية الفردية للإنسان التي تشدِّد عليها البوذية هي الخصيصة الثَّانية، وهي خصيصة شديدة الملاءمة للمجتمعات الغربية الفردانية عامة، وملائمة لنفسية الإنسان الملحد خاصة؛ فلا أحب إلى نفس الملحد من أن يكون إله ذاته!

تبقّى فقط أن تسد البوذية فجوة واحدة، وتشبع جوعة أخرى، لا يجد الربوبي أو الملحد عنهما موئلًا؛ وهما فجوة الرُّوح، وسغَب التعبَّد. فجاء التَّأمل البوذي خصيصة ثالثة تتسقُ مع سابقتيها، ليشغل هذا الحيِّز. فالتَّأمل البوذي يهدف إلى الوصول إلى الاستنارة، التي يحققها الإنسان بجهده الذَّاتي؛ لأنه وحده المسؤول عن خلاصه. ولا يحتاج أن يقصد بتأمله وجه كائن غيبي متعال.

التأمل البوذي إذًا نوع من “الروحانية الإلحادية”؛ إذ هو يسد قدرًا من حاجة الروح في التَّعبد، دون إدخال الإله وشعائر الأديان التقليدية في المعادلة. وهذه لعمري صفقة العمر بالنسبة للإنسان الغربي الربوبي أو الملحد!

وفي مجتمع فرداني علماني إلحادي، أسهمت هذه الخصائص في جعل البوذية أكثر قابلية للعلمنة من الهندوسية، وهي خصائص سهلت على الإنسان في تلك البلدان إخراج البوذية من صنف الأديان، إلى صنف أعم، يمكن تسميته بـ “فلسفة الحياة”(4) . والنتيجة في نهاية المطاف استبدال الدِّين التقليدي، بدين أهوائي يُكيّفه صاحبه كيف شاء، المعبود الأوحد فيه = ذاته.

التأمل البوذي والصِّحة النَّفسية

لعلَّ قابلية البوذية للعلمنة جعلت لها قبولًا فريدًا أوصلها إلى أروقة علم النَّفس! والمعلوم أنَّ علم النَّفس الحديث نافر من الدِّين بطبعه. فتجد علماء النَّفس – في العموم – يتخذونَ مواقف حدّية إزاء محاولات التَّوفيق بين العلوم النفسية وتعاليم الأديان التقليدية (كالإسلام والمسيحية). وقد عبّرت قبل عامين – في معرض حديث ناقد لعلم النفس – عن عجبي الشَّديد من ازدواجية المعايير هذه لدى علماء النفس، بين التعامل بحدية مع تعاليم الأديان التقليدية من جهة، وبين تمهيد طريق تعاليم البوذية إلى أروقة البحث العلمي من جهة أخرى!

ثم وقفت بأخرةٍ على كتاب: “علم النفس دينًا”، لعالم النفس بول سي فيتز، الذي أعرب في غير موضع من كتابه عن تعجبه من الأمر ذاته، فصرَّحَ في أحد المواضع قائلًا: […] ويمكن للمرء أن ينتقد افتراضاتهم الفلسفية، وربما الأخلاقية، ولكن لو اقترح المرء نظرية شخصية مسيحية (أو يهودية)(5)، فسينظر إلى هذا على أنه غير مقبول، ولعل من الغريب أن أحد الكتب الجامعية المعروفة حول نظرية الشخصية – وهو أحد الكتب المقررة في جامعتي – يحتوي على فصل مخصص للنظرية البوذية عن الشخصية!”(6).

والدِّراسات النَّفسية التي تدور حول موضوع التَّأمل واليقظة الذهنية، وآثاره على الصحة النفسية؛ مثال بارز لاقتحام الفكر البوذي(7) أروقة علم النَّفس. وإيرادي لهذا المثال يفتح علينا سؤال حقيقة جدوى وفائدة التأمل على الصحة النفسية. فما حقيقة جدوى التأمل وآثاره على الصحة النفسية؟

الدراسات التي عقدت في هذا الموضوع كثيرة، وكثرة تلك الدراسات قد تخلق وهمًا بالأثر الإيجابي الحتمي للتَّأمل على الصحة النفسية، فضلًا عن ضخامة الضجة الإعلامية في ترويج فوائد التأمل واليقظة الذهنية للعامة. ولذلك ينصح بالرجوع إلى دراسات التَّحليل البَعدي، أو الدراسات التَلَويّة (Meta-Analyses Studies) ، وهذا النوع من الدراسات يُعنى بجمع ومراجعة جمع من الدراسات السابقة في موضوع البحث، وإعادة تحليل نتائجها في دراسة واحدة شاملة. وقد أُجريت دراسة ضخمة، جمعت 44 من الدراسات التلوية لا الفردية، بمعنى أنها راجعت ما يقارب 400 بحث علمي تجريبي في موضوع التأمل واليقظة الذهنية، وجدواها في العلاج النفسي! وكان من أبرز ما خلصت إليه هذه الدراسة أنَّ:

– ممارسة التأمل واليقظة الذهنية مفيد فقط في حال كانت الممارسة ضمن برنامج علاجي بإشراف المختصين، لا أن تكون الممارسة فردية مستقلة. وهذا يعني أنَّ ممارسة التَّأمل خارج إطار برنامج علاجي = غير مفيد في الغالب. 

– وأن جدوى هذه البرامج العلاجية المنطوية على ممارسات التأمل واليقظة الذهنية، لا تَفضُل جدوى العلاجات النفسية الأخرى، إلا في حالاتٍ معينة. 

– وفي المقابل فإنَّ دعاوى فائدتها في حالات أخرى غير صحيحة؛ فلم تكن لهذه المماراسات جدوى في علاج حالات مثل: القلق، وتخفيف التوتر، والسرطان، وتحسين النوم، والأعراض النفسـ/جسدية (8).

في أروقةِ علم النفس2 البوذية في أروقةِ علم النفس

وفي بحث آخر بعنوان طريف: ” Can Mindfulness Be Too Much of a Good Thing?”

“هل يمكن أن تكون اليقظة الذهنية أمرًا جيدًا زيادة عن اللازم؟” تعبيرًا عن المبالغة الشديدة في تلميع ممارسات التأمل واليقظة الذهنية. وكانت مما كشفه (ويلوبي بي بريتن) في بحثه هذا = وجود تحيز للنتائج الإيجابية في الدراسات التي تبحث في موضوع اليقظة الذهنية؛ إذ ينشر الباحثون النَّتائج الإيجابية في جدوى اليقظة الذهنية، وفي المقابل يخفون أو يحجبون النتائج السلبية لليقظة الذهنية، وفي أحسن الأحوال، يعيدون تأويل تلك النتائج السلبية بطريقة مبتكرة.

وخلاصة بحثه كان مؤداه تأكيد الفائدة والأثر الإيجابي لممارسات التأمل واليقظة الذهنية من جهة، ولكنه في المقابل كشف الستار على حقيقة أنَّ لممارسات التأمل واليقظة الذهنية احتمالات مفتوحة من جهة الأثر. فكما أنَّ لها آثارًا إيجابية، فكذلكَ لها بعض الآثار المختلطة والمتباينة، وآثار سلبية غير مرغوبٍ فيها(9).

وفي كتاب: “الوعي مقدمة قصيرة جدًّا”، ذكرت سوزان بلاكمور خلاصات علمية فيما يخص التَّأمل واليقظة الذهنية، تنسجم مع ما سبق ذكره، ومن أهمها:

– ممارسة التَّأمل على المدى القصير، ليس له أثر كبير يُذكر في الاسترخاء، والتَّكيف مع الضغوط النفسية، بعكس ما يتم ترويجه لعامة النَّاس. 

– أثر التأمل في الاسترخاء على المدى القصير لا يفضل أثر الجلوس لقراءة كتاب في مكان هادئ مثلاً. 

– بل قد تؤدي ممارسة التأمل على المدى القصير إلى نتائج معاكسة؛ إذ تُفضي إلى مزيد من الانفعالات والضغوط النفسية، نتيجة اصطدام الشخص الممارس مع أفكاره. –

 آثار التأمل الحقيقية في تحقيق الاسترخاء العميق والتكيف مع الضغوط النفسية؛ تتحقق على المدى البعيد، على مدى سنوات عديدة أو عقود،  ولذلك تؤكد سوزان بلاكمور على أن الأسباب التي تقف خلف التزام أولئك المتأملين بالتأمل اليومي لتلك الآماد الطويلة = هي في الغالب أسباب دينية(10) .

وهذه الخلاصات تصلح أن تكون إجابة لسؤال جدوى ممارسة اليوغا وأثرها على الصحة النفسية، إذ التأمل جزء من طقوس اليوغا كما هو معلوم لمن اطّلع على حقيقة اليوغا بأنواعها. وطقوس اليوغا مما هو مشترك بين الهندوسية والبوذية والجانية، بل وحتى الطاوية. ولعلنا أن نفرد لها حديثًا خاصًّا في قابل الأيام.

الهوامش:

  1. أحمد شلبي، أديان الهند الكبرى. 
  2. ما يُعرف بـ تناسخ الأرواح. 
  3. انقسمت البوذية لاحقًا إلى قسمين، الـ (تيرافادا) وهي النسخة التقليدية للبوذية، والـ (ماهايانا) وهي التي تفرع عنها نسخ البوذية التي ظهرت خارج الهند. 
  4. بل إن هنالك من يرى بأن البوذية فلسفة، ولا ترقى إلى رتبة الأديان. 
  5. وأقول من جهتي: أو إسلامية. 
  6. بول سي. فيتز، علم النفس دينًا: مذهب عبادة الذات. 
  7. الفكر البوذي خاصة والشرقي عمومًا.
  8.  Goldberg SB, Riordan KM, Sun S, Davidson RJ. The Empirical Status of Mindfulness-Based Interventions: A Systematic Review of 44 Meta-Analyses of Randomized Controlled Trials. Perspect Psychol Sci. 2022 Jan;17(1):108-130. doi: 10.1177/1745691620968771. Epub 2021 Feb 16. PMID: 33593124; PMCID: PMC8364929.
  9.  Britton WB. Can mindfulness be too much of a good thing? The value of a middle way. Curr Opin Psychol. 2019 Aug; 28:159-165. doi: 10.1016/j.copsyc.2018.12.011. Epub 2019 Jan 7. PMID: 30708288; PMCID: PMC6612475. 
  10. سوزان بلاكمور، الوعي: مقدمة قصيرة جدًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى