المدونة

تراتيل سبتمبر وملحمة الخلاص: عودة الجمهورية الـ 2

ليس لمثلي اليوم أن يجرد قلمه، فأنا شخصٌ لا أحسن بناء لفظة ولا أقدر على تأدية عبارة في مجلسٍ عادي، فكيف أضع نفسي موضعَ من يحبر كلمة محكمة، ومن يريد أن يندب نفسه لكتابة يوم انطوى على الأزمان الثَّلاثة (ماضٍ وحاضر ومستقبل) لليمنيين، فهذا هو والله العناء، وأي عناء هذا الذي تتجشم فيه مصاعب الكتابة، فأنت تكتب عن يوم اليمن الوضاء، عن يومٍ انعتق فيه اليمني من أسر الإمامة، وتحرر من رُهاب السَّادة، وأيقن أنه يحمل بين جوانبه سمات الثائرين وإمكانات المجاهدين، وروح الشهداء.


تراتيل سبتمبر وملحمة الخلاص:

إنه يوم السادس والعشرين من سبتمبر، اليوم الذي خرج فيه اليمنيُ هاتفًا: يا أشباح البلى، ويا روح البلاء، يا سيد لست بمسود، يا بقايا الطغمة، وسراق اللقمة، ارحلوا عنا فليس لكم في دارنا مقام.


كيف كان حال اليمني أثناء استبداد الإمامة؟

قبل هذا اليوم الأغر كان اليمنيُ أسير حزنه، وعبد جهله، وإمعة كل سيد دعي، لم يكن في اليمن سوى لظى الجوع، وروائح الأكفان، وعطر المجامر، غير أنه وهذا حاله كان مشوقًا للحرية والاستقلال بقلب حي، وروح وثابة، وقد برهن اليمني في هذا اليوم أن ليس شيء أكبر من هامته وهمته تحت رواق الفلك، هذا اليوم الذي ملأ فجرُه كلَّ ربوع اليمن، كان يوماً من أيام الخلود، حيث لا فرق بين الواقع والخيال، ولا فرق بين الآمال والآلام، هي لحظة توقف فيها الزمن، انطوى فيها اليمن بأسره، في طي ذلك اليوم مستقبل اليمن، ورهانات العدو والصديق وفيه مستقبل هذا البلد المعزول بين أقفاص الإمامة والجغرافيا الآثمة.

امتشق اليمنيُ صبيحة هذا اليوم المهند اليماني ضاربًا به أعناق جنود الظلام، يصحح بذلك مساره، ويثأر لماضيه وملأ اليمنيون الأرض دويًا وهتافًا، صاحوا في الناس أن الحرية أنفس ما نملك، وأنه متى حيف بنا وتَجَبر علينا متجبر دسنا على هامه فنذر جبروته مداسًا فنفني عقبه ونقطع دابره، ونجعل من يأسنا أملًا ومن ضعفنا قوة ومن خوفنا ثورة ومن صياح جياعنا تهليلًا، ومن أنين العبودية ألحان الكفاح، ومن شكوى الإذلال إباء الثورة ومن نواحنا تراتيل صلاة الحرية.

كان الشعب في هذا اليوم واجفًا باسمًا، يقرأ من كتاب القدر بعزم لا هوان فيه، ارتقب الناس بين مصدق ومكذب، أينجح الأبطال في اجتثاث جذور الطغيان، أيدركون غايتهم وغايتنا، أيحققون حلم ألف سنة في يوم، أينالون الظَفَر، أينجون من غدر اللئام ويحققون نصر الأمة، فما إن دار في المذياع صوت الثورة بالبيان الأول حتى سقطت مدامع الشعب جذلاً كوشل أصاب أرضاً فأينعت بعد ذبول واخضرت بعد جدب، خرج الشعب مشدوهًا: أاليوم أصبح اليمن حرًا؟ خرج مكرد من بيته يسائل جاره: هل سمعت الصوت؟ هل فات الفوت؟ هل غادرنا ربُ الجهل والموت؟

وخرج أحمد متشبثًا بيد والده يسائله ما الحرية وما الجمهورية وما الذي يجري؟، فقال أبوه بزفرة آسٍ ونظرة حالم: آهٍ لو تدري، فهذه منحة القدر، وتلك يدٌ حانية وهبها اللهُ لنا.

غاص محسن في أحلامه وأوهامه: من رجل الغد؟ من يصنع الانتصار، هل ترى بعد هذا انكسار؟ هل يعقب كلَّ هذا الضوء ظلام؟ هل يدركنا اليأس بعد أن جالدناه، أم يقعدنا الجهل بعد أن حطمنا أصنامه؟

كان حديث الناس أنَّ اليمني كالعنقاء كلما قيل مات انبعث من رماده، فبيده مقاليد الثورة، وله من جبروته باب للحرية وسبيل للنضال، فمتى سيم هذا الشعب عذاباً آذن فجر يقظته بالإصباح، ومتى عشش الظلام في أركانه فلن تبرح نسمات الحرية وأضواء الثورة زواياه فكل ظلام في هذه البلاد مؤذن بالسفور، وكل ضيم يعقبه ثورة لا تبقي ولا تذر.

في هذا اليوم صيغت أحجية الثورة وبنيت أيقونة النضال، شكل الثوار في تلاحمهم سلسلة من الأطواد تقف أمام ريح الطغاة وسيل الدهماء المخدوعين، فقد خط الثوار في جبين الأيام وسم الحرية فكانوا مشعل النور وقيثارة النضال اليمني المتجدد.


حال اليمن في عيد الثورة الستين:

وفي عيد الثورة الستين، وقد دار الزمان دورته فدلائل عجز الناس باديه، وأمارات ضعف الأمة ظاهرة، وبدا للناس أن الثورة آيلة إلى سقوط، وأنّ الإمامة عادت في ثياب جديدة وإن هي إلا أيام وتسقط كل ذكريات الثورة، ويحرم على الناس ذكرها شأنها شأن صلاة التراويح الآن، وسيعمِلون في الناس مذهب التدرج وسيظهرون أنفسهم للعلن عمّا قريب فلولا صراعهم الداخلي فيمن هو أحق بالإمامة هل هو عبدالملك الحوثي أم عوض الله المؤيدي ومن الأجدر بالقيادة هل هو أبو علي الحاكم أم محمد علي الحوثي لحُسم الأمر منذ زمن، وما كان للشعب في ذكرى الثورة محل أمل أو موطن احتفال، وقد تأملت هذا العيد وحشدت لدرسه كل طاقاتي.


بدايات سقوط الجمهورية الحديثة:

جلست أرقب الناس وأرصد حركاتهم فرأيت في الحادي والعشرين من سبتمبر -ذكرى دخولهم صنعاء وابتداء المرحلة الأولى من عودة الإمامة- وجوهاً واجمة وصدوراً حرجة، وغضبًا يمور في النفوس لو خرج لكان فيضانًا أو بركانًا، غير أنه ما لبث الناس بعد ذلك اليوم أن لملموا ذاكرتهم واستعادوا يمنيتهم فرأيت يأسهم أملًا، وغضبهم عملًا، وإحباطهم مكابرة، وضيقهم مناكفة، فالأغاني الوطنية في كل بيت وكل شارع، ووسائل التواصل الاجتماعي مليئة بذكر ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، يحيونها بعفوية نادرة ويبادرون وكأنهم جيش منظم بُذل في سبيل إعداده وتنظيمه أموالاً وأياماً.

أربى صنعاء ما زلتِ باقية شامخة شموخ عيبان ونقم، أحماس الثورة ما زلتَ باق في نفوسنا ما بقيت فينا الأنفاس وتحركت فينا القلوب، أآثار الثورة أنت وقود وثبتنا وشعلة نضالنا، أذكريات الثوار ها نحن نتتبع الخطى ونرسم المسار ونعيد لكل ذكرى ثورية وهجها وألقها.

وجوه الإمامة والكهنوت

 

شعلة الثورة باقية:

أصاب الإماميون الرعب بعد كل هذا الاحتفال الجماهيري، فما إن اشتعلت شعلة الثورة في ميدان التحرير، وعلت هتافات الناس (بالروح بالدم نفديك يا يمن)، حتى رأيتهم يحتفلون بمولد النبي صلى الله عليه وسلم تشويشًا وإرباكًا، فما تعجلهم بهذا الاحتفال إلا يأسًا وضعفًا، وأنى لمحاولاتهم أن تدرك غايتها والناس في ذروة احتفالهم، يتخذون من احتفالهم إشارة لهؤلاء أن دولتكم كاذبة وأن ثورتنا باقية، وأننا الأحفاد أحق الناس بحفظ تركة أجدادنا فلن يدركنا الخور ولن تنال منا دعاياتكم ومكائدكم.

حين تتفرس في الوجوه الناحلة، وتتأمل حال الناس يوم ذكرى هذه الثورة ترى الدموع تترقرق في أعين كل حيٍ، وهذه الدموع لا أعدل بها ملئ الأرض ذهباً وماساً، فهي ورب اليمنيين جمرات طينة تكوين الجيل القادم، فبها يخرج المارد من قمقمه.

 

عودة الجمهورية الثانية:

هذه الذكرى متفردة فقد رأيت فيها إرهاصات عودة الجمهورية الثانية، ورأيت فيها قوة الشعب وروح اليمني وجلده، رأيت فيها أن هذه الثورة خالدة ليس في قدرها موت أو حياة بل هي خلق إلهي وهبه اليمنيين ليبعث فيهم ذكريات الماضي، ويهمس في آذانهم بنبوءات المستقبل.

فهذه الثورة سبب من أسباب السمو اليمني، فهي مستودع الذكرى وبقايا الحنين، وأمل مشع يخترق حجب الظلام، وإني لأرى في شعلتها مناراً هادياً، فهي بقية من جذوة ما تلبث أن تتعاظم في صدور رجالها، حتى يصحو العملاق من سباته فيهدم المعبد على ساكنيه.

ترى اليمني اليوم كبير الآمال موفور العزة، ثر الغرور، لا يأبه لجبار ولا يلتفت لطاغية، يبين تحركه وإن قل عن أسباب وعي تبذل لاستعادة مجدٍ أوشك على الذهاب، وعن عملٍ مرجو يزيل تجبر المتجبرين، ويزلزل عروشهم المتهاوية، فمهما رأى أرباب الظلام أن حكم اليمن سهلاً، ومهما سوَّلت لهم أنفسهم أن يتطاولوا إلى ما يفوت إمكاناتهم من الغايات، فحسبوا أنهم وجدوا موطئاً سهلاً وهم لا يدرون ما أمامهم من المهاوي والعقبات، فليدركوا أن لهم من يقظة اليمنيين وازع، ولهم من عنفوان اليمني رادع، فإنهم إن استمرأوا مرعى البغي، فقد سلكوا مورد الهلاك، وأنالوا أنفسهم وأبنائهم ليدٍ بطاشة جبارة ستجعلهم عبرة الدهر وحديث الناس.

من يرى مور الشعوب وخلجات أفئدة الثورة سيجد نفسه أسير حماس، ينبذ الطغيان، ويتسنم الحرية، وسيدرك أن بداية هلاك الطاغية الاطمئنان إلى السلامة، والغرور بما طالت يده، فتكبر عليه الرزيئة ويأخذه الثوار على حين غرة، فمهما طالت هجعة الثورة فإن وثبتها آتية لا محالة، فهذه هي مصاير الحياة وأطوار الوجود، فالحياة نزاع بين حق وباطل، فإن كان للباطل جولة فللحق جولات، فلا يريبنك بهرجة الباطل، ولا يهولنك ضعف أهل الحق، فهبة الثورة لا بد آتية “فمُذ بدأنا الشوط جوهرنا الحصى بالدمِ الغالي وفردسنا الرمال”.

أميطوا جلابيب الجهالة عنكمُ

وعن عزكم واستنطقوا الضرب والطعنا

فــمــا في حـــــــــــيــاةِ الذل خــــيرٌ لعاقلٍ

وفــي مـوتـه بالعــزِ لـيـس يـرى غـبـنـا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى