المدونة

لماذا يختل ميزان الأهداف الكمية والكيفية؟

اختلال ميزان الأولويات لم تعد مشكلة فردية، بل أصبحت ظاهرة اجتماعية، وأصبح الكثير من النَّاس يحرصونَ على تحقيق أكبر قدر من (الكم) على حسابِ (الكيف)، فتطالعنا الأخبار اليومية بأكبر صحن من الطعام تمَّ عمله، وأول امرأة عربية وصلت قمة إيفرست، وأغلى خروف في مزادِ الخرفان، وكم حصد فلان من الإعجابات في حسابه على وسائل التَّواصل الاجتماعي.. وهكذا، لا تنتهي هذه القائمة الكميَّة…!

في حين نجد أنَّ الأهداف الكيفيَّة تتوارى عن الأنظار، وإن ظهرت فإنها تظهر على استحياء، فقلما نسمع عن الاختراع الفلاني، أو عن حل الظَّاهرة الفلانية، أو القضاء على المرضِ الفلاني، وحتى على نطاقِ البحوث العلميَّة، نجد أنَّ منهج البحوث الكميَّة يطغى على منهجِ البحوث الكيفيَّة، ورغم الحاجة لكليهما، لكن أن يطغى أحدهما على الآخر ويحل محله هنا تكمن إشكالية الظاهرة.

هذا يقودنا إلى نظريةِ العرض والجوهر الفلسفيَّة، والباطن والظاهر العرفانية، فالكم يمثل العرض والظاهر، بينما الكيف يمثل الجوهر والباطن.

من هنا ندرك أهمية إهدار مبدأ (الكيف) على حساب (الكم)، والاهتمام بالظَّاهر على حساب الباطن.

ومصطلح (العرض) تحديدًا ورد ذكره في القرآن الكريم في معرض الذَّم، وهذه أمثلة:

﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ فَتَبَیَّنُوا۟ وَلَا تَقُولُوا۟ لِمَنۡ أَلۡقَىٰۤ إِلَیۡكُمُ ٱلسَّلَـٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنࣰا تَبۡتَغُونَ عَرَضَ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا فَعِندَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِیرَةࣱۚ كَذَ ٰ⁠لِكَ كُنتُم مِّن قَبۡلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَیۡكُمۡ فَتَبَیَّنُوۤا۟ۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِیرࣰا﴾ [النساء ٩٤]. 

﴿فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفࣱ وَرِثُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ یَأۡخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلۡأَدۡنَىٰ وَیَقُولُونَ سَیُغۡفَرُ لَنَا وَإِن یَأۡتِهِمۡ عَرَضࣱ مِّثۡلُهُۥ یَأۡخُذُوهُۚ أَلَمۡ یُؤۡخَذۡ عَلَیۡهِم مِّیثَـٰقُ ٱلۡكِتَـٰبِ أَن لَّا یَقُولُوا۟ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّ وَدَرَسُوا۟ مَا فِیهِۗ وَٱلدَّارُ ٱلۡـَٔاخِرَةُ خَیۡرࣱ لِّلَّذِینَ یَتَّقُونَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ﴾ [الأعراف ١٦٩]. 

﴿.. وَلَا تُكۡرِهُوا۟ فَتَیَـٰتِكُمۡ عَلَى ٱلۡبِغَاۤءِ إِنۡ أَرَدۡنَ تَحَصُّنࣰا لِّتَبۡتَغُوا۟ عَرَضَ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۚ وَمَن یُكۡرِههُّنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِنۢ بَعۡدِ إِكۡرَ ٰ⁠هِهِنَّ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ﴾ [النور ٣٣].

فالمعنى المشترك في الآيات السابقة في مفهوم (العرض) هو المصلحة المادية الظاهرة العاجلة، والتي هي في متناول اليد، وتحت السمع والبصر، وهي مصلحة فردية ذاتية، بينما المصلحة البعيدة، والمصلحة الجماعية، فإن النفوس تستثقلها عادة.

وقد لفتت نصوص السنة النبوية الأنظار إلى أهمية الاهتمام بالجوهر، من ذلك ما رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة-رضي الله عنه- أن لنبي (صلى الله عليه وسلم) قال: إنَّ الله لا ينْظُرُ إِلى أجْسَامِكُمْ، ولا إِلى صُوَرِكمْ، وَلَكن ينْظُرُ إلى قُلُوبِكمْ وأعمالكم».

وإذا علمنا أنَّ منبع الجوهر هو الباطن، فإنَّ الاهتمام بأعمال القلوب يأتي على رأس الأولويات التي ينبغي أن تكون ضمن المناهج التعليمية والتربوية في مدارسنا وجامعاتنا، فعن النُّعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ألا وإنَّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)). متفق عليه.

يختل ميزان الأهداف الكمية والكيفية؟3 لماذا يختل ميزان الأهداف الكمية والكيفية؟

وسائل تطوير الجانب الكيفي:

من وسائل تطوير الجانب الكيفي، والاهتمام بالباطن-وليس على حساب الظاهر- وإنما بالتوازي معه، ما يلي:

تضمين المناهج التعليمية مناهج تربوية في كيفية العناية بأعمال القلوب، وإنشاء حلقات أذكار في المدارس والجامعات للعناية بهذا الجانب، دون الوقوع فيما يناقض هذا الهدف من غلو وانحراف عن المقصد الذي وضع هذا البرنامج لأجله، كما قد يحصل عند بعض فرق التصوف الإسلامي. 

تعليم الطلاب أذكار الصباح والمساء، وجعلها وردًا وواجبًا يوميًّا يتم تسميعه في المدرسة. – توجيه البحوث العلمية والتربوية لدراسة هذه الظاهرة، والإسهام في ترشيدها. 

تعميق مفهوم (مقاصد الشريعة) في الجامعات وجعله مقررًا متطلبًا في مختلف الكليات، إذ أن علاقة المقاصد بالباطن وطيدة. 

إسهام المؤسسات الأهلية والمراكز البحثية في إنتاج إعلامي يعزز مفهوم الاهتمام بالباطن وأعمال القلوب، ويمكن أن يتم عرض “كتاب مدارج السالكين” ومنازله المختلفة كحلقات قصيرة، وبمفاهيم مبسطة، بشروحات كرتونية على منصات وسائل التواصل الاجتماعي.

كان هذا العرض الموجز مجرد قدح للفكرة، وعسى أن يأتي من يبسطها ويوسعها ويهتم بها.

والله من وراء القصد.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى