Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
تزكية

رمضان شهر المحاسبة

دخول رمضان يذكرك بمرور السنين والأيام وتصرّم الشهور والأعوام، ولعلك مع دخول رمضان تسمع كبار السن حين يجمعكم السمر وهم يتحدثون عن الذكريات الماضية ويحكون الوقائع الذاهبة ومن كان حيا ثم مات وقصص الآباء والأجداد والأيام الخاليات أفلا يدعوك هذا الحديث إلى الانتباه لتصرم العمر والوقوف وقفة محاسبة للنفس، وألا يدعوك هذا الشهر الذي يعود كلَّ سنة إلى الاعتبار بانصرام الأعمار، أليس مجيئه ثم ذهابه سريعا إيذانٌ بأن هذه الدنيا ليست دار قرار، وإنما دار ارتحال ونحن فيها على جناح سفر وعما قريب سنرتحل.

انظر إلى هذه الشهر، يهل هلاله صغيرا كما يولَد الأطفال، ثم ينمو رويدًا رويدًا كما تنمو الأجسام، حتى إذا كبر واستوى وتكامل نموُّه أخذ في الضعف والنقص والاضمحلال، وهكذا عمرك أيها الإنسان، تخرج من بطنك أمك صغيرا كالطائر ضعيفا لا تملك حولا ولا قوة ثم تكبر وتنمو حتى تصبح فتى يافعا ثم شابا مستويا ثم كهلا وقد تشيخ وتهرم وتعود إلى ضعفك من جديد وهكذا دورة الحياة والبقاء لله خالق الخلق ومكور الليل والنهار، وفي كل عودة لرمضان عبرةٌ للمعتبرين وذكرى للمتعظين، وآياتٌ للمستبصرين، والعاقل من اغتنم حياته بالطاعات، وسنوات دهره بالخيرات، وعمره المحسوب بالحسنات، وما ابن آدم إلا أيام إذا ذهب بعضها ذهبت كلها.

رمضان يدعوك لأن تقف وقفة جادة مع نفسك فتحاسبها على كل صغيرة وكبيرة لأن الحساب عسير غدا بين يدي الله ويكفي المؤمن في آيات المحاسبة لو وقف مع هذه الآية التي يطيش لها لب العاقل حيث يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47].

مثقال حبة الذي نستهين به لن يغيب غدا في موقف العرض وهذا يدعونا لأن نرصد حركاتنا وأعمالنا فلن يغيب شيء غدا وإن دقّ   والمؤمن حريص أشد الحرص على محاسبة نفسه كل يوم ولا يأمن حتى يلقى الله، يعلم أنه مأخوذ عليه في لسانه وجوارحه، فهو يمشي في حذر كأنما يخطو على الشوك

يقول ابن أبي ملكية:” أدركت ثلاثين من أصحاب النبي كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل!!”

لقد كانوا حذرين مع شدة اجتهادهم ونحن للأسف آمنون مع شدة تقصيرنا.

قال الحسن البصري رحمه الله: «من حاسَب نفسه قبل أن يُحاسب، خفَّ في يوم القيامة حسابه، وحضَر عند السؤال جوابه، وحَسُن مُنقلبه ومآبه، ومن لم يُحاسب نفسه دامت حسراته، وطالتْ في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي والمقْت سيئاته، وأكيس الناس من دان نفسه وحاسَبها وعاتَبها، وعمِل لِما بعد الموت، واشتغل بعيوبه وإصلاحها».

والله عزوجل حذرنا مرارا وتكرارا من نسيانه في غمرة الانشغال بالحياة ولعبها ولهوها  فقال تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [الحشر: 19]، ولقد أطلق  عمر الفاروق رضي الله عنه نداء يهز الأعماق ويحرك الوجدان ويبعث على المحاسبة المستمرة ومراجعة جدول الأعمال فقال : «أيها الناس حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالَكم قبل أن تُوزَن عليكم، وتهيَّؤوا للعرض الأكبر: ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 18]،

وهذه المحاسبة لا بد أن تكون شاملة للأقوال والأعمال فنحاسب أنفسنا على نوايانا وما نكنه في صدورنا فالله يقول: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284].

ونحاسب أنفسنا على أقوالنا وما نتكلم به ونلفظ؛ لقوله تعالى ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18].

ونحاسب أنفسنا على أفعالنا وتصرفاتنا وأعمالنا؛ لقوله تعالى : ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾

ولا يزال المسلم بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة قصده وعزمه.

DALL·E 2024 03 15 21.55.05 Design a wide image with a 3 2 aspect ratio that visually captures the essence of a thoughtful article about Ramadan. The image should harmoniously bl 1 رمضان شهر المحاسبة

إن أصدق ما قيل عن النفس أنها كالشريك الخوّان إن لم تحاسبه ذهب بمالك والمؤمن العاقل الحصيف من يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك لشريكه، وقد نقل أعلامنا الأوائل أنه مكتوب في حكمة آل داود: حق على العاقل ألا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلوا فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجعل، فإن في هذه الساعة عوناً على تلك الساعات وإجماماً للقلوب.

روى بعض الكتاب قصة رمزية تعبر عن محاسبة النفس والانتباه لما هو في الأمام والتخطيط له بجد ليل نهار وخلاصة هذه القصة أن دولة من الدول كانت تتبنى قانونا غريبا وعجيبا حيث تقع هذه الدولة في وسط صحراء مليئة بالزواحف السامة والوحوش الضارية ، ولهذه الدولة أسوار عالية لا يقدر على تسلقها أحد ، ولا يمكن لأحد أن يخرج منها إلا من بابها الذي لا يفتح إلا مرة كل خمس سنوات هي مدة بقاء حاكم البلد فيها، حيث  يحكم هذه الفترة ثم يطرد من بابها بعد انقضاء مدته ويرمى في تلك الصحراء الموحشة .

وغالبا يكون مصيره الموت في تلك الصحراء التي لا يوجد فيها أي مظهر من مظاهر الحياة ، وفي نهاية مدة أحد حكامها ، أُعلن عمن يتطوع لإدارة الدولة فلم يتطوع أحد .

ومضت الأيام دون أن يتقدم أحد ، إلى أن فوجئ الجميع بشاب في مقتبل العمر يتقدم للجنة المشرفة على الاختبار ، ويقبل بالمهمة الصعبة ، فعرضوا عليه شروط الحكم وأفهموه كل شيء عن مدة حكمه ، ومصيره بعد ذلك فوافق على جميع الشروط.

وبدأ فترة حكمه بجدية وهمة عالية، وكان قد جهز عمالا واتفق معهم سرا، حيث كان يخرجهم من البوابة ليلا ليشقوا القنوات المتصلة بالعيون من داخل الدولة، ويبنوا له القصور، ويغرسوا الشجر المثمر بجميع أنواعه، ويعدوا له فيها ما اشتهت نفسه وقرت عينه من أسباب الراحة والهناء ويستمر العمال في العمل ولا يدخلون حتى قبيل الفجر .

وهكذا استمر في هذه الخطة مشجعا من أحسن من العمال محاسبا من يتثاقل مراقبا العمل يوميا حتى شارفت مدته على الانتهاء، فلما جاء فريق الإشراف على التعيين والطرد وأخبروه بموعد الرحيل لم يروا عليه ما كانوا يرونه على من سبقوه من الوجل والرعب والهلع، بل رحب بقرب الموعد، وأبدى شجاعة متناهية وطمأنينة عجيبة أدهشتهم، ولما جاء موعد الطرد وفتحت الأبواب تعجب الجميع من مناظر الأشجار المثمرة، وقنوات المياه التي تتخللها ، والآبار الجديدة المحفورة حتى بدا ما هو خارج أجمل مما في داخلها، ولما سألوا عن ذلك أخبرهم بما قام به من استعدادات ليوم الرحيل، فأعجبوا به أشد الإعجاب واتفق الجميع على أنه هو السعيد والذكي حيث سيقضي في تلك الحدائق والمتنزهات أجمل أيام العمر وهم الأشقياء داخل تلك الأسوار.

هذه قصة رمزية لمعنى الحياة التي نعيشها، فكل منا له مدة معينة محددة لا تزيد ولا تنقص، يخرج بعدها من هذه الدار، إلى دار أخرى، إما أن يكون قد استعد لها فينجو كما نجا ذلك الشاب، وإما أن يكون قد فرط فيها وفرط في الوقت الذي أعطي له، حتى جاءت لحظة الطرد من الدنيا فلم يجد إلا صحراء قاحلة لا حياة فيها ولا نجاة، فيبكي حيث لا ينفع البكاء ويتحسر حيث لا ينفع التحسر ؟

هذا العمر هو رأس مالك، وما دام في يدك فإنك فإنك قادر على الربح، وإن الناس في إعراض عن بضاعة الآخرة في زمننا هذا فكن ذكيا واجمع هذه البضاعة في يومٍ تكون فيه غالية، بل لا يقدر أحد على الوصول إليها..

إن بداية محاسبتك لنفسك تبدأ من النظر في النعم التي أنعم الله بها عليك ومقارنة ذلك بتقصيرك إزاء قيامك بحق الله فيها، ثم ذنوبك التي تقترفها ليل نهار متأملا في عفو الله وكرمه ومغفرته وستره وصفحه وتجاوزه وكيف أنه لو شاء لأخذك بذنب واحد لكنه واسع المغفرة عظيم المَنّ حسن التجاوز، ثم تقوم حالا بعتاب نفسك وحملها على تصحيح المسار، وبقدر قوتك في حساب نفسك بقدر ما يخفّ عنك الحمل غدا بين يدي الله، وإن من يعرض عن محاسبة نفسه سيتحسر في وقتٍ لا ينفعُ فيه التحسر، يقول الله جل وعلا:{أنْ تَقولَ نَفسٌ يا حَسْرتى عَلى ما فَرطتُ في جَنْبِ اللهِ وإنْ كُنْتُ لَمِنَ الساخِرين} (الزمر:56).

وترك محاسبة النفس يودي بالعبد إلى الهاوية لأنه يفتح باباً لنفسه الأمارة بالسوء والشيطان والهوى فيسوّف في التوبة، ويكسل عن الطاعة، ويتردّى في مزالق الهوى،   وتتمكن الغفلةُ من قلبه فيتعلق بالدنيا وتكون جل همه، وينسى الآخرة فيضيّع حقوق ربه ويأكل حقوق الناس، وتمر أيام عمره هباءً منثورا، فلا يتغير في رمضان ولا ينتبه لفضله ولا يرعوي لعظمته وحرمته، ولقد أمرنا الله أن ننظر  بعين البصيرة لما بعد الموت، وأن ما يقدمه العبد لنفسه في هذه الدنيا يجده غدا بين يديه يقول الله جل وعلا:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(الحشر: ).

وما حاسب نفسه من غض الطرف عن عيوبه والعمل على معالجتها وإزالتها، والندم على اقتراف الخطايا وتدارك ما فات في زمنِ الإمكان، وتصفية حقوق العباد والعزم بالرقي بالنفس في مدارج أهل الصلاح.

وإن مما يعين على محاسبة النفس زجر المرء قلبه بقوارع القرآن، وقراءة سير وأخبارِ أهل المراقبة والمحاسبةِ من السابقين، وحضور مجالس العلمِ والذكر فإنها تدعو لمحاسبة النفس وتذكير العبد بربه، وزيارة القبورِ والاتعاظ بحال الموتى وأنهم يودون لو يعودوا إلى الحياة ليصوموا يوما واحدا من رمضان أو يصلوا ركعتين أو يقولوا لا إله إلا الله، فلنجعل من رمضان محطة لمحاسبة النفس قبل أن يعود طارقا الأبواب ونحن تحت التراب ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى