أدب

كارابوك : ذاكرة الروحِ وأغنياتُ المكان

إنَّ الحديثَ عن المكان حديثٌ مُترف، حديثٌ ملؤه الشجن، حديثٌ عن الدهشةِ الأولى، وامتزاجٌ مع الأرضِ ونسيمها وأصواتِ أهلها والوقائع والحقب التي شكّلتها. دومًا ما يجمحُ الحديث عن الأماكن لينظر إلى الزمان نظرة روحٍ خارجة من العدم، كأن ترى المكان بحاسَّة ملائكية.

أحدِّثكم عن مدينتي الصغيرة، كارابوك، لا منسوبة لدولةٍ ولا لشعب، بل حتى خارجَ الجغرافية المعروفة، كارابوك الذكرى، مهد الذكريات التي عاشت فيَّ فما تنفك عني ولو تطاول الدهر، بل.. ولو نسبتها لنفسي لَـما أبعدت عن الصواب، بنهرِها الصغير، بهوائِها العذب، بأشجارها البارِعة، بجبالِها العِظام، بمسايرتها فصولَ السنة، بتناولها بدورَ الحسن، بأزقتها النابضة بالحياة، بأحيائها المنظمة والعشوائية الغالبة! بأطلالها الدوارس.. أحدثكم حديثَ محبٍ عن منطقة صغيرة، عن جولاتٍ عشوائية متفرقة، عن حنينٍ مفرط لهذه الأرض.

❃❃❃

هربًا من زحام الناس، أحببتُ أن أخرج بين الحينِ والآخر لأَبعدِ مكان تحملني إليه قدماي، فما تجد جهةً من جهاتِ هذه المدينة إلا وقد زرتها وطوَّفتُ بها، ومديني هذه كثيفة الشجر، ممتدة الظل، نقية النسيم، موحشة الدغل. في كلِّ جهةٍ منها أرضٌ ما وطأتها قدم .. وتلك الأرض التي أهوى، أرضٌ ما عبث بها الإنسانُ بعد، أرضٌ خَلاء.. أكلها الشجر، وازدهرت فيها الطبيعةُ على ما هي عليه، تلك العشوائية الكونية المريحة، أهواها، وأنا الطَروبُ إذا ما خلوتُ بها، متى ما اشتدَّ هجيرُ الناس، وعلا صخبُ الحياة، أهربُ لتلك البقاع، حيثُ استطاع الإنسان الأول أن يطمئن، أن يوطِّدَ الحبَّ بين الأرض والسماء، أن يفهم ضحك الشجرة لهمسِ الريح، أن يلمس حنين الصخرِ لنعومة الندى، أن يسمعَ صدى الكون في الأرجاءِ من حوله، هذه مدينتي، أرضٌ أُنسُها مغروسٌ في التربة، أشجارها راقصة، وسماؤها مسرح عملاق.. والغيم فيها أقلامٌ تخلق إطار اللوحة كلَّ يوم، مدينةٌ تعرفُ الحياة، تؤمنُ بالمواسِم، وترتدي لكل موسم حُلَّته، فلا تعجز أن ترى الشيب كاسيًا جبالها، وما يطولُ بكَ الزمان إلا وتراها عروسًا زُينت بألوان الورد، وفاح من أردانِها الطيب، وإن لحق الزمانُ بعضه، علَّك تراني منحنيًا أجمِّع بين يدي شيئًا من ورق الخريف، وإن تعجَب، فأنا أضنُّ كثيرًا بأوراقِ الشجرِ أن يذرها الريح .. وملخصُ صيفِ المدينة أنه زيارة قصيرة الأمد للشمس، إذ صيفها حنينُ الشمس إليها!..

ذاكرة الروحِ وأغنياتُ المكان 5 كارابوك : ذاكرة الروحِ وأغنياتُ المكان

وبأيِّ رحلةٍ أبدأكم!؟ أنا كثيرُ التجوال، ما أكاد أطيق معاشرة الغُرَف! وما أُحبُّ التخطيطَ لجولةٍ أزمعت لها، أحيانًا أحددُ الوجهة، وأحيانًا أخرج، ومن ثم أرى ما أصنع..

مدينتي “كارابوك” وأقربُ بلدةٍ إلي فيها: سفران بولو، حيث يجثمُ التاريخ بعنادِه على رؤوس الجبال، على مداخنِ البيوت، في مراتع الذكرى، تحتَ تلك السماء أسيرُ وحولي قرونٌ مِن القِدَم، إذا ما سِرت صحبَتني سطوة الدهر. أواهِ من سَعدي إذا ما صادفت بيتًا هدَّه القِدم، ولَفّه سِوارٌ عريض من الشجر، بيتًا غُلِّقت أرتاجه، هاجر سكانه، توفي عنه كُلُّ آهلٍ ووارِد .. أواه مِن شَجوي إذا ما وقفتُ عليه وقد غادر النور سماءه، أيُّ حنين يعتريني وأيُّ شوق يجتاح فؤاديَ الخَلي؛ أذكُرُ أني قبل سنينٍ من الآن، في جولة ربيعية، وقد ألقى الكون عليَّ سكونه، ورحتُ أطوف في أراضٍ لا زُرّاع لها، وأبياتٍ لا سُكّان بها.. في نهاية طريق، التفَّ الشجر، وشكَّل العشبُ سياجًا يدفع بالمارة ويكبتُ شهوةَ كلِّ متطفل، عدى أنَّ منظرًا كذاك كفيلٌ بإضرام الفضول، كفيلٌ بريِّ حبِّ العزلة وتلبية الأمنيةِ الطفولية الكامنة فيَّ منذ زمان: الاختفاء! وليس العبورُ بالصعبِ ولا المستحيل، عدى أنه ما يخلو من أن ينحني المرء مرةً، يكسرُ فرعًا أو يغزّه آخر مرةً أُخرى، وقد خرجتُ عن الطريق، بعد أمتار ظهر عن يميني جدارٌ عثماني حجري فخم، أكلَ الشجرُ نواحيه، وامتدَّت الجذورُ تسلُّقًا على النوافِذ -أو التي كانت كذلك!-.

وقفت برهةً لا شغلَ لي إلا حدّ النظر في تحفةٍ زمانية خالدة، كانت أبوابه مغلَّقة، فاكتفيتُ أول زيارة بنظرة من الخارج وحسب، في المرة الثانية.. التففت حوله وإذ بنافذة للداخل، تسلّقت ودخلت منها، لأرى أنني في خانِ تجّارٍ قديم -هكذا أظن-؛ في المنتصفِ عمود حجريٌ عريض، كذلك شيء شبيه بخزان للمياه، وبعد أدركتُ وجودَ باب خلفي مفتوح، تطلَّب الأمرُ مني قطع شجيرات وتنحية أخرى، ليكون لي طريق خاص لخانٍ ألجئ إليه متى أردت، وكان لي بعد ذلك مجلس أنهيتُ فيه عدَّة كُتب، والكثير من الشاي والقهوة!

ذاكرة الروحِ وأغنياتُ المكان 6 كارابوك : ذاكرة الروحِ وأغنياتُ المكان

ومرَّ عامٌ هجرت فيه المكانَ لغيره، فلما عدت وجدت البابَ قد كُسِر، وبدأت البلدية أعمالًا تهيئ المكان للسياح -فلا هي أتقنته وجمّلته ولا هي تركته!-. فأسِفت على ذلك أسف الحبيب على فراقِ محبوبه، ورحتُ أتمشى فيه أكاد ألعنُ مَن أراهم هناك، وما أذكرُ أني جلست ذاك المجلس مرةً أخرى.. ليس المكان أرضًا وحسب، المكان حمّال ذكرى، وأنا أغارُ عليه! وليست لذَّتي تلك محصورةً في ذكرى الأرض وحسب، وإنما امتزجَ بها الشعور، فكَم من رواية بكلِّ تداخلاتِها، وكم قصيدة بكلِّ خيباتِها!.. وكم مِن رائحة ولون ونكهة شكَّلت حُبًّا للمكان ما يشتته الزمان على طوله!..

في زياراتٍ أُخر، وكان ذلك يكون غالبًا فترة الصيف، أقصدُ لمسارٍ من مسارات النهرِ أعرفه، يلتفُّ فوقه جبل صخري أشم، وفي جهته الأخرى شجرٌ كثيف، كِلا هذا وذاك: كانا كفيلين بخلقٍ جوٍ لا صيفَ فيهِ ولا حرّ! أَقصِد إلى هناك، وأمشي في النهر لِـحجرة توسَّط ذاك المجرى فأجلس هناك ساعاتٍ كثيرة، لا أنيسَ إلا خرير النهر، وصوت الحجر الذي ما أنفكُّ أعبثُ به، تارةً أضربُ به الجبل وتارة أرمي به في الماء، وكنتُ شديدَ الاحتفاء بمجلسي ذاك، وكالعادة: ما يَصلُّ إليَّ أحد، وما يعرفُ بالمكانِ إنسان، وإلى أن يقترب المغرب .. أمشي مرةً أخرى، عكس التيارِ هذه المرة، إلى أن أصِل الشجرةَ الفاضلة، إذ تساعدني كلَّ مرة!

ذاكرة الروحِ وأغنياتُ المكان 1 كارابوك : ذاكرة الروحِ وأغنياتُ المكان

قريبًا من تلك الأماكن، سوقٌ قديمة مشهورة يقصِدها السُّياحُ مِن كلِ مكان، أدخلُ إليه كل مرة، وأتعجبُ من حسنها كأنها المرة الأولى، تنجح بخلقِ الدهشةِ فيَّ كل مرة، بالرغم من أنه لا جديد فيها. نفس الوجوه، البضاعة نفسها، تختلف الروائح باختلاف الفصول، والألوان تنبضُ باسمِ كلِّ فصل، وجوهُ العجائز وشيبُ الكِبار، كؤوس الشاي مكسوةً جلالَ القِدم، الخشبياتُ العتيقة .. ويلفتني كل مرة نفخ الزَجّاجِ في زجاجه، لأقف عنده متفرجًا كلَّ مرة ببلاهةِ صبيٍ في السابعة، يأخذني هذا المنظر لدمشق، حيث كانت المشاهدة الأولى لهذه الموهبة الفريدة، عبثُ الهواء والنارِ في الزجاجِ عبثٌ مرهف! كذلك في السوقِ دكاكينُ الحِدادة، وأذكر أني لمحت النحاتين أيضًا، وما يخلو السوقُ من العسل، والزعفران، إذ اشتهرت المدينة باسمه فــ”سفران بولو” تعني أرض الزعفران، والزعفران ومستخلصاته كلَّها تنبضُ حياةً في السوق وما يخلو منها متجر، كذلك عرَفت المدينةُ الحلقوم واشتهرت به هذه السوق؛ فاجمَع كلَّ ما حدّثتك عنه واخلق منه لوحةً جلّلها بالرائحةِ والنكهة، وخل نفسك فيها وقد اشتدَّ المطر، في مقهى قديم ترعاه عجوز طيّبة، لون الشاي، عبق البن، زخات المطر، نسمات الليل .. هذه اللوحة جزءٌ من السوق القديمة في سفران بولو..

ذاكرة الروحِ وأغنياتُ المكان 12 كارابوك : ذاكرة الروحِ وأغنياتُ المكان

❃❃❃

والآنَ إلى أين؟ كارابوك مترفة الجمال، ما تطلب إلا أن يعيرها المرء عينًا تعرفُ الجمال، وقلبًا يحنُّ إليه!

أول ربيع هذا العام، قصدتُ طرف غابةٍ شمال سفران بولو، صعدتُ إليها حتى إذا ما أردتُ عمقها صدَّني عن ذاك سور وباب موصَد، تلكأت قليلًا، ومن ثم اقتنعت أنَّ الأرض إن كانت لصاحبٍ فلن يضيره مجرد مشي إنسان فيها، وإن كانت للدولة فبأيِّ حق سجن الشجر؟! جُزتُ الباب، وصعدت حتى علوت قمم الشجر في الأسفل، والغابة تبدأ من سفح الجبل لأعلاه، والحقيقة أني ما كنتُ أعرف مُرادي آنذاك، كان معي في الحقيبةِ كتاب وحلوى، أي أني خرجت من البيت لأقرأ في طرف الغابة، لكن ما راق لي طرفها لقربه من الطريق، فاقتحمت الشجر عُلوًّا حتى اعترضني شجرٌ كثيف، سمعت من خلفه حديثَ رجال، فعجبت لذلك، وقلت علَّهم أصحاب الأرض، بعد بحثٍ مجهدٍ، رأيت مكانًا هو الأقل كثافة، عبرت منه -والحرب بين إنسانٍ وبين شجرٍ يُدافِع عن أرضه بصلابة، حربٌ بوار!-، عبرتُ وإذ بي على طريقٍ ممهدٍ، ولكُم أن تتخيلوا نظرة الناسِ لرجلٍ يخرج للطريقِ من أرضٍ مسوَّرة، ومن بين الشجر؛ في البداية لم أعرف أينَ أنا، حاولت تقريب صورة المكان لأيِّ طريق أعرفه فما أفلحت، واخترتُ آنذاك الصعود مع الطريق، ببساطة: لأنه ساحر!

لا يستغرب الناسُ من رجلٍ يمشي الطريقَ صاعدًا بحقيبة، لكن نظراتهم تلاحق المظهر العام، إذ ما ارتديته آنذاك يصلح لمقهى في حيٍ أنيق، لا للمشي، ولا صعودِ جبل! فتزعجني هذه النظرات، وترتبط بالمكان بطريقةٍ ما .. تشبه أن تكون محاولاتٍ يتعرَّفُ بها الطريقُ زوَّاره، لكنها عابرة والطريق باقٍ، وطالَ آنذاك سيري وما مسَّني تعب، كان الجَمالُ يحملُ طولَ الطريقِ وارتفاعه، وإن صحَّ للمرءِ أن يسيرَ بعينيه فقد كنتُ كذلك؛ امتزاجُ الشجر بعَظمةِ الجبالِ مِن حوله، وتطابقُ الغيمِ فوقَ سلاسِل الجبال! ما أفلحُ والله بوصفِ ذاك البهاء! وكيف أشرحُ لكَم أني -حُبّا- أحتفظُ بصخرةٍ من صَخرِ ذاك الجبل؟ أم كيف أُسمعكم صوت الماء وحفيف الشجر؟ حسبُكم أني -وقد اعتدت ذاك البهاء وعرفته من سنين- ما أنفكُّ أعجبُ بداية كلِّ منعطفٍ منتظرًا جمالًا فريدًا المنعطفَ الجديد!..

ذاكرة الروحِ وأغنياتُ المكان 11 كارابوك : ذاكرة الروحِ وأغنياتُ المكان

بعد ساعةٍ أو أكثر، تذكَّرت مالي ولهذا الطريق، قلتُ في نفسي: هذا طريق المغارة! وقد زرتها راكِبًا قبلَ سنوات فما عرفتُ ملامح الطريقِ كما عرفتها بالمشي، ما تيقنت ذلك إلا عندما قرأت لائحة تنبئُ أنه قد بقي على المغارة ثلاث كيلو مترات.

حينَ وصلت، كان قد بقي على الغروب ساعة وبعض الساعة، ينتهي الطريق بأن يطبقَ جبلان عليه، وفي الملتقى بين الجبلين على ارتفاع عشرين مترًا أو أكثر تكون المغارة، فتصل المدخلَ بعد درجٍ خشبيٍ طويل، والمغارةُ آيةٌ في السِحر، نحتت المدخل أيدي الزمان الخفية، فكأنه بوابة لعالمٍ غير الذي نعرف، يُخيَّلُ إليَّ أنّ ألحان المغارة تشبه ألحانَ القبر، هذه المغارة عميقة تضيقُ طورًا وتتسعُ آخر، ملاسةُ الصخر في جوف الجبل سخرية من صلابته الظاهرة، بعد سيرٍ ما: تتسع المغارة حتى كأنها قاعة لقصرٍ في العصورِ الوسطى، سامقةُ الجدران، أخفّ هواءً، جليلةٌ كل الجلال، مهيبة حقّ للملوك أن يخضعوا إذ ما رأوها، سكون قلبِ الجبل يروي حكايا تتابعت تاريخًا بعد آخر، المغارة خروجٌ من زمانٍ لغيره، والمغارة صورة للعالمِ المقلوب، ومرآة للأرضِ من الداخل، ما يقطعُ سكونها إلا حفيف الخفافيش إذا لجأت من زاويةٍ لأُخرى؛ تسيرُ في سِكَكِها من عَجبٍ لآخر، فإذا انتهيتَ لآخر الطريقِ الممكِن سمعتَ قطرَ الماء في جوفِ المغارةِ المهجور…

❃❃❃

ذاكرة الروحِ وأغنياتُ المكان 10 كارابوك : ذاكرة الروحِ وأغنياتُ المكان

ما ينتهي الحديثُ عمّا تُخفيه غابات المدينة وأماكِنها القصية، لكن للمدينة وجهٌ آخر، مقاهي كارابوك وجهٌ في صفحة الكون، بعض تلك المقاهي تشبهُ أن تكون مشاعل زُيِّنت بها أطرافُ المدينة، أو فوانيس يجتمع حولها الناس أشتاتًا أشتاتًا، كُلٌ لِـما يأتي إليه؛ لَم أكن قبل هذه المدينة من روّاد المقاهي، وما أزال أصنّفها كما أشاء، فمقهى مُنعَّم، وآخر قبر يُسقى أهله البنَّ والشاي! ومقهى يتزِن فيه الحديث والهدوء، وآخر مشتعلُ الصخب! ولي مع المقاهي حديثٌ طويل، لكلٍّ منها وتر مِن أوتارِ هذه الروح…

في الشتاء، نحِنُّ لرائحةِ الحطب بتلقائية، وما تصل المدافئ الحديثة لِمكامِن الروح، وما تجد بدًّا من السيرِ لمقهى هذا تفرَّده: أنَّه يشعل الحطب!

أويت مرةً له، كبارُ السن احتلوا أماكِن عزيزة فيه… وكانت ليلة باهية، غنّت جدرانُ المقهى تلك الليلة؛ الأسلوبُ الغنائي الذي يوحيه كبار السن هادئٌ كالموت، دافئ كالشجى، يبعثر الإنسان .. حتى لَتخرج كل دفقة من دمه محمولة على ذكرى! يضربُ الصوتُ في فراغه ضربَ الرعد في السماء، فيفزع منه الخاشع واللاهي، وينتصب في محرابِ النفس كُلُّ أحد، والصوتُ كيفما فعل تفعلُ نفسك، كُلُّ خاوٍ تصفّرُ في نفسِه المزامير فيهتزُّ لها اهتزاز أراقمِ الهنود!..

هذا الصوت، والرائحة، وأشتات النورِ المُفرَّق.. وجوه الناسِ الذابلة، الملامح الضبابية، همسُ الحضور .. تصنعُ مِن الزيارة ذكرى خالدة، تستعصي على النسيان، تُجتَرُّ بأصغرِ داعيةٍ للذكرى، فعلى فجأة، يهمي على الإنسان حنين مُدهش.. تلك أفاعيلُ المكان!

❃❃❃

ذاكرة الروحِ وأغنياتُ المكان 3 كارابوك : ذاكرة الروحِ وأغنياتُ المكان

إنَّ الحديث عن الأماكن ذوقٌ رفيع، وقراءة مُخلِّدة للوقائعِ الضائعة على سديم الأرض، قراءة مازِجةٌ للمسافاتِ بين الأرضِ والسماءِ في بقعةٍ واحدة، إنَّ الأماكنَ حنّانة! فترى أقل الزيارة اثنتين: الأولى للمعرفة، والثانية حفظًا لحقِ الوفاء! إنَّ مكانًا غمَره الحُبُّ أجلّ مِن الوحشة، أعلى مِن النسيان، بل علّه أوفى من الناسِ .. والأماكن أوفى من أن تغدر بمحب!

وإذا تأملتَ البِقـــــــاعَ وجدَّتهـا

تشقى كما تشقى الرجالُ وتسعَدُ

وانظر إليها تحت عباءة الليل .. تصطنعُ الأماكن الشقاء، وتصنعُ الوحشةَ تخويفًا للمتطفلين على ذكرياتِ الأوائلِ هاجري المكان، حفاظًا على ربيعِ الأماكن المنصرمِ برحيلِ أهله؛ يستميتُ الكونُ لِخلقِ وحشةٍ لِمن ما استلبهم حُبُّ المكان بعد .. إذا أحبَّ المرء، أضاءت له الأرض، وانبعث له الأُنسُ رغمًا عن ركامِ السنين!

كارابوك- 10/6/2024

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى