أدب

أطفالنا والشعر العالي

تجربتان بينهما عقود من الزمان

لا عجبَ أن يتبدَّل فِكر طفل غضِّ العود؛ وقد دخلَتْ إلى قاموسه الصغير مفردات كبيرة، ومعانٍ عظيمة: العصيان والشيمة والصبر .. والهوى والنهي والأمر .. واللوعة والذيوع والسر.

كنتُ في العاشرة عندما اصطحبَتني معلمتي (يسرى) -رحمها الله- إلى غرفة الإدارة في مدرستي (الحرية)، فدخلتُها لأول مرة للتحضير لمسابقة في الإلقاء على مستوى مدينتي (اللاذقية). وخامرني شعور بأني كبرتُ فجأةً وعظُمَ شأني .. كان ذلك أوَّلَ عهدي بالشعر وعوالم الشعراء، يوم كنتُ فتاةً تحبو على بساط العربية، وتتمنطق بإنشاد المعاني التي لا تعرف عنها سوى أنها كبيرة.

ثم أنشدَتني المعلمة أبياتًا من رائيَّة أبي فراس الحمدانيّ:

أراكَ عصيَّ الدمعِ شيمتُك الصبرُ

أمَا للهوى نهيٌ عليكَ ولا أمرُ؟

بلى أنا مشتاقٌ وعنديَ لوعةٌ

ولكنّ مثلي لا يُذاعُ له سرُّ

إذا الليلُ أضواني بسطتُ يدَ الهوى

وأذللتُ دمعًا مِن خلائقهِ الكِبْرُ

وأصغيتُ بقلبي لنغمها، وهِبتها في نفسي، وحبستُ أنفاسي عليها حتى انتهت. وسمعتُ قلبي يقول: الله! وكادت شهقة تخرج من صدري، ووجدتُ عينيَّ تذرفان بصمت مع تفسيرها.

أتساءل الآن: هل أدركتُ وقتها أنك تتحدث إلى نفسك وكأنك شخص آخر من خارج نفسك؟

ومَن منكما الذي قال لصاحبه:

إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى

وأذللت دمعًا من خلائقه الكِبْر؟

وعندما اجتمع أمر الهوى ونهيه عليك، كيف تمردتَ على أمر الهوى ونهيه؟!

ثم كيف عالجَتْك ظلمةُ الليل فكشفَتْ سِترَ عنفوانك، فبسطتَ يدك وتبسطتَ في بوحك؛ أم أنك لم تبح قطّ؟!

وتوالت علامات الاستفهام في نفسي: كيف تُراكَ بسطتَ يدَ الهوى وأنتَ أسير سجنك؟ هل كنتَ تعني أنَّ يد الهوى هي التي أفلتت من قبضتك، فصارت تحكم فتطيعُها، وتأمر فتذلّ لها!

هل كنتَ تهمس، أم نطقتَ كلامًا مسموعًا، أم هو سلطان الصورة والذكرى كتمتَهما حتى استحالا لهيبًا من حبات الدمع قد انفرط عقدها!؟

إذا الليل أضواني..

قرأَتها معلمتي ومضت تُكمل.. ولم أقاطعها!

لم أدرك حينها كم وكم في هذه العبارة من غموض -أو ربما تناقض-؛ إذ وقعت على قلب طفلة صغيرة فتحت عينيها للتوّ على ما في البيان من سحر.

قالت:

– بسطتُ يد الهوى.. 

– وما الهوى يا معلمتي؟ 

– إنه الحب يا عزيزتي. 

– إنَّ الحب لا يأتي منه إلا الخير، أليس كذلك؟ 

بلى.

ربما لو تحدّثتُ بلساني الآن لقلتُ لها:

– وكأني به يقول لهواه الذي بين ضلوعه: لئن بسطتَ إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك..

كانت شيمتك الصبر وكفى .. وأنعم بها من شيمة تُنبتُ كلَّ معالي الحياة. ذكَّرتَني -أبا فراس- بالصبر الجميل، بدموع يعقوب -عليه السلام- التي أغنته عن الشكوى لبشَرٍ قلوبُهم كالحجارة أو أشدّ قسوة .. وجعلْتني أتفكّر في ماء العيون، ذلك الخَلق الرحيم العظيم الذي يتكلم عن صاحبه، ويتنفس له عنه، يسعفه ويفضحه، ويُعزه ويُذله، ويؤنسه ويوحشه، ويُسَكّنه ويَهيجه.

في شرحها، لم تذكر لي معلمتي -رحمها الله- سوى وجه واحد لك -أبا فراس-؛ وجه الفارس الأسير العزيز. أخبرَتني أنّ الهوى الذي أبكاك ما هو إلا الحنين إلى الأهل والأحبة .. لم يُبكك الأسر، ولولا شوقك للقاء العدو لم تحزن على أسر ولم تجزع لفراق.

ولم أعرف من قصيدتك إلا ما لقّنَتني إيَّاه معلمتي -رحمها الله- .. فاكتفيت بالذي ذقتُه منها.

أمّا أبياتُكَ الثلاثةُ الأولى فقد ملأَتْ عليَّ سمعي وخاطري .. ردَّدتُها وردَّدتُها حتى صارت كالنقش في داخلي .. أضمّ عليه وجداني كلَّ ليلة.

وما عرفتُ وصفًا للحب بعد ذلك إلا في صورة الصبر العفيف المتكبر، لا يسأل الناس إلحافًا .. صورةٌ قد غذّتها أبياتك فيَّ أيها الحمدانيّ.

عربي يكتب الشعر أطفالنا والشعر العالي

عند استعدادي للمسابقة، لم أكن بحاجة إلى التدرُّبِ على ذلك الإلقاء المتكلّف الذي اعتاده الطلاب على كل منبر.

إنّ عبارتَك عذبة في شمم، وقوية في رقة..

فكيف سألقيها في مسابقة مدرسية نمطية، وأمام لجنة تحكيم اعتادت ذلك التصنع السخيف، والإيقاع الرتيب الذي تصفق له الأيدي بحرارة، ولو منطفئة من الشعور؟!

وعزمتُ على إنشادها بقلبي قبل لساني.

أبا فراس .. أيها الكريم:

لم تنته قصتي مع قصيدتك بعد فوزي في تلك المسابقة، بل بقي اسمك يحرّك شيئًا في نفسي كلما ذُكر .. وعلمَتْني كلماتك التي أنشأتَها قبل أحد عشر قرنًا كيف يكون الصبر بالتصبر.. وعلّمَتني فوق ذلك أنّ طاقة الكلمة العالية تبقى فيها كالروح لا تفنى ولا تنزل.

لقد اختلطت في نفسي الذكرى بالحاضر.

أبا فراس .. كم أراني أشبهك الآن بعد أن عصتني دموعي واستعصت عليّ بصبري .. كنتَ رجلًا وفارسًا ومحبًا .. وكنتُ طفلة ثم شابةً فحبيبةً وأمًّا .. قد جمعَنا وافِرُ الكرامة وكِبْرُ العَبرة، أعظم ما في الإنسان وأرق ما فيه. ولم يزل فؤادي يتنقل بين الشعراء، ثم يعود للحبيب الأول: أبي فراس!

علِّموا أطفالكم الشعر العالي، وهو سيتولى تعليمَهم العربية، والأدب، والأخلاق، والدين.

مرت الأيام والسنوات والعقود .. تغيّر الزمان، وبعدت الشقة، وثقلت الألسنة وقصر الانتباه!

وأعدتُ التجربةَ مع طلابي الذين تتراوح أعمارهم بين الثامنة والحادية عشرة .. من خلال ميميّة الفرزدق الشهيرة في مديح زين العابدين -رضي الله عنه- (وقصتها معروفة)، والتي يقول في مطلعها:

هذا الذي تعرفُ البطحاءُ وطأتَهُ 

والبيتُ يعرفُه والحلُّ والحرمُ 

هذا ابنُ خيرِ عبادِ اللهِ كلِّهمُ 

هذا التقيُّ النقيُّ الطاهرُ العلمُ 

هذا ابنُ فاطمةٍ، إن كنتَ جاهلَهُ 

بجدِّهِ أنبياءُ اللهِ قد خُتموا 

وليسَ قولُكَ: مَن هذا؟ بضائرِهِ 

العُربُ تعرفُ مَن أنكرتَ والعَجمُ

لقد خشيت على تلك القلوب الغضة من سيل المعاني الذي تحدَّر على عقولهم، فملأت صورُه خواطرَهم .. البطحاء والوطأة والحل والحرم، والتقى والنقاء والطهر والعلم، والضير والإنكار والعرب والعجم..

مرادفات وأضداد وأعلام قد اجتمعت في ساعة من نهار!

إذا قلتَ الحِلّ والحرم فقد جمعتَ الأرض في كلمتين ..

وإذا ذكرتَ صلةَ أنبياءِ اللهِ بخاتَمهم فقد استغرقتَ بهمُ الزّمان.

لقد أنصتوا إليّ وعيونهم معلَّقة بين وجهي ويديّ اللتين تتحركان على إيقاع الكلمات. وتواترت أسئلتهم واستفساراتهم .. ولا بد أن بذرة تلك المعاني قد استقرت في مخيلتهم، ولن تلبث أن تنمو رويدًا رويدًا في قادم أيامهم، ليذكروها كلَّما مرَّتْ أمام أعينِهم سطورُ البيان.

ثنّيتُ وثلّثتُ بعد ذلك بمختارات من الحكايات الشعرية من ديوان الشوقيات (لأحمد شوقي) .. الكلب والحمامة، الفأرة والقطة وقصائد أخرى..

أحبوها كثيرًا، وكأنها حلَّت عقدة ألسنتهم، وأبانت عمَّا في نفوسهم .. وصارت نغمًا في ذاكرتهم السمعية يصعب نسيانه.

إنّ أركان عملية التعلم ثلاثة: متعلم ذو قلب نقي حاضر، ومعلم محب أمين جذّاب الأسلوب، ومادة قوية عالية.

أمَّا الشِّعر فيُعوَّل فيه على قدرة المشاعر على إيعاب المعاني بالسمع والبصر، وعلى جرس الحروف ونبض الكلمات، ووقع القوافي على النفس والقلب.

فانقشوا على صفحة الطفولة ما استطعتم من البيان العالي، واعلموا أنّ أثر جمال العربية في نفوس الأطفال يلامس موضعًا ينادي في أعماقهم: “إنَّ اللهَ جميلٌ يحبُّ الجمال”.

مقالات ذات صلة

‫4 تعليقات

  1. من الجميل أن يجتمع في النص المصطلحات الأدبية العميقة مع الانسيابية في السّرد
    طريقة سرد مريحة وممتعة ومنظمة جداً
    بارك الله فيكِ ونفع بك وسلمت أناملك على ما كتبت ♡

  2. سردك جعل المشهد حي كأني أراه أمامي❤️
    صدقتي عندما لخصتي أركان التعلم بثلاث وفقك الله لما يحبه ويرضى دائماً تثبتي لنا أن قدرتك على الابداع لا حدود لها تبارك الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى