أدب

أبو محمَّد الأنصاري والجهاتُ العشر:

«أعلامُ هدًى على دُرُوبِ الإعراب»

لا يُداني أحدٌ سِيبَوَيْهِ في كمالِ الأسلوبِ، ودقّةِ العبارةِ، وجودةِ سبكِ ما يَصمُدُ إليه من أبوابٍ، ويُؤسِّسُ من قواعدَ، إلّا ابنَ هشامٍ الأنصاريَّ، الإمامَ النحويَّ المتأخِّرَ، فهو جالسٌ على عرشِ العبقريّةِ، رِفقةَ الإمامِ الأوّلِ من هذه الجهةِ، ومُنتَظِمٌ في سلكِ أفذاذِ الصناعةِ، ممّن رَزَقَهُمُ اللهُ قَريحةً نادرةَ المثالِ!

ومن نَظَرَ في كُتُبِه، وما انطَوَتْ عليه من علمٍ عظيمٍ، ثم دقَّقَ وحقَّقَ = عَلِمَ صدقَ هذا القولِ، ووقَفَ على بُرهانهِ.

وأَحسَبُ أنَّ هذهِ الدِّقَّةَ العجيبةَ في وَضْعِ الحرفِ موضِعَهُ، والحِيطةَ والأناةَ في تأسيسِ الكلامِ، وتشقيقِ العبَارة، هي التي بَعَثَتْ في نُفوسِ النُّظّارِ وَصْفَهُ بصفاتٍ مُشرقةٍ، ونَعْتَهُ بما هو أهلٌ له على التحقيقِ.

كقولِ أبي زيدٍ الإشبيليِّ(1):

«..ويمثّل أيضا علم العربيّة من كتاب سيبويه وجميع ما كتب عليه وطرق البصريّين والكوفيّين والبغداديّين والأندلسيّين من بعدهم وطرق المتقدّمين والمتأخّرين مثل ابن الحاجب وابن مالك وجميع ما كتب في ذلك كيف يطالب به المتعلّم وينقضي عمره دونه ولا يطمع أحد في الغاية منه إلّا في القليل النّادر مثل ما وصل إلينا بالمغرب لهذا العهد من تآليف رجل من أهل صناعة العربيّة من أهل مصر يعرف بابن هاشم ظهر من كلامه فيها أنّه استولى على غاية من ملكة تلك الصّناعة لم تحصل إلّا لسيبويه وابن جنّي وأهل طبقتهما لعظم ملكته وما أحاط به من أصول ذلك الفنّ وتفاريعه وحسن تصرّفه فيه. ودلّ على أنّ الفضل ليس منحصرا في المتقدّمين سيّما مع ما قدّمناه من كثرة الشّواغب بتعدّد المذاهب والطّرق والتّآليف ولكنّ فضل الله يؤتيه من يشاء. وهذا نادر من نوادر الوجود»

فالنَّاظِرُ في هذا النَّصِّ يَعلَمُ أنْ ليسَ باعثُ القولِ في أصلِ «العبقريّةِ» عِلم الشَّيخِ بالنَّحوِ، وما تُبديه تصانيفُهُ المُصنَّفةُ في الأبوابِ بادِيَ النَّظرِ، وإلّا فالنُّحاةُ القِمَمُ في عصرِهِ كثيرون، والعَارفونَ بهِ مُتوافِرون؛ إنّما الأمرُ شيءٌ فوقَ هذا كُلِّهِ، وقد فَطِنَ لهذا الملحَظِ الأديبُ الكبيرُ شوقي ضيف، إذ يقولُ:

«وقد تحوَّل يتعمَّقُ مذاهب النحاة، وتمثلها تمثلاً غريباً نادرا، وهي مبثوثة في مصنفاته مع مناقشتها وبيان الضعيف منها والسديد، مع إثارته ما لا يحصى من الخواطر والآراء في كل ما يناقشه وكل ما يعرضه»

ويقول أيضا عن مصنَّفاته: «وهو يمتاز فيها جميعا بوضوح عبارته، مع الأداء الدقيق إلى أبعد حدود الدقة، مسهبًا مطنبًا، أو موجزًا مجملًا»

وإن شِئْتَ، فانظُرْ في البابِ الخامسِ من كتابِهِ الفخْمِ «المُغنِي»، الذي أسماهُ بـ«ذِكْرِ جهاتٍ يَدخُلُ على المُعْرِبِ الاعتراضُ من جهتها»، ترَ عِلْمًا أُسِّسَ على هُدى، وذَكاءً استولى على الأَمَدِ، ودِقَّةً فَذَّةً تستخرجُ الخَبْءَ من نُفوسِ الأشياءِ، ثم تأليفًا للمَسائلِ على طريقةٍ مُعجِبَةٍ باذِخةٍ، كأنَّه أُوتِيَ مُلكًا على رِقابِ الكلامِ!

ثم انظُرْ  إليه تارةً أخرى كيف صنعَ في تَسميةِ البابِ تسميةً مُحكَمةٍ تَحوطُه من جِهاتِهِ، وتأتي على المُرادِ كلِّهِ من غيرِ نَقْصٍ ولا خَلَلٍ، إذْ لم يَقُلْ: «أغلاطُ المُعْرِبينَ» أو «أخطاءُ الإعرابِ» أو «مواضعُ الزَّلَلِ»… وما شاكَلَ هذه العُنواناتِ التي لا تَنفُذُ إلى باطِنِ السَّبَبِ، ولا تَقِفُ على أصلِ العِلَّةِ، ولا تَصِفُ الدَّاءَ على صُورتِهِ، إذ قال: «الجِهاتُ التي يَدخُلُ الاعتراضُ على المُعْرِبِ من جِهتِها»، وهو عنوانٌ لو وَزَنْتَهُ بأبوابٍ طِوالٍ= لَرَجَحَها في البَيانِ، وأَفصَحَ عنها في الغايةِ، وأَحْكَمَ منها في التَّقسيمِ والإحاطَة.

ففي لَفْظِ «الجِهاتِ» تَنْبيهٌ على أنَّ الأغاليطَ، أو ما دونَها، لا تَقَعُ للمُعْرِبِ اتِّفاقًا، ولا تَنبثِقُ عن خَلَلٍ عارِضٍ، بل تَتَناهَبُها «مَسالِكُ عَقليَّةٌ» و«مَنازِعُ ذِهنيَّةٌ»، كلُّ مَسْلَكٍ منها مَظِنَّةٌ للوُقوعِ في حَمْأَةِ الخطأِ، ومَجْرى من مَجارِي الوَهْمِ. ثم إنَّ هذه «الجِهة» هنا ليست كلمةً صُورِيَّةً جِيئَ بها كما اتَّفَقَ، بل هي إبانةٌ فكريَّةٌ مُشرِقةٌ، تُبِينُ عن الوجهِ الذي يَنصَرِفُ إليه فِكرُ المُعْرِبِ، ويُؤُمُّ شَطْرَهُ حينَ يُنشِئُ حُكمَهُ، فكلُّ جهةٍ من هذه العَشْرِ، مِرآةٌ لها جهتانِ اثنتانِ:
فصافِيَةٌ تُظهِرُ وجهَ النَّهارِ، ومُعتِمَةٌ تُغَشِّي بَصيرَةَ النَّاظِرِ، وتُظِلُّه وَجْهَةَ رَوْقِهِ.

ثم لم يَقُلْ «الخطأَ»، بل هُدِيَ بذَوقِهِ إلى لَفْظِ «الاعتراضِ»، وهي كلمةٌ ذاتُ قِسطٍ وعَدْلٍ، لا تُسَفِّهُ الرَّأيَ، ولا تَأتي عليه بالإفساد من الأساسِ، بل تُنزِلُهُ مَنزلةً أَدْنَى من التي هي أَهدى وأقوم سَبيلًا، فمُعالِجُ الإعرابِ هنا لا يَتلبَّسُ بالخطأِ على كُلِّ وجهٍ يَأتيهِ أو يَحكُمُ فيه رَأيَه، ولكنَّه قد يُصْرَفُ عن طَريقٍ لاحِبٍ، هو أتمُّ في الصِّناعةِ، أو أَرسَخُ في المعنَى، أو أَلصَقُ بمَنطِقِ العربيَّةِ، إلى  التخبط في بُنَيِّات الطريق!

ثم أَسنَدَ «الاعتراضَ» إلى المُعْرِبِ، لا إلى أصلِ الكلامِ، ولا إلى نَفْسِ الصِّناعةِ، فقال: «يَدخُلُ الاعتراضُ على المُعْرِبِ»؛ إذ لا تَنحصِرُ غايَةُ الأمرِ عندَهُ في نَظْمِ الكلامِ، بل في النَّاظِرِ المُعالِجِ لذلك النَّظْمِ، من جِهَةِ أنْ يُعمِلَ فِكرَه، ويَرُوضَ نَفْسَهُ على الرَّوِيَّةِ، وحُسْنِ التَّدبُّرِ، وإلَّا أوقعها في الهَلَكةِ، واقتَحَمَ بها طريقَ المَزَلَّةِ.

زيدية الديلم 4 أهل البيت، والأمة في فكر زيدية الديلم 01 01 أبو محمَّد الأنصاري والجهاتُ العشر:

وهذه الأخلاقُ: «رَوْضُ النَّفْسِ على الرَّوِيَّةِ»،«وحُسْنُ التَّدبُّرِ»، «والصَّبرُ على تَفَهُّمِ المعاني الشَّريفةِ» = أخلاقٌ تَلزَمُ مَن يَصمُدُ للكلامِ في أيِّ بابٍ من العلمِ شِئتَ، أنْ يَتخلَّقَ بها، وأن يوطِّن عليها نفسه، وأن يَجعلَها قانونًا ونِظامًا يَعتصمُ به، عندما يَضيقُ المَسلَكُ، ويَدِقُّ النَّظَرُ، فهي أَوَّلُ الطريقِ الذي يَهدي صاحبَهُ إلى الفَهمِ الصَّحيحِ، ويَحُوطُهُ من الارتِكاسِ في حَمْأَةِ القولِ الكَسِيحِ، والرأيِ الخَديج.

و«المُعْرِبُ» على التَّحقِّيقِ= مُتَذَوِّقٌ للكلامِ، عارفٌ بطَرائِقِهِ، فَقِيهٌ بحَقيقَةِ البَيانِ البَليغِ، قبلَ إحكامِهِ لصَنعَةِ النَّحوِ، وما تَنبَنِي عليه من نُظُمٍ، وأقْيِسةٍ، وتَعالِيلَ، فإنَّ قلبَ النَّحْويِّ أَجْدَرُ القلوبِ بمعرِفَةِ مَنابِتِ الأقوال البَليغَةِ، وأصلِ النَّبعِ الذي سالَتْ منه أودِيَةُ الكَلِمِ الحَسَنِ، ومَحَلِّ الحَرْفِ الباذِخِ من الحديثِ المُورِقِ، والطَّريقةِ التي يَمُرُّ بها عليه لِيُثيرَ ما كَمُنَ فيه من دُرٍّ، وما انطوى عليه من جَمالٍ.

وهذا الذي أَعْنِيْهِ، وأُحَرِّضُ عليه، هو الدَّليلُ الصَّادقُ الآخِذُ بيدِ صاحِبِهِ إلى حيثُ تكونُ الثَّمرةُ النَّضيجُ، والتي لا تُنالُ إلّا بــ «الحذق في العلم والتّفنّن فيه والاستيلاء عليه»(2)  وذلكَ لا يكون إلا  «بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله. وما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفنّ المتناول حاصلا.

وهذه الملكة هي في غير الفهم والوعي. لأنّا نجد فهم المسألة الواحدة من الفنّ الواحد ووعيها مشتركا بين من شدا في ذلك الفنّ وبين من هو مبتدئ فيه وبين العاميّ الّذي لم يعرف علما وبين العالم النّحرير. والملكة إنّما هي للعالم أو الشّادي في الفنون دون من سواهما فدلّ على أنّ هذه الملكة غير الفهم والوعي»(3)

ولشَيخِنا الجليلِ «محمَّد أبو موسى» -حفظَهُ اللهُ وأمتعَ به- كلامٌ مُشْرِقٌ، أُحِبُّ أنْ أُثبِتَهُ لَكَ في هذا الموضعِ، وأُحِبُّ مِنكَ أنْ تَقْرَأَهُ قِراءةَ مَن يَجْتَهِدُ في طَلَبِ الهِدايةِ! يَقولُ:

«أردت أن أؤكد أن الذين عالجوا نقل المعرفة من جيل الى جيل على الوجه الأفضل والأشمل والأمكن هم الذين طوروها من خلال هذه المعالجة وقد بذلوا فى ذلك جهودًا لا تقل عن جهود الذين استنبطوا واستخرجوا وأنهم كانوا يعانون التغلغل فى أعطاف المعرفة وفى جوهر المعرفة تغلغلًا يكشف لهم خباياها وسرها وفقهها وأن زماننا حرم من هذا الصبر والانقطاع وطول الملازمة وكل ذلك وما هو أكثر منه واجب فى تقريب العلوم واستمرار تيارها وتفاعلها وفعلها فى أجيال العامة والخاصة ومن الخطر أن يتوقف هذا التيار وخصوصًا بعد هجمات التغريب التى دخلت العلوم العربية والاسلامية وهى فى أحضان المخلصين لها.

الأصل أن يجتهد المشتغلون بعلم البلاغة فى زماننا اجتهاد عبد القاهر والزمخشري والرازي وأبو يعقوب وابن الأثير وابن أبى الأصبع وغيرهم وأن يجتهد النحاة اجتهاد الخليل وسيبويه ويونس والأخفش والصرفي وأبى على وأبى الفتح وأن يجتهد الفقهاء اجتهاد مالك والشافعي وأحمد ومن فى طبقتهم ولا يكون ذلك إلا بالانقطاع والصبر وطول الملابسة والصدق والإخلاص وهذا هو الطريق الذى لا طريق للناس سواه فى تطوير المعرفة ونموها وازدهارها وليس باللغو الكاذب الذى تراه من حولك وتسمعه.

وهذا الاجتهاد وهذا الصبر وهذا الإخلاص وهذا الصدق هو الذى تتخلق فى محيطه النقي الصادق عبقريات لا غنى لحياة الناس عنها وأن يكون ذلك فى كل ميادين المعرفة وإن لمن الشيء الذى يجب أن نتوقف عنده بحذر وخوف هو أن تنقطع سلسلة النجوم فى أى فرع من فروع المعرفة حتى لا نرى نابها مع كل عقد من الزمن فى كل باب من أبواب العلم.

إنه لمن المخيف بل والمرعب أن تنسى حياتنا ظهور النوابغ, وأن تغفل عن صناعتهم وأن تكون جامعتنا كالأرض الخراب ليس فيها إلا أصداء أصوات الآخرين فى كل فروع المعرفة وليس لهذا كله علة إلا علة واحدة هى أننا نسينا مذاهب العلماء فى الانقطاع لطلب العلم والصبر على ملازمة الدرس والمراجعة والصدق النقي فى طلب وجه الصواب وتخليص النفس من كل شيء إلا لهذا ولم تضع يد لبنة فى بناء المعرفة فى أي باب إلا بالصبر وطول المراجعة وطول الانقطاع والصدق وهؤلاء فى تاريخنا هم الشراة الذين اشترى الله منهم أنفسهم .

وهذا الانقطاع الواجب الذى لا بد أن يكون فى جمهرة الدارسين فى كل فرع من فروع المعرفة ليس من الترف وإنما هو من الواجب الذى لا سبيل إلى التخلي عنه وذلك لأن طبيعة المعرفة لا تكشف لنا عن جوهرها المكنون إلا بهذا الصبر وهذا الانقطاع وأن عبد الله بن محمد بن عيسي الأندلسي الذى كان يختم كتاب سيبويه كل خمسة عشر يوماً لم يكن عابثاً ولم يقتل فراغه بذلك وطول المراجعة لكتب العلماء تكشف جوانب؛ لأن مدد العلم لا ينقطع وشريعته دائماً زرقاء -كما يقول عبد القاهر- يعني فيها الجديد لكل من طلب العلم على وجهه ووجهه هو الانقطاع والصدق والصبر.

ومعنى قولهم أن العلم لا يؤتيك بعضه إلا إذا أتيته كلك أن العلم إذا أعطيته بعضك لا يعطيك شيئاً وما طالت مراجعاتي لباب إلا تكشفت به وجوه من المعاني لم تكن قبل طول المراجعة وتحصيل العلم وحده هو الخطوة الأولى والدرجة الأولي التى يجب أن يقف عليها عامة الناس وخاصتهم ثم تأتي المراقى بعد ذلك مرقاة فوق مرقاة وتمتد بامتداد الحياة وامتداد المراجعة والانقطاع والصبر والصدق. هذا هو العاصم الذي يعصم عقل الأمة من الانزلاق فى مستنقع التبعية الفكرية التى تري كثيراً منا غارقاً فيها وهو مغتبط بتبعيته وعبوديته لعدوه الألد. ولله فى خلقه شئون»(4)  انتهى.

وهذا معنًى لطيفٌ حَسَنٌ، وهو آكَدُ ما يَجِبُ أنْ يَتَأَمَّلَهُ طالِبُ العِلمِ، ويُنفِقَ فيه وجهَ نَهارِهِ وآخِرَهُ، وهو مع ضَرورَتِهِ، فقد جَسا عنه أكثرُ مَن تَرى!

محمَّد الأنصاري والجهاتُ العشر أعلامُ هدًى على دُرُوبِ الإعراب 01 2 أبو محمَّد الأنصاري والجهاتُ العشر:

❃❃❃

ثُمَّ يُكمِلُ الإمامُ في سَبْكِ حُرُوفِ البابِ، فيقولُ: «مِن جِهَتِها»، فانظُرْ كيف خَصَّ كُلَّ اعتراضٍ بجِهَةٍ تَصدُرُ عنه، ويَعتاصُ الأمرُ على الناظرِ مِن قِبَلِها؛ إنْ هو عُرِيَ من النَّظَرِ، وأسلَمَ نَفسه لأوَّلِ خاطِرٍ، فالشيخُ يَعمَلُ عَمَلَ المنارةِ الهاديةِ في دِيْجُورِ الليلِ، والنَّجم المُخرِج رفيقه من التِّيهِ، والخَطَّاطِ المُبدِعِ إذ يُبدِعُ خُطُوطًا تَهدي إلى معالِمِ الطريقِ، فرَحِمَ اللهُ أبا محمَّدٍ، ما كان أَدَقَّ بَصَرَهُ، وأَنفَذَ بَصيرتَهُ، وعظيمَ اقتِدارِهِ على بِنَاءِ الكلامِ على أُصُولٍ مُحكَمةٍ تَفيضُ بالعبقريَّةِ!

وأمَّا قَولُهُ أوَّلَ الأمرِ: «الجِهاتُ العَشْرُ» فما ظفَرْتُ بفَصْلٍ هو أَجمَعُ للغَرَضِ، ولا أَنفَذَ في طَرائِقِ الصَّنْعةِ، ولا أَبلَغَ دَلالةً على أُصُولِ النَّظَرِ، والتَّنبيهِ على مَحَلِّ الإشكالِ، من هذه الأصول العَشْرِ التي ساقَها الإمامُ، وضمَّنها كتابِه العظيم «مُغني اللَّبيب»(5)  وهي جهاتُ لو وَعَتْها القُلوبُ على التَّحقيقِ، وأَعمَلَتِ العُقولُ فيها الرَّوِيَّةَ، لانْدَفَعَ عنها أكثرُ الزَّلَلِ، وانكَشَفَ بها من غُمَّةِ الأغاليطِ الشَّيءُ الجَليلُ.

فليستْ هي بالعلمِ الساذج من علمِ النَّحوِ ومَنطِقِهِ، ولا هي مِن جُملَةِ قَوالِبِ الصَّنعةِ الجافَّةِ التي تَنظُرُ في ظاهرِ الكلامِ، ولا تَنفُذُ إلى العُروقِ منه، بل هي مَفاتيحُ مُذَهَّبةٌ، تَفتَحُ أبوابًا باذِخَةً إلى مَنطِقِ اللِّسانِ العربيِّ، ومَصابيحُ تضيءُ عَتمةَ المعنَى، وتَفتِقُ عن مَسالِكِ البيانِ، كما تُفتَقُ للرُّوحِ المُبارَكةِ هدايات وبصائر.

وقد أَحاطَ بها الإمامُ إحاطةَ حسنةً، فلم يَذَرْ شارِدَةً ولا وارِدَةً من مَواضِعِ الخَلَلِ التي يُظنُ أن يؤتى من قبلها المُعْرِبِ إلَّا أَحصاها، ثُمَّ أَخَذَ في تَرتيبِها تَرتيبًا دقيقًا، ينشق لمن عقد عليها خِنْصِرَه عن سِرٍّ وحِكمةٍ، وسَبَكَها سَبْكًا لم يُسْبَقْ إليه، لا في جَودَةِ الإحكامِ، ولا في حُسنِ الإتيان بالمِثالِ.

والنَّاظِرُ في هذه الجِهاتِ، يَقِفُ على ذَكاءٍ وفِطنةٍ، وفَهْمٍ نافِذٍ، وقَريحةٍ سَيَّالَةٍ، غاصَتْ في بَحرِ العربيَّةِ، فاستَخرَجَتْ بلُطْفٍ دُرَرًا كانتْ في خَبْءٍ واحتِجابٍ، وأَثارَتْ من العِلمِ جَليلَهُ وأُصُولَهُ، فلم يَخدَعْها ظاهرُ الصَّنعةِ عن باطِنِ المعنَى، بل آخَتْ ما بينَ الصَّنعةِ والمعنَى، وزاوَجَتْ بينَ النَّحوِ والبَلاَغَةِ، وصاغَتْ من الذَّوقِ قانونًا ناطِقًا يُحتَكَمُ إليه.

وليسَ بمُستَغرَبٍ أنْ تَكونَ هذهِ الثَّمرةُ من غِراسِ أَبي محمَّدٍ؛ فقدِ اجتَمَعَ له من مَآثِرِ المدرسةِ النَّحْويَّةِ الأولى، وما وَرّثَتْهُ من عِلمٍ، ما جَعَلَهُ في جُدَدٍ من الفَهْمِ، وحُسْنِ إتيانٍ للكلامِ، فهو وارِثُ سِيبَوَيْهِ وعِلمِه، وطَريقَتِهِ في مُعالَجَةِ دَقائقِ الصَّنعةِ، وتِلميذُ عبدِ القاهِرِ في فِقهِ النَّظْمِ والدَّلالةِ(6) ، ونَظيرُ ابنِ جِنِّي في طِبِّه للمعاني ومُلاطَفَتِه لها، واستِنطاقِ صامِتِ اللَّفظِ، حتَّى يَشيَ بما تَحتَهُ من شائِقِ المعنَى.

وفي هذهِ القَواعِدِ أبوابٌ من أَقوَمِ ما يُبتنَى عليهِ النَّظَرُ، ويُورِثُ الطَّالبَ الحَزَامَةَ(7): مِنها: «ما يُفَرِّقُ بينَ الصِّفَةِ الرَّاسِخَةِ والعَارِضَةِ»، «ومِنها: ما يُبَيِّنُ دَرَجاتِ المَعْنَى من جِهَةِ الأصْلِ والفَرْعِ»، «ومِنها: ما يُحَذِّرُ مِنَ الوَهْمِ في استِدراكِ العَلاقاتِ النَّحويَّةِ»، «ومِنها: ما يُرْشِدُ إلى مَواضِعِ التَّأْوِيلِ الفاسِدِ إذا خَلا من قَرِينَةٍ ناطِقَةٍ».

فقد كان -رَحِمَهُ اللهُ- على بَصيرَةٍ بأسرارِ النَّظْمِ العربيِّ، يَزِنُ كُلَّ لَفْظٍ بميزانٍ لا تَطْفِيفَ فيه، مُؤَسِّسًا حُكْمَهُ على مَنطِقِ اللِّسانِ، لا على الظَّاهِرِ منه، فكان إذا حَكَمَ، أَحْكَمَ، وإذا قَعَّدَ، رَسَّخَ، وإذا نَظَرَ، نَفَذَ إلى اللُّبَابِ.

وبهذه البَصيرَةِ التي أُوتِيَها، نَهَجَ نَهْجًا قَيِّمًا في تَرتيبِ هذه الجِهاتِ العَشْرِ، وهي -على ما فيها من إيجازٍ يُظَنُّ به القِصَرُ- إلَّا أنَّه نَهْجٌ مُحكَمٌ، عالِمٌ بانِيهِ بمَراتِبِ الزَّلَلِ، وبِنْيَةِ الرَّأيِ في صِناعَةِ الإعرابِ، ومَهاوِي الغَلَطِ التي يَتَوَرَّطُ فيها فِكْرُ المُعْرِبِ؛ لا على جِهَةِ التَّقديرِ العارِضِ، ولا العَبَثِ المُسْتَرسِلِ، الخالِي قَلْبُ حامِلِهِ من استيعابٍ وفَلْسَفَةٍ، بل على قانونٍ دَقيقٍ، يَجِدُ فيه الطالِبُ ريحَ العَقلِ الفَلْسَفِيِّ، والنَّفَسَ الحُلْوَ لمَنطِقِ العربيَّةِ القَديمِ، القائِمِ على قَوانِينِ البَلاَغَةِ والإعرابِ، لا على قَوانِينِ الإعرابِ وَحدَها.

وهذا المَنطِقُ هو الذي يَضَعُ كُلَّ قاعِدَةٍ مَوْضِعَها من نِظامِ العِلْمِ، ويقيمها على نَهْجٍ يُغْري الفِكْرَ باتِّباعِه، ويَكبَحُ الخاطِرَ الأوَّلَ عنِ التَّسَلُّلِ في طَيَّاتِ الوَهْمِ، والسُّقوطِ في رَدْخَةِ خَبَالِهِ!

ثُمَّ ذَهَبْتُ أَتَفَكَّرُ في العِلَلِ والدَّواعِي التي مِن أَجْلِها سَلَكَ الشَّيخُ هذا المَسلَكَ في تَرتيبِ هذه الجهات العَشْرِ، فَقَفَلْتُ، وقدِ انشَقَّتْ لي عن هذا التَّفَكُّرِ عِلَلٌ ومَقاصِدُ:

الأوَّلُ: قَصْدُهُ إلى نَسَقٍ من التَّركيبِ والتَّرتيبِ، يَجمَعُ بينَ مِعيارٍ عَقلِيٍّ وآخَرَ نَقلِيٍّ، فلم يُلْقِ القَواعِدَ العَشْرَ إلقاءً كَيفَما اتَّفَقَ، وإنَّما نَظَمَها نَظْمًا حَسَنًا بَديعًا: مِنَ الدّاخلِ إلى الخارِجِ، ومِنَ الأصلِ إلى الفَرْعِ، ومِن أَخطرِ مَوْضِعٍ إلى الأخفِّ منه، كأنَّه يُنَبِّهُكَ إلى أنَّ الخَطَأَ الذي يَعتَرِضُ للمُعْرِبِ في عَمَلِهِ، ليسَ سَواءً، بل يَتَفَاوَتُ بحَسَبِ مَوطِنِهِ من الفِكْرِ:

فمِنهُ ما يَقَعُ في أَصلِ النَّظَرِ، ومِنهُ ما يَقَعُ في تَرجِيحِ الوَجهِ، ومِنهُ ما يَنشَأُ عن وَهْمٍ في السِّياقِ، أو تَغافُلٍ عن شَرطٍ، أو ضَعفٍ في التَّميِيزِ بينَ المُحْكَمِ والمُتَشابِه.

فجَعَلَ الخَطَأَ الأوَّلَ رَأْسًا؛ لِأَنَّه أَخطرُ مَداخِلِ الزَّلَلِ، لا مِن جِهَةِ الشُّيوعِ فَحَسْب، بل مِن جِهَةِ أنَّه زَلَلٌ في الميزانِ العَقْلِيِّ نَفْسِهِ: أنْ يُقَدِّمَ المُعْرِبُ صُورَةَ الصِّناعَةِ على حَقيقَةِ المَعْنَى، فيَنطِقَ بما لا يَقصِدُهُ، ويَزِنَ الكَلِمَةَ بظاهِرِها دُونَ مَقصِدِها.

ولهذا، فإنَّ كُلَّ ما بَعدَ هذه الجِهَةِ يَرجِعُ إليها -تَفريعًا، أو اشتقاقًا، أو مِثالًا- فهي القاعِدَةُ الكُبرى في هذا البابِ، بل هي أَصلُ أُصُولِ فَسادِ الإعرابِ، ولِذَلِكَ صَدَّرَ بها.

الثاني: عن سِرِّ ابتِدائِهِ هذه الجِهاتِ العَشْرَ بجِهَةِ: «مُراعاةِ ظاهِرِ الصِّناعَةِ دُونَ المَعْنَى» -وهو فِعْلُ رَجُلٍ حاذِقٍ، كما أَعلَمتُكَ- إذْ يَصْمُدُ لأوَّلِ وَهْمٍ، وأَخطَرِهِ، يَقَعُ فيه المُبْتَدِي والمُتَمادِي معًا، فأَبانَ عن وَجهِ الخَطَأِ فيه خَيرَ بَيانٍ، وضَرَبَ له الأَمثولاتِ، ووَضَعَ اليَدَ على الكُوَّةِ التي يَطَّلِعُ مِنها الوَهْمُ وتطل منه الأغالِيطِ.

لو ماتت اللغة العربية؟ أبو محمَّد الأنصاري والجهاتُ العشر:

ومِن قَبلُ هذا، صَنِيعُهُ بِعَنْوَنَةِ هذه الجِهَةِ يُذَكِّرُكَ أنَّ: الصِّناعَةَ النَّحْوِيَّةَ صِناعَةٌ لَها أَركانٌ، لا يَكونُ قَصْدُ السَّبِيلِ فيها إلَّا بِتَمامِها جَميعًا؛ فمَن لم يُرَبِّ نَفْسَهُ على أنَّ الصِّناعَةَ خادِمَةٌ للبَيانِ لا مُهَيْمِنَةٌ عليه، وَقَعَ -لا بُدَّ- في هذا المَأزِقِ، وصارَ يَنطِقُ الإعرابَ نُطقًا فاسِدًا، يُطفِئُ حَرارَةَ المَعْنَى ووَهْجَهُ!

جاءَ في «اللسان، مادة «ع رب»»: «الإعراب الذي هو النحو إنما هو الإبانة عن المعاني بالألفاظ».

قال عبد القاهر: «استدلال على أن «النظم» هو توخي معاني النحو، وهو مهم: وفساد هذا وشبهه من الظنِّ، وإنْ كان معلومًا ظاهرًا، فإنَّ ههنا استدلالًا لطيفًا تكثر بسببه الفائدة. وهو أن يُتصَوَّر أنْ يعمَدَ عامِدٌ إلى نظْم كلامٍ بعينهِ فيُزيلَه عنِ الصورةِ التي أرادَها الناظمُ له ويُفْسِدَها عليه، من غير أَن يُحَوِّلَ منه لفظاً عن موضِعه، أَو يُبَدِّلَه بغيره، أو يُغيِّر شيئاً من ظاهر أمرهِ على حالٍ.

مثالُ ذلك: أنَّكَ إنْ قدَّرْتَ في بيت أبي تمام:

لعاب الأفاعي القاتلات لغابه

وأَرْيُ الجَنى اشتارَتْه أيْدٍ عواسِلُ

أنَّ “لعابَ الأفاعي” مبتدأٌ و “لعابُه” خبرٌ، كما يُوهِمُه الظاهر، أفسدْتَ عليه كلامَه، وأبطلْتَ الصورةَ التي أرادها فيه. وذلك أنَّ الغرضَ أنْ يُشَبِّه مداد قلمهِ بلعاب الأفاعي، على معنى أنه إذا كتب في إقامة السياسات أتلف به النفوس، وكذلك الغرضَ أنْ يُشَبِّه مِدادَهُ بأرْي الجنَي، على معنى أنه إِذا كتَبَ في العطايا والصِلاتِ أوصَلَ به إلى النفوس ما تَحْلو مذاقَتُه عندها، وأدْخَل السرورَ واللذةَ عليها. وهذا المعنى إنما يكونُ إِذا كان “لعابُه” مبتدأ، و “لعاب الأفاعي” خبرًا، فأما تقديرك أنت يكون “لعاب الأفاعي” مبتدأ و “لعابُه”، خبراً فيُبْطِل ذلك ويَمْنَع منه البتَّةَ، ويَخْرجُ بالكلام إلى ما لا يجوزُ أن يكونَ مُراداً في مثل غَرَض أبي تمام، وهو أنْ يكون أرادَ أنْ يُشَبِّه “لعابَ الأفاعي” بالمِداد، ويشبِّه كذلك “الأرْيَ” به.

فلو كان حالُ الكلم في ضمِّ بعضِها إلى بعضٍ كحالِ غَزْل الإبرَيْسَم، لكانَ ينْبغي أن لا تتغيَّر الصورةُ الحاصلةُ من نَظْمِ كَلِمٍ، حتى تُزال عن مواضِعها، كما لا تتغيرُ الصورةُ الحادِثةُ عن ضَمِّ غزلِ الإِبريسم بعضه إلى بعض، حتى نزال الخيوط مواضِعها..واعلمْ أنَّهُ إنْ نظَر ناظرٌ في شأن المعاني والألفاظ إلى حال السامع، فإذا رأي المعانيَ تقعُ في نفْسِه من بَعْد وقوعِ الألفاظِ في سَمْعِه. ظنَّ لذلك أنَّ المعانيَ تِبْعٌ للألفاظِ في ترتيبها.

فإنَّ هذا الذي بيَّنَّاهُ يُريه فسادَ هذا الظنِّ. وذلك أنه لو كانتْ المعاني تكونُ تِبْعاً للألفاظ في ترتيبها، لكان مُحالاً أنْ تتغيَّر المعاني والألفاظُ بحالها لم تَزُلْ عن تَرْتيبها. فلمَّا رأينا المعانيَ قد جازَ فيها التغيُّر مِن غَيْر أنْ تتغيَّرَ الألفاظُ وتزولَ عن أماكِنِها، عَلِمْنا أنَّ الألفاظَ هي التابعةُ، والمعاني هي المتبوعة.

واعلمْ أنه ليس مِن كلام يعمدُ واضِعُه فيه إلى معرِفَتَيْنِ فيجعلُهما مبتدأً وخبراً، ثم يقدِّمُ الذي هو الخبرُ، إلاَّ أشكلَ الأمرُ عليكَ فيه، فلَمْ تَعْلَمْ أنَّ المقدَّمَ خبرٌ، حتى ترجِعَ إلى المعنى وتُحْسِن التدبُّرَ» انتهى.

بَلْ لا أَبْعُدُ إذا قُلتُ: إنَّ وَظِيفَةَ النَّحْوِ العَرَبِيِّ هي تَخْصِيصُ المَعْنَى وتَحْدِيدُهُ، أَكْثَرُ مِمَّا هي ضَبْطُ المَبْنَى وتَنْظِيمُهُ.

ولَمْ يَكُنِ النُّحاةُ -خاصَّةً الأوائلَ منهم- لِتَفُوتَهُمْ هذه الحَقِيقَةُ؛ حَقِيقَةُ ارْتِباطِ وَظِيفَةِ النَّحْوِ العَرَبِيِّ بِتَحْدِيدِ المَعْنَى وتَخْصِيصِهِ، أَكْثَرَ مِن ارْتِباطِها بِضَبْطِ المَبْنَى وتَنْظِيمِهِ، بل إنَّهُم يَذْهَبُونَ إلى أَبْعَدَ مِن ذلك، فيَجْعَلُونَ الخُطْوَةَ الأُولَى في وَضْعِ النَّحْوِ العَرَبِيِّ -في بَعْضِ الرِّواياتِ- مُرْتَبِطَةً بِخَطَإٍ في نُطْقِ المَبْنَى، تَرَتَّبَ عليهِ خَطَأٌ في فَهْمِ المَعْنَى؛ إذ يُحْكَى أنَّ ابْنَةَ أَبِي الأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ: «قالت له ذات يوم: يا أبه، ما أَشَدٌّ الحرِّ؟ فقال لها: الرمضاء في الهاجرة يا بنية فقالت له: لم أسالك عن هذا، وإنما تعجبت من شدة الحر. فقال لها : فقولي إذن ما أشدَّ الحرَّ!! ثم قال: إنا لله فسدت ألسنة أولادنا وهم أن يضع كتابا: يجمع فيه أصول العربية»(8)

وهكذا، فَعِبَارَةُ «ما أَشد الحر» يُمكِنُ أنْ يُنْطَقَ بها على صُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَتُفيد الاستِفْهامَ، ويُمْكِنُ أنْ يُنْطَقَ بها على صُورَةٍ أُخْرَى، فَتُفِيدَ التَّعَجُّبَ.
والاخْتِلَافُ بينَ الحالَتَيْنِ لا يَرجِعُ إلى عَدَدِ الحُرُوفِ، ولا إلى طَريقَةِ نَظْمِها، ولا إلى تَركِيبِ العِبَارَةِ، بل إلى عِلْمِ النَّحْوِ.

يَرجِعُ – فقط- إلى طَريقَةِ نُطْقِها، هذا النُّطْقُ الذي يَتَوَلَّى تَنْظِيمَهُ، ووَضْعَ قَواعِدِهِ، عِلْمُ النَّحْوِ.
ومِن ثَمَّ، كانَ المَعْنَى عُنصُرًا أَسَاسِيًّا في الدَّرسِ النَّحْوِيِّ، بَلْ هو الغايَةُ والعِلَّةُ التي مِن أَجلِها نَشَأَ، وحَوْلَها يَدُورُ المَرْمَى الذي يَنشُدُهُ الفِكْرُ النَّحْوِيُّ، بَلِ الفِكْرُ البَيَانِيُّ كُلُّهُ: الإِمْسَاكُ بِناصِيَتِهِ. وقد أشارَ ابنُ جِنِّي إلى شيءٍ من ذلك، بقولهِ: «فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظها وحسنوها وحموا حواشيها وهذبوها وصقلوا غروبها وأرهفوها فلا ترين أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ، بل هي عندنا خدمة للمعاني وتنويه وتشريف»(9)

فهذا نَصٌّ جَيِّدٌ، يُرِينَا أنَّ شُيُوخَ النَّحْوِ الأَوَّلِينَ كانوا يُدرِكُونَ أنَّ البِنْيَةَ لَيْسَتْ إلَّا مِرْقَاةً إلى المَعْنَى، وأنَّهُم حينَ كانوا يَسْتَخْرِجُونَ قَواعِدَ النَّحْوِ، إنَّما كانوا يَسْتَخْرِجُونَ أُصُولَ هذه السَّلِيقَةِ نَفْسِهَا، ويُحَلِّلُونَهَا، ويُصَيِّرُونَهَا -هي نَفْسَها-قَواعِدَ عِلْمِيَّةً، اقْتَنَصَهَا النُّحَاةُ مِن بَيْنِ اللَّفْظِ ومَعْنَاهُ -بِمَهارَةٍ مُدْهِشَةٍ- وَنَسَقُوهَا في مَنْظُومَاتِهِمْ؛ حتّى غَدا المَعْنَى أَصْلًا مِنَ الأُصُولِ المُهِمَّةِ الَّتي نَلْحَظُهَا -بِدِقَّةٍ مُتَنَاهِيَةٍ – في الدَّرْسِ النَّحْوِيِّ القَدِيمِ، تَأْلِيفًا وَتَنْظِيرًا(10).

وهذا المَنْهَجُ الذي يُبِينُ عنه هؤلاءِ الأَئِمَّةُ الأَعْلَامُ، ويُكْثِرُونَ مِن تَقرِيرِهِ، وصَرْفِ الأَبْصَارِ إليه، ثم الإِسْفَارِ عن وجهِهِ بِضَرْبِ الأَمْثِلَةِ التي تُوصِلُ بمَنِ اطَّلَعَ عليه إلى ثَلْجِ اليَقِينِ= هو قانونُ العربيَّةِ ومَنطِقُها الحُلْوُ، الذي تَمَثَّلَهُ الأَوَائِلُ، مِمَّن نَهَجُوا النَّحْوَ بادِئَ الأَمْرِ، ثم اسْتَقَرَّ على صُورَتِهِ المُشْرِقَةِ في «الكِتابِ»؛ كِتابِ سِيبَوَيْهِ العظيمِ(11).

وهو الذي أَرَادَهُ الإِمامُ أَبُو سَعِيدٍ السِّيرَافِيُّ، بِقَوْلِهِ: «النَّحْوُ مَنطِقُ العربيَّةِ»(12).

والحديثُ في هذه البَابَةِ يَطُولُ ويتّسعُ، إنْ أَرْخَيْنَا القَلَمَ، ولم نَأْخُذْ بِخِطَامِهِ، وهو بعدُ حديثٌ حُلْوٌ بَدِيعٌ، لِمَن عَقَلَ، وَوَقَفَ على الغَايَةِ منه، واسْتَقَرَّ في قَلْبِهِ الأَهَمِّيَّةُ العَظِيمَةُ التي يَنْطَوِي عليها.

وقد هَمَمْتُ بِمَدِّهِ مَدًّا، أَسْتَنْطِقُ فيه بَعْضَ عِبَارَاتِ النُّحَاةِ الأَوَائِلِ، وسِرَّ تَصَرُّفِهِمْ في أَنْحاءِ ما طَرَقُوهُ من مَسَائِلَ، وَعَقَدُوهُ من أَبْوَابٍ؛ ولكنَّ الأَمْرَ -إنْ فَعَلْتُ- خارِجٌ بنا إلى سَبِيلٍ طَوِيلَةٍ، غَيْرِ التي نحنُ بِسَبِيلِها، مِنَ الِاخْتِصَارِ، وَالاِكْتِفَاءِ بِبَعْضِ اللَّفْظِ عن كَثِيرِهِ. واللهُ المُوَفَّقُ.

محمَّد الأنصاري والجهاتُ العشر أعلامُ هدًى على دُرُوبِ الإعراب 01 3 أبو محمَّد الأنصاري والجهاتُ العشر:

عَوْدٌ على أَصْلِ المَقَالِ:

قالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحمنِ: بَعْدَ أنِ انْتَهَى الشَّيخُ مِنَ الجِهَةِ الأَصْلِ الأُولَى، أَتْبَعَها بِجِهَةٍ لا تَسْتَقِيمُ الأُولَى في ميزانِ العَقْلِ والصَّنْعَةِ إلَّا بِها، فقالَ:

«أنْ يُراعِيَ المُعْرِبُ مَعنًى صَحِيحًا، ولا يَنظُرَ في صِحَّتِهِ في الصِّناعَةِ»(13).

وهي جِهَةٌ دَقِيقَةٌ جِدًّا، تَلْتَبِسُ على كَثِيرٍ مِن مُعالِجِي النُّصُوصِ البَلِيغَةِ، إنْ لم تُفْقَهْ على صُورَتِها الحَقِيقِيَّةِ = أَوْقَعَتِ المُشْتَغِلَ في مَزالِقِ الخَطَإِ والعَنَتِ، والقَوْلِ بِأَقاوِيلَ حاصِلُها أَباطِيلُ وأَوْهامٌ = تَنْقُضُ عُرَى الكَلامِ الفَصِيحِ، وتَذْهَبُ بِمَائِهِ.

وأَصْلُ الوَهْمِ الذي يَنْسَرِبُ منهُ الخَطَأُ، والذي لأَجْلِهِ ثَنَّى الإمامُ بِهذِهِ القاعِدَةِ، وجَعَلَها لَصِيقَةً بالتي قَبْلَها = عَدَمُ مُراعاةِ أَصْلَيْنِ، أو الغَفْلَةِ عن أَحَدِهِما:
أَصْلُ المَعْنَى، وأَصْلُ الصِّناعَةِ، فَالاثْنَانِ قَوامُ الصَّوابِ، لا يُهْتَدَى إليهِ إلَّا بِهِما مَعًا، فعلى المُعْرِبِ أَنْ يُحْسِنَ التَّأَمُّلَ، وهو آخِذٌ بِالتَّفْتِيشِ عن مَعْنَى الكَلامِ، ثم يُصْحِبَ معه العِلْمَ الدَّقِيقَ بِأُصُولِ هذِهِ الصِّناعَةِ وقَواعِدِها الَّتي اتَّفَقُوا عَلَيْها، فَهُما كَجَناحَيِ الطَّائِرِ، لا يَرْتَفِعُ في جَوِّ السَّمَاءِ إِلَّا إن أَخْفَقَ كِلَيْهِما مَعًا.

فلا يَجُوزُ في العَقْلِ أَنْ يَتَعَارَضَ المَعْنَى المُرادُ في الكَلامِ البَلِيغِ، مَعَ الأُصُولِ النَّحْوِيَّةِ الَّتي اسْتَقْرَأها العلماء من هذا الكَلامِ البَلِيغِ، ثم أَجْمَعُوا عَلَيْها بَعْدُ؛ وإِنَّما يُؤْتَى المَرْءُ مِنِ اخْتِلالِ الفَهْمِ، والسَّهْوِ عن أَصْلِ القاعِدَةِ.

فاجْعَلْ هذا مِنْكَ على ذُكْرٍ أَبَدًا، فإنَّهُ إنْ أَحْسَنْتَهُ، ووَعَيْتَهُ = انْبَجَسَ عَلَيْكَ من كَوامِنِ المَعَانِي ودَفَائِنِها، ومِن خَفِيّاتِ الحِكَمِ ويَنَابِيعِ العِلْمِ، الشَّيْءُ العَظِيمُ -إنْ شاءَ اللهُ تَعالى-.

والخُلاصَةُ الجامِعَةُ لهاتَيْنِ الجِهَتَينِ(14):

أنَّنا مُطالَبُونَ بأنْ نَأْتِيَ الإِعْرابَ مِن جِهَةِ المَعْنَى؛ لأَنَّ المَعْنَى هو الذي يَقُودُنا إلى الإِعْرابِ الصَّحِيحِ، مع أَنَّنا لا نَسْتَطِيعُ أنْ نَدْخُلَ المَعْنَى إِلَّا مِن بابِ الإِعْرابِ؛ إذْ لَوْلاهُ -غالِبًا- ما عَرَفْنا شَيْئًا؛ إِذْ نَقِفُ على المَعْنَى مِن خِلالِ عَلاماتِ الإِعْرابِ، التي جَعَلَها المُتَكَلِّمُ أَضْواءً على الطَّرِيقِ تَهْدِي سامِعَهُ.

وهذا ما يَقْصِدُهُ الإِمامُ عبدُ القاهِرِ، حينَما يَجْعَلُ الإِعْرابَ بالنِّسْبَةِ إلى المعاني:

«كَالنَّاسِبِ الذي يُنْمِيها إلى أُصُولِها، ويُبَيِّنُ فاضِلَها مِن مَفْضُولِها»، ويَشْرَحُ ذلك بقَوْلِهِ: «إِذا كانَ قد عَلِمَ أَنَّ الأَلْفاظَ مُغْلَقَةٌ على مَعانيها، حَتَّى يَكونَ الإِعْرابُ هو الذي يَفْتَحُها، وأَنَّ الأَغْراضَ كامِنَةٌ فيها، حَتَّى يَكونَ هو المُسْتَخْرِجَ لَها». فتَحَوُّلُ اللَّفْظِ مِن هَيْئَةٍ إِعْرابِيَّةٍ إلى أُخْرَى، هو السَّبِيلُ إلى مَعْرِفَةِ التَّحَوُّلِ مِن مَعْنًى إلى آخَرَ؛ لأَنَّ الإِعْرابَ يُحَقِّقُ لَها التَّمْيِيزَ بينَ المعاني، ويَرْفَعُ الِاحْتِمالَ والإِشْكالَ، لِاخْتِيارِ إِمكانٍ واحِدٍ مُقَيَّدٍ.

فَدَوْرُهُ:
«تَفْرِيقٌ بِعَلاماتٍ لَفْظِيَّةٍ، تَدُلُّ على فَوارِقَ دَلالِيَّةٍ».
وهذا ما يَجْعَلُنِي أَقُولُ: إِنَّ المَعْنَى -أيضًا- يَكُونُ فَرْعًا لِلإِعْرابِ!!
وهذا مِن أَسْرارِ جَلالِ هذا العِلْمِ.

قال أبو عبد الرحمن:

أَخَذَ الشَّيْخُ يَنْبَسِطُ انْبِساطًا دَقِيقًا في نَسْقِ الجِهَاتِ الثَّمانِيَةِ الأُخْرَى، بَعْدَ أَنْ وَضَعَ الأَسَاسَ الأَصْلَ مِنْهَا، والَّذِي تَمَثَّلَ بِالجِهَةِ الأُولَى والثَّانِيَةِ. فَبَدَأَ بِمَا يُؤْتَى منه المُعْرِبُ مِن جِهَةِ الجَهْلِ، وعَدَمِ الوُقُوفِ على الأَصْلِ الثَّابِتِ في العَرَبِيَّةِ، فَحَسُنَ مَجِيءُ ذلك كَأَصْلٍ مَكِينٍ في التَّحْرِيضِ على ضَبْطِ المَادَّةِ المَنْقُولَةِ عنِ العَرَبِ، ومَعْهُودِ تَصَرُّفِهِم في كَلامِهِم، بَعْدَ التَّحْرِيضِ على حُسْنِ النَّظَرِ، وطُولِ الرَّوِيَّةِ.

ثُمَّ أَخَذَ بِذِكْرِ الوَجْهِ الرَّابِعِ(15) ، وهو وَجْهٌ مُغَايِرٌ لِلثَّلاثَةِ الأُوَلِ، مِن جِهَةِ أَنَّهُ لَصِيقٌ بِحُسْنِ التَّمْيِيزِ، والأَنَاةِ في إِعْمَالِ قَواعِدِ التَّرْجِيحِ بينَ الوُجُوهِ المُشْتَبِكَةِ، والَّتِي يَقَعُ فيها بَعْضُ التَّشَاكُلِ مِن بَعْضِ الوُجُوهِ، فَهِيَ مَنْزِلَةٌ بينَ مَنْزِلَتَيْنِ:

مَنْزِلَةِ العِلْمِ الصَّحِيحِ، وعِلْمٍ يُشْبِهُ الصَّحِيحَ، ولَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ. فَنَاسَبَ التَّرْتِيبُ المَنْطِقَ الَّذِي يَسِيرُ بهِ المُعْرِبُ في سَبِيلِ الكَشْفِ عنِ الوَجْهِ الحَقِّ المُرَادِ، في دَرَجَاتٍ مُنَتظَّمَةٍ مِنَ التَّفْكِيرِ، لا يَضِلُّ فيها مَنْ الْتَزَمَهَا وأَحْسَنَ العَمَلَ بها.

ثُمَّ هُدِيَ إلى إِرْدَافِ هذا الوَجْهِ بِوَجْهٍ يُشَبِّهُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ مِن جِهَةٍ مُقَابِلَةٍ، فالأَوَّلُ في تَرْكِ الوَجْهِ القَوِيِّ، والتَّشَاغُلِ عَنْهُ بِالضَّعِيفِ، وهذا في إِغْفَالِ أَوْجُهٍ مُحْتَمَلاتٍ، وَالاقْتِصَارِ على وَجْهٍ دُونَهَا.
فَكَانَا كَالصَّدِيقَيْنِ مِن ذَوِي الوَفَاءِ، لا يَفْتَرِقَانِ بَتَّةً، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ على مَسْلَكٍ في التَّرْجِيحِ والتَّوَسُّعِ، ومَتَى يَكُونُ هذا، وفي أَيِّ مَوْضِعٍ يَكُونُ ذَاكَ.
ولِهَذَا قُرِنَا، فَجَاءَ بِهِمَا في مَوْضِعِهِمَا، لِبَيَانِ وَجْهَيْ الزَّلَلِ في النَّظَرِ المُرَكَّبِ: الإِفْرَاطِ والتَّفْرِيطِ.

ثُمَّ أَتْبَعَ ذلك بِجِهَةٍ دَقِيقَةٍ جِدًّا، وهي الجِهَةُ السَّادِسَةُ مِنْ هذه الأَوْجُهِ، العَاصِمُ عِلْمُهَا مِنَ التَّلَبُّسِ بِالأَغَالِيطِ، فقالَ(16) :«أَلَّا يُرَاعِيَ الشُّرُوطَ المُخْتَلِفَةَ بِحَسَبِ الأَبْوَابِ، فَإِنَّ العَرَبَ يَشْتَرِطُونَ في بَابٍ شَيْئًا، وَيَشْتَرِطُونَ في آخَرَ نَقِيضَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، على مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَةُ لُغَتِهِم، وصَحِيحُ أَقْيِسَتِهِم، فَإِذَا لم يَتَأَمَّلِ المُعْرِبُ، اخْتَلَطَتْ عَلَيْهِ الأَبْوَابُ وَالشَّرَائِطُ».

المعمّقة المجددون بين تكفير مصادر السنة ومحاولة استردادهم زيديًا 2 أبو محمَّد الأنصاري والجهاتُ العشر:

فَانْظُرْ إلى حِذْقِ صَنِيعِهِ، كَيْفَ انْتَقَلَ مِنَ التَّنْبِيهِ على أَصْلِ العِلْمِ بِالشَّيْءِ، إلى الأَصْلِ الحَقِيقِ في تَطْبِيقِ هذَا العِلْمِ وآلَةِ مُعَالَجَتِهِ.
فَالخَطَأُ هُنَا يُنْمَى إلى دَقِيقِ الصَّنْعَةِ، وَالنَّظَرِ في فُرُوعِهَا، ثُمَّ اللُّطْفِ في مُعَالَجَةِ كُلِّ مَسْأَلَةٍ بِمَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ النَّظَرِ!

وهي  -كَمَا تَرَى- تُخَالِفُ ما مَضَى مِنْ جِهَاتٍ تَتَّصِلُ بِفِقْهِ المَعَانِي، أَوْ مَوْضِعِ الصَّنْعَةِ، أَوْ حُسْنِ الِاخْتِيَارِ، أَوْ دِقَّةِ التَّرْجِيحِ؛ إلى جِهَةِ التَّنْبِيهِ على ما تُحْدِثُهُ الغَفْلَةُ عنِ الشَّرْطِ الأَسَاسِ في البَابِ، كَأَنْ يُحْمَلَ حُكْمُ بَابٍ على مَوْضِعٍ لا تَجْرِي فيه شُرُوطُهُ، ولا تَنْتَظِمُ في أُصُولِهِ.

فَهَذِهِ الجِهَةُ تُرْشِدُ مَنْ اسْتَحْضَرَ قَواعِدَ الصِّنَاعَةِ وَفِقْهَ المَعَانِي، لَكِنَّهُ أَغْفَلَ الوَفَاءَ بِشُرُوطِ بَعْضِ الأَبْوَابِ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهَا قَواعِدُ وَأَنْظَارٌ نَحْوِيَّةٌ مَخْصُوصَةٌ.

وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جَاءَتْ في المُنْتَصَفِ مِنْ هَذِهِ الجِهَاتِ؛ إِذْ إِنَّهَا أَشَدُّ خَفَاءً، وَأَدَقُّ مَوْضِعًا.

أمّا عن الوَجْهِ السَّابِعِ: «أَنْ يَحْمِلَ كَلامًا على شَيْءٍ، وَيَشْهَدَ اسْتِعْمَالٌ آخَرُ في نَظِيرِ ذَلِكَ المَوْضِعِ بِخِلَافِهِ» والثَّامِنِ: «أَنْ يَحْمِلَ المُعْرِبُ على شَيْءٍ، وَفي ذَلِكَ المَوْضِعِ ما يَدْفَعُهُ، وَهذَا أَصْعَبُ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ»

فَهُمَا معًا يَتَّصِلانِ بِالسِّيَاقِ وَالتَّنَاسُبِ، وَحُسْنِ الِاهْتِدَاءِ إِلى الصَّوَابِ في مَقَامٍ مَخْصُوصٍ، يُخالِفُ بَيْنَهُما أَنَّ الأُولَى منهُما عامَّةٌ، وَالأُخْرَى خَاصَّةٌ دَقِيقَةٌ جِدًّا، يَعْتَاصُ على المُعْرِبِ عندَها الأَمْرُ، وَيَتَطَامَنُ عِلْمُهُ إِنْ كانَ خَلِيًّا مِن مَعْرِفَةِ هذِهِ الدَّقَائِقِ.

فَانْظُرْ -فَهَّمَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ- كَيْفَ عَاقَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ بينَ القَاعِدَتَيْنِ في نَسَقٍ بَدِيعٍ لَهُ سِرٌّ، وَتَرْتِيبٍ غَيْرِ مُتَّصِفٍ بِضَعْفٍ، فَجَاءَ التَّأْلِيفُ بَيْنَهُمَا مُحَقِّقًا لِشَرْطِ المُنَاسَبَةِ، وَمُصِيبًا لِغَرَضِ المُطَابَقَةِ، ثُمَّ أَخَذَهُ بِبَسْطِ القَوْلِ وَالتَّمْثِيلِ، وَالإِبَانَةِ عن تَفَارِيقِ الوَجْهَيْنِ وَمَا فِيهِمَا مِن عِلْمٍ، على طَرِيقَةٍ لاحِبَةٍ، مَهَّدَ لَهَا بِفِكْرٍ طَوَّافٍ بِمَنَازِلِ العِلْمِ وَبُيُوتَاتِ الكَلامِ!

قال أبو عبدِ الرَّحمنِ:

بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الإِمَامُ جِهَاتٍ يَتَدَاخَلُ بها العِلْمُ بِالشَّيْءِ وَحِفْظُهُ وَحِذْقُ تَصْرِيفِهِ، وَبَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ مِنْهَا ما يَسْتَقِلُّ به العَقْلُ وَإِحْسَانُ النَّظَرِ = أَتَى على ذِكْرِ الجِهَةِ التَّاسِعَةِ: «أَلَّا يَتَأَمَّلَ عِنْدَ وُجُودِ المُشْتَبِهَاتِ»

وهي جِهَةٌ يَجِبُ أَنْ يَتَّخِذَ المُعْرِبُ فيها اليَقَظَةَ، وَرَوْضَ النَّفْسِ على حُسْنِ التَّأَمُّلِ، وَاسْتِفْرَاغَ الجُهْدِ في الاسْتِقْرَاءِ عُدَّةً لَهُ وَمُعِينًا، حَتَّى يَخْلُصَ إلى الصَّوَابِ فِيمَا هو بِسَبِيلِهِ.
فَهِيَ جِهَةٌ تُجَلي عن مَوَاضِعَ مِنَ الخَطَإِ دَقِيقٍ؛ لأَنَّ المُعْرِبَ قَدْ يُظِلُّهُ وَجْهٌ ظَاهِرٌ في لَفْظٍ مُشْتَرَكٍ، أَوْ تَرْكِيبٍ مُحْتَمَلٍ، فَيَقَعُ فِيمَا يَقَعُ فِيهِ، لا عن جَهْلٍ منه بَادِيَ الأَمْرِ، بَلْ عن تَرْكِ الحِيطَةِ وَالتَّسْلِيمِ لأَوَّلِ خَاطِرٍ!

ثُمَّ انْتَهَى إلى ذِكْرِ الجِهَةِ العَاشِرَةِ: «أَنْ يَخْرُجَ على خِلَافِ الأَصْلِ، أَوْ على خِلَافِ الظَّاهِرِ، لِغَيْرِ مُقْتَضًى»

وهي خَاتِمَةُ هذه الجهَات وَعَقْدُ نِظَامِهَا؛ لأَنَّهَا تُلَخِّصُ أُصُولَ الخَلَلِ، وَتَجْمَعُ شَتَاتَ الزَّلَلِ؛ إِذْ لَيْسَ مِن دَأْبِ العَاقِلِ أَنْ يَعْدِلَ عنِ الظَّاهِرِ البَيِّنِ، وَلا أَنْ يَزِيغَ عنِ الأَصْلِ المُسْتَقَرِّ، إِلَّا أَنْ تَنْهَضَ بذلك قَرِينَةٌ بَيِّنَةٌ صَادِقَةٌ، أَوْ يَعْتَرِضَ لَهُ مُقْتَضًى لا يَجْمُلُ دَفْعُهُ، أَوْ الإِغْضَاءُ عنه.

فَإِنْ هو عَدَلَ عن ذلك لِغَيْرِ بَاعِثٍ مُعْتَدٍّ به، فَقَدْ جَمَعَ بينَ جَهْلٍ بِسَنَنِ الصِّنَاعَةِ، وضَلالِ العَقْلِ عن وَجْهِ المَعْنَى.

وبعدُ:

فهذِهِ بَعْضُ إِشْرَاقَاتٍ على عَقْلِ هذا العَلَمِ العَظِيمِ، وَإِطْلَالَةٌ على مَقْدِرَتِهِ في صَوْغِ الكَلامِ على نِظَامٍ لا يَسْتَطِيعُهُ جُمْهُرَةُ النَّاسِ، وَدَلالَةٌ على «أَصْلِ جَلِيلٍ من أصولِ العِلْمِ» حَوَاهُ هذا البَابُ، وَالدَّعْوَةُ إلى رِيَاضَةِ النَّفْسِ بِالاشْتِغَالِ به، وَبِما يُشْبِهُهُ مِنْ أُصُولٍ، فَإِنَّهَا عَاصِمَةٌ أَهْلَهَا مِنَ العَثَرات، وَمَا حَذَّرَ منه أَبُو الطَّيِّبِ اللُّغَوِيُّ، إِذْ قَالَ:  «فلم يزل أهل المصرين على هذا حتى انتقل العلم إلى بغداد قريبا، وغلب أهل الكوفة على بغداد، وحدثوا الملوك فقدموهم، ورغب الناسُ في الروايات الشاذة، وتفاخروا بالنوادر، وتباهوا بالترخيصات، وتركوا الأصول، واعتمدوا على الفروع فاختلط العلم»(17)

فـ:

أمامكَ فانظرْ، أيّ نَهْجَيكَ تَنْهَجُ

 طَريقانِ شَتَّى: مستقيمٌ وأعْوَجُ

عَصَمَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ مِنَ الشُّبْهَةِ، وَأَعَاذَنَا وَإِيَّاكَ مِنْ زَيْغِ الهَوَى، وَمَضَلَّاتِ المُنَى، وَوَهَبَ لَنَا وَلَكَ تَأْدِيبًا مُؤَدِّيًا إِلَى الزِّيَادَةِ في إِحْسَانِهِ، وَتَوْفِيقًا مُوجِبًا لِرَحْمَتِهِ وَرِضْوَانِهِ.

الهوامش:

  1. «المقدمة مع التاريخ» ١/٧٢٨ 
  2. ابن خلدون، «المقدمة مع التاريخ» ١/٥٤٣ 
  3. «السابق» 
  4. «مراجعات في أصول الدرس البلاغي» ص٦٤-٦٦ 
  5. جاء في حاشية الأمير على المغني «٢/١٧٧»: «قيل للمصنف: هلا فسرت القرآن أو أعربته؟ فقال: أغناني المغني» 
  6. إن قلّبت نظرك في ما ورَّثه الشيخ من علمٍ= وجدتَ أثر أبي بكر فيه ظاهرًا، لا يخفى. 
  7. ومثل هذه الأصول تأسس في نفس الحاذق لها ذوقًا سليمًا، يهديه إلى نظرٍ مستقيم فيما يعالجه من مسائل الإعراب، ويسلك به مسلك العلماء الأوائل في نظرهم إلى علم النحو، ومن بديع قول شيخنا أبي موسي في هذه البابة: «الإعراب يعني العلاقة، ولحمة النسب بين الكلمات في الجملة الواحدة، وإذا صحت العلاقة الإعرابية واستقامت في ذوق النحو، فهي تلك المناسبة الصحيحة التي يرضاها ذوق البلاغة.. والذين يزعمون أن النحو الذي يعرفه علماء هذه الأمة هو النحو الذي يبحث منطق اللسان ويحلل ضروب العلاقات بين كلماته ويشرح سليقة الأمة المنعكسة في هذا البناء الإعرابي المعجب» [دلالات التراكيب ص٢٦٨-٢٦٩] 
  8. الإيضاح في علل النحو، للزجاجي، ص٨٩ 
  9. «الخصائص» ١/٢٢٥ 
  10. «ضوابط الفكر النحوي»، للدكتور محمد الخطيب ٢/٦٦٢ 
  11. من أراد أن يقف على سرِّ الكتاب ويجدُ مسَّ طلاوته، ويذوق أريُّ العسل الذي حواه، فاليتدبر أبوابه التي عقدها الإمام لأمّ مسائله، فإن فيها علم «الكتاب» وعلوم باذخه معه.
    قال ابن المنير: «‏سمعتُ جدي يقول: كتابان فقههما في تراجمهما: ‏
    كتاب البخاري في الحديث. وكتاب سيبويه في النحو» [المتواري على أبواب البخاري، ص٣٧] 
  12. انظر: «الإمتاع والمؤانسة»، لأبي حيان التوحيدي، ص٤٨ 
  13. «المغني» ٦/٤٨ 
  14. انظر: «ضوابط الفكر النحوي» ٢/٦٩٣ فإنِّي قبست لك هذه الخلاصة منه، وهو كتابٌ جليل فيه من التحرير والتقعيد ما يرفل له القلب! 
  15. وهو: «أَن يُخرج -أي مُعرِب الكلام- على الْأُمُور الْبَعِيدَة وَالْأَوْجه الضعيفة وَيتْرك الْوَجْه الْقَرِيب وَالْقَوِي فَإِن كَانَ لم يظْهر لَهُ إِلَّا ذَاك فَلهُ عذر وَإِن ذكر الْجَمِيع فَإِن قصد بَيَان الْمُحْتَمل أَو تدريب الطَّالِب فَحسن إِلَّا فِي أَلْفَاظ التَّنْزِيل فَلَا يجوز أَن يخرج إِلَّا على مَا يغلب على الظَّن إِرَادَته فَإِن لم يغلب شَيْء فليذكر الْأَوْجه المحتملة من غير تعسف وَإِن أَرَادَ مُجَرّد الإغراب على النَّاس وتكثير الْأَوْجه فصعب شَدِيد» [المغني ٦/٨٠]
    وللإمام عبد القاهر الجرجاني كلام بديعٌ يتصل بهذه الجهة بسبب متين، قال -رحمه الله-: «واعلمْ أنه إِذا كان بيِّنًا في الشيء أنه لا يَحتمِلُ إِلاّ الوجْهَ الذي هو عليه حتى لا يُشْكِلَ، وحتى لا يُحْتاج في العلم بأنَّ ذلك حقُّه وأنه الصوابُ، إِلى فكْرِ ورويةٍ= فلا مَزِيَّةَ. وإِنما تكونُ المزيةُ ويجِبُ الفضلُ إِذا احتمَلَ في ظاهِر الحالِ غيرَ الوجه الذي جاءَ عليه وجهًا آخرَ، ثمَّ رأيتَ النفسَ تَنْبو عن ذلكَ الوجهِ الآخرِ، ورأيتَ للذي جاء عليه حُسْنًا وقبولًا تعدمهما إِذا أنتَ تركْتَه إِلى الثاني.» [الدلائل، ص٢٨٦] 
  16. «المغني» ٦/١٧٣ 
  17. «مراتب النحويين» ص١٠٩
placeholder أبو محمَّد الأنصاري والجهاتُ العشر:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى