أدب

اِبنة الإرث

عند حدود الحائطِ الذي ما تجاوزته أطيافُهم، هَفَت عليهم الظلال، حفّهم النور، طالتهُم أنسامٌ فرَّت من البحر.. هذه أنا، سوداءُ العينين فاحمة الشَعر.. حُكي أنها خُلقت لتُمثِّل أغنية الأبد للعائلة، مَقدمُها المطلعُ الطروب، واحتفاءُ الجماهير بمُقطّعات أمِّ كلثوم، طُفولتها نَسيبُ القصيدة، شبابُها حنان أفقِ المروج الأخضر؛ وذاك أشيبُ الفودين الحامل عبءَ السنين بين كتفيه، مثالُ جبل الطور بحدبِه عند التجلي! والآخر ذائب العينين، منتظرًا غمامَ السماء، بقي الدهر مُشعلًا حرائق الأمل على رُءُوس الجبال؛ وأخوا الشقاء العابثان هناك، ما عسى يكون شغل العائلة الشاغل لولا هموم هذين وصراعهما الدائم حول مبادئ الكهف التي ما فتئتْ تجول في عروقهما، وراثةً عن فتية الأدغال إبان العصر الحجري! مُلَحًا كانت أسباب الصِراع، ثورات كانت نتائجه، كثيرًا ما اشتبهنا أننا أسباب وساوس هذين، وأنهما دوننا ملاكَين يشيِّدان ممالك الودِّ!.. والقائمةُ زاويةَ المَشهد عند سلالِ الموائد الناهضةُ بهؤلاء عمادُهم الشفيف، حقيقة وجودِها خَفرها فإذا هي كالظلِّ.. لا غناء عنه، ولا عناء معه، ولا حسَّ له! هم هؤلاء، بل هؤلاء نحن..

بعيدًا عن حاضر اليوم، امتزجوا جميعًا بجذور الزيتون، بدنانير تلك الشمس، بأنسامِ ذاك الخريف، ما عاد الكون ليسعهم أكثر مما تسعهم هذه السنتمترات العشرين، أتضرع للمولى ألا يكون أُنسُ الميِّت بمبيته وادِعًا وحيد النفسِ في قبره، إن ما كان الأمر كذلك فهؤلاء مُعذَّبون بجمعِهم! وأي عذابٍ أشد مِن أن يُعذَّب المرء بحبيبه، بقربه، بشدِّة قُربه حتى يُراع من وحشة الجَمع لا من وحشة الوَحدة! ما وسِعت البيوتُ الناسَ فراحت البيوت تتكاثر…

كيف للقبور، وكيف لهذا الإطار البائس ألا يضيقَ بساكنيه طوال هذه العقود! يالزِحام الشواهد، يالزحام المُعلَّقات.. ماتوا زُمرًا، وعُلِّقت زُمرًا!

❃❃❃

كما هو الطوفان.. كما الكتائب، تقف الصُور أبدًا في وجه العَدم، تُدافِع مطارق الدهر ما استطاعت، عسير على أرواح الراحلين ألا تعود حينًا بعد حين لأي جسدٍ أو أثر ممكن، لربما في قنينة عطر، أو لباسٍ قديم، أو لوثةِ عمامة، في الأزقة أو تحت الظلال، ربما انبعثت من تحت الركام، وعلّها كثيرًا ما رَست على شارِفات القبور، ولربما أطلت من عيني فقيد هُيأت له أُطر النحاتين، وفُرَش الرسّامين، فما فتئ يجابِه بخلودِه وجوه العدمِ الضاربة خلف جذور هذه الأرض، تراه شامخ الصمود أمام صواعق النسيان، أمام سيول العهود الجديدة، سامِقَ الوجود ما انكسر سَعفٌ على قبره إلا أقام آخرًا بعده.. إلى أن يتكدَّس النخيل بين مُحامٍ وآخر، فما ترى مِن مجاميع الصورِ إلا لوحةً عُظمى لملاحمِ أصحاب الأرضِ ضدَّ الفناء..

أنّى وقفتْ ياسمينُ أمامه ما انفكّت عن الألم الذي يُحاصرها. لترى أن الخلود متى ما انتقل من خانة القديم إلى الـمُطالِب صار بدعةً بشرية سرعان ما يدركها العدم.. صورٌ قديمة، أتاها الشقاءُ من كونها صورًا ولدت في لحظة زوالها، لا تتبدل، وكأن الكون تجمد عند اللحظة التي يطلّ فيها الإنسان على نهايته دون أن يستطيع التقدُّمَ للأمام، مُطلًا من الجمود، من الماضي.. من العَدم مباشرة!

هذه اللوحة وخمسون ألفًا مثلها، لتبقى ياسمين، وذكرياتها، ذكريات مرآة مشروخةٍ لا تعكسُ سوى الأشلاء الدامية، والوجوه الممزقة، ذكريات عالمٍ شائهٍ ذميم، ذكريات شبيهة بأوزارِ العالم، وحمله الثقيل إلى جهنم..

هذه ياسمين، سوداء العينين فاحمة الشعر، بنتُ أوهام اللوحة المعلَّقة الأثيرة، بنت إرث العائلة الوحيد، ابنة أكتوبر، والدم، والحرب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى