منذ بدايات التاريخ الإنساني، كانت القصة وسيلة رافعة للتواصل البشري، وشكَّلت عبر العصور أداة مركزية في نقل التجارب، وتكوين القيم، وتشكيل المخيال الجمعي للمجتمعات. القصة ليست مجرد متعة سردية، بل هي حاملة للمعنى، وناقلة للرؤية، وموجهة للاتجاهات الفكرية والنفسية والسلوكية. ولذا، فإن التعامل مع القصة على أنها وسيلة ترفيه فحسب، هو في حقيقته انتقاص من طاقتها الحضارية ووظيفتها الرسالية.
تُظهر النصوص الدينية، وعلى رأسها القرآن الكريم، وعيًا عميقًا بهذه الوظيفة متعددة الأبعاد للقصة. فقد ورد القصص القرآني في مواضع متعددة، وفي سياقات متباينة، كلها تؤكد على أن القصة ليست غاية، بل وسيلة لتحقيق غايات أسمى. فهي تُساق لتثبيت الإيمان، وترسيخ القيَم، وتوجيه السلوك، وتأكيد المعنى. قال تعالى: “نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين” [يوسف: 3]، حيث يُفهم أن القصة ليست لمجرد السرد، بل هي جزء من عملية الوحي والتعليم والتربية.
ويقول تعالى في موضع آخر: “لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب، ما كان حديثًا يُفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون” [يوسف: 111]. في هذا السياق، تبرز وظيفة القصة في القرآن كمرآة للتفكر، وأداة للاعتبار، ووسيلة لتوليد الوعي لدى أولي الألباب، أي أصحاب العقول المتفكرة.
مع ذلك، فإن الواقع المعاصر يشهد تحوّلًا في الذائقة العامة، وتغيرًا في وظائف التلقي. فقد باتت القصة تُستهلك في الغالب بصفتها منتجًا ترفيهيًا يُقدَّم للجمهور بهدف الإمتاع لا الإقناع، والتسلية لا التوجيه. وأصبح جمهور واسع – بمن فيهم بعض المتدينين – يطلب القصة لا بوصفها مفتاحًا لفهم الواقع أو منهجًا للاعتبار، بل لمجرد التفاعل العاطفي أو الإشباع اللحظي.
وهذا التحول انعكس بدوره على أداء بعض الخطباء والدعاة والمربين، الذين أصبحوا يُغرقون خطبهم ودروسهم في القصص، ويُكثرون من الأمثلة والنوادر والروايات، على حساب البناء العلمي والفكري المنهجي. وقد يتحول الخطيب في بعض الأحيان إلى “حكواتي” معاصر، لا همّ له سوى استدرار العاطفة وتحقيق تجاوب جماهيري سريع، دون أن يحرّك في المستمع ملكة التفكير أو يدفعه لمراجعة سلوكه أو تصوراته.
إن هذا النمط من الخطاب، على الرغم من جاذبيته الآنية، لا يُنتج وعيًا حقيقيًا، بل يُكرس السَّطحية، ويُعوّد المتلقي على استهلاك القصة لا استيعاب الرسالة. بل قد يحدث -إذ يبدأ الداعية في طرح منهجي حول بناء الوعي في الإنسان المسلم- أن يقال: “احكِ لنا قصة!”، في دلالة عميقة على غلبة ثقافة الاستهلاك العاطفي على ثقافة البناء المعرفي.
إن الخطورة في هذه الظاهرة لا تكمن فقط في تراجع جودة الخطاب الديني أو ضعف مستوى التلقي، بل في تهديد وظيفة المنبر نفسه، باعتباره أداة وعي وتغيير. فحين يتحول المنبر إلى مساحة للتسلية، يفقد دوره في التوجيه، ويتحول الدين إلى حالة وجدانية منعزلة عن الفعل الحضاري.
لا ندعو إلى إقصاء القصة من الخطاب، بل إعادة توظيفها ضمن إطار منهجي يخدم الرسالة ويُعزز الفكرة. فالقصة حين تُروى بوعي، وتُقدّم في سياقها الصحيح، فإنها تصبح أداة فعّالة لتثبيت المعاني، وتبسيط المفاهيم، وتحفيز التفاعل الشعوري مع القضايا الفكرية والروحية.
وقد استخدم النبي صلى الله عليه وسلم القصة في خطابه الدعوي، لكنه لم يكن يروي القصة لمجرد التسلية، بل كان يُحسن اختيارها وتوقيت طرحها، ويربطها دائمًا بالغاية التربوية أو الدعوية. ففي حديث الثلاثة الذين دخلوا الغار، أو حديث الرجل الذي قتل مئة نفس، وغيرهما من الروايات النبوية، نجد القصة مؤطرة برسالة واضحة، وهادفة إلى تربية الوازع، وتحفيز التوبة، أو بث الأمل.
وفي الختام
إن المطلوب اليوم من الدعاة والمربين والمفكرين، أن يُعيدوا للقصة مكانتها الحقيقية، لا باعتبارها بديلاً عن الفكر، بل بوصفها مدخلاً إليه. وأن يُروّضوا أذواق الجماهير تدريجيًا على تلقي الخطاب المركّب، الذي يجمع بين الفكرة والعاطفة، بين الحجة والوجدان، وبين المثال الواقعي والمبدأ الكلي. وهذا يتطلب شجاعة تربوية، وصبرًا دعويًا، ووضوحًا في الرؤية.
إن أمتنا اليوم تحتاج إلى خطاب يعيد التوازن بين العقل والعاطفة، ويُحسن توظيف الأدوات الدعوية لتكون أداةً لبناء الإنسان لا لهروبه من واقعه، وسبيلاً لتحرير وعيه لا تزييفه، ومفتاحًا لإحياء الفكر لا إغراقه في التلقي السلبي. فبهذا وحده تستعيد الكلمة دورها، وتستعيد المنابر رسالتها.