المدونة

رحلتي في العقول

قارئةٌ تعبُر إلى الشبر الثاني

الحياة الدنيا دَرَجَاتٌ ودَرَكَاتٌ، كما الآخرة. وليس عسيرًا على النفس مُفارقةُ درجةٍ إلى أدنى منها فحسب؛ إنما مفارقةُ كلّ مؤتلَف إلى أي مجهول. وقد طبع الله البشر (العقلاء) على مُعاداةِ المجهول والإحجامِ عنه، حذرًا منه قبل لقائه، وقلقًا عند لقائه، والإقدامِ على ما قد أحاطوا به علمًا .. فترى الطفل الصغير والفتى الغرّ يقتحمان الخطر غير مباليَين بالعواقب؛ وما ذلك إلا لجهلهما وقلة بصيرتهما!

يقول الإمام الشافعي -رحمه الله-: “العلم ثلاثة أشبار، فمَن أدرك الشبر الأول تكبّر، ومَن أدرك الشبر الثاني تواضع، ومَن أدرك الشبر الثالث علم أنه لا يعلم شيئًا”.

في الشبر الأول من العلم، يمتلئ رأس القارئ المتعلِّم بالكثير من المعلومات التي يحسبها (علمًا)؛ فتنتفخ ذاته، وتتضخم -تبعًا لذلك في عينه- مميزاتُه وصفاتُه! وإنّ الذي لا يعيننا على إصلاح أنفسنا هو الإعجاب بها، والارتياح للبقاء ضمن حدود زهوها وألقها. وهذا التكبُّر مبلغُ علمِ اللاعبين على شواطئ المعرفة ومصدرُ طمأنينتهم. فإذا اقتربوا من الشبر الثاني أدركوا أنّ عليهم التخلي عن مطاردة الأهواء في القراءة، وكبح سرعتهم في الاطلاع لصالح التؤدة في الاستيعاب، والربط، والمقارنة، والغربلة.. فهدأوا قليلًا.

إنَّه عبور مُنذِرُ بفقدان بعض مكتسبات التباهي بالعلم -وربّما كلِّها-. وهو مؤلم حقًّا، لكنه الألم الجميل! فإنَّ التأنّي لانتظار الأوان لا يأتي إلّا بالسلامة.

لا شكّ أنّ القراءة رحلة فرديّةٌ خاصّةٌ جدًّا، لكنَّ دُرُوب القرَّاء تتقاطع كثيرًا؛ فهي ارتحال طويل لا يُمكن لصاحبه أن يواصل السير فيه بغير إرادة وقصد، وإنْ بدأ صدفةً أو بلا قصد. طريق أشبه ما يكون ببحث الإنسان عن سبيله الذي خُلق له. لا أتحدّث هنا عن المقروء بقدر ما أتحدّث عن كل التفاصيل التي نقلت القارئ من كتاب إلى آخر .. وعن كلّ ما أثَّر في ذلك الاختيار أو استبعد الخيارات الأخرى .. عن النسيان وعودة التذكُّر بعد حين .. عن الجود بِالعَون في اقتراحات الكتب، يتلقّاه المبتدئ من هنا وهناك.. فيَضِلّ مرّةً ويهتدي أخرى.

فيا سائلًا عمَّا تقرأ: سوف تجد في اقتراحات القرَّاء حياةً كاملةً؛ فيها الغثّ والسمين، والقديم والحديث، والضحل والعميق، والصعب والسهل. كلٌّ سوف يُريك ما رأى، ويهديك إلى ما اهتدى، ويشاركك ما عرف وخبِر.

وكما يستعين الوليد على طعامه وشرابه ولباسه وحركته وكلِّ شأنه بمَن يعتني به ممَّن حوله، ثم ينمو فيصير مستغنيًا بنفسه ويديه وقدميه وعينيه وعقله شيئًا فشيئًا، فإنك سوف تتعلم رويدًا رويدًا كيف تقرأ.

في المبدإِ خُذ من تلك العناوين ما يُلائم نفسك، ويُسعد قلبك، ويَروق لذوقك، ويُناسب تطلّعك .. واقرأ وجرّب .. وابنِ عالَمَك الخاص مع خير صُحبة. وأدِمْ السفر في عقول المبدعين .. حتى يأتيك اليقين.

لقد مررتُ بتلك المرحلة التي يكثر فيها التشويش على اختيار الكتب؛ من حولي قرّاء كُثُر، يقرأون ويلتذّون، ويُعلنون عن قراءاتهم في كلّ نادٍ، ولي نفسٌ تغار وتطمع في قراءة كلّ سطر نافع خُطَّ من قبل .. ولكن هيهات .. لا الوقت مسعفٌ ولا الهمّة دائمةٌ ولا الميل قارٌّ!

غير أنّ سبيل القراءة ليس واحدًا، وما هو بالخطّ المستقيم الجاري نحو الأمام قُدُمًا! بل هو كموج البحر.. يعلو حينًا ويهدأ حينًا، لكنّه لا يسكن أبدًا. والتجربة خيرُ برهان.

وأذكر هنا حادثة طريفة .. سمعتُ قبل أشهرٍ كلامًا عجيبًا عن كتاب (وحي القلم) للرافعي -رحمه الله-، وكنتُ أقرأ فيه منذ سنين طويلة بين الحين والآخر ..  في الخبر تحدٍّ للأسماع ومنها للعقول .. وإغراءٌ بِخوض مغامرة قراءته مرّاتٍ ومرّات؛ كان قائله يُعظّم من شأن قراءته، لكنّه يضع لذلك قيودًا وشروطًا ووصايا (ليست عندي).

بقيت تلك الكلمات تدور في خلدي مساء ذلك اليوم، حتى خرجتُ ليلًا إلى حديقة قريبة، ألتمس لقاء القمر قُبيل اكتماله مع إحدى الصديقات .. ومثل كلّ المحبّين، التقطتُ صورةً للبدر، حفظتها في ذاكرة هاتفي المحمول .. علّني أتصبّر بها عن الليالي التي أفتقد فيها وجهه الحبيب!

كنتُ أجلس على كرسيّ تحت شجرة كبيرة، وكان القمر قبالتي .. ثم انزاح قليلًا عن يميني، وتغلغل نوره بين الغصون .. فجعلتُ أحرّك رأسي يمنة ويسرة لأراه كاملًا بينها .. وأنشدتُه بيتًا (أُعارض فيه بيتَ بشار بن بُرد):

يا قوم عيني لبدرِ الرّوضِ عاشقةٌ

 والعينُ أكرمُ خلقِ اللهِ عِرفانا

ومهرتُ الصورة بهذه الكلمات:

فانظر إلى آثار رحمة الله .. كالنور يسري بين الغصون!

ثم عدتُ، ونمتُ يملؤني من البهجة والأمل ما الله به عليم. واستيقظتُ بُكرةً يحرّكني شعوران؛ أوّلهما التحدي، وثانيهما الرغبة بالاستزادة من نعمة الله -تعالى- بقراءة وحي القلم بقلب جديد. وقد أوصى المتحدث أمسِ أن يُقرأ كتاب (حياة الرافعي) لـ(محمد سعيد العريان) قبل الشروع بوحي القلم، لوجود مفاتيح الكتاب الأخير في ثنايا الكتاب الأول. لكني لم أجد بأسًا في حمل (وحي القلم) وتصفّحه سريعًا، والفوز منه بشربةٍ تبلّ عروقي إلى حين (ريثما أقتني مفتاحه) .. وكان ذلك .. فتحتُ صفحةً (لا على التعيين)؛ فإذا بصاحبها يتحدّث عن الربيع فيقول:

“فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يُحي الأرض بعد موتها، وانظر كيف يَخلق في الطبيعة هذه المعاني التي تُبهج كلّ حيّ، بالطريقة التي يفهمها كلّ حيّ … انظر انظر! أليس كلّ ذلك ردًّا على اليأس بكلمة: لا..؟”

أغلقتُ الكتاب وقد كفاني من القراءة ما جمعني في ليلتي (شعورًا وتعبيرًا) مع ذلك الأديب العظيم.

تلك التقاطعات أو المصادفات تحدث كثيرًا عند القرّاء، وفي كل المراحل .. وقد تُوهِم بالتّمكّن قبل حينه، أو تشير إلى بذرة قابلة للإيراق إذا تلقّت العناية اللازمة.

القراءة عتبات، والعتبات عقبات لا بدّ لاقتحامها من زاد .. وخير الزاد ديمة الزاد.

عند العتبة الأولى اِغترف من كلّ لون وأسلوب، واجمع القصص اللطيفة، والمقولات الفاتنة، والأبيات الحكيمة، وما تشاء من المعلومات التي ستنقلك بمرور الوقت إلى مرحلة أعلى، تتمثل في أشخاص مميزين، يمتلكون عقولًا كبيرة، وقدرات استثنائية على نقل ما فيها إلى الناس، يحرّكون بها مشاعرهم ويواجهون أفكارهم ومعتقداتهم .. من خلال الكلمات .. والكلمات فقط!

لقد أمضيتُ أعوامًا من الانبهار بشخصيات فذّة، جعلتني أرى العالَم أوسع بكثير ممّا كان في نظري .. وكان لكلّ كاتبٍ مزاجُه وأسلوبُه. منهم الهادئ المتدفّق، والمثير للجدل، وصاحب المشروع العظيم، وو..

لكنّ عالم الأشخاص (الكتّاب) الذي انتقلت إليه لا يعدو (مع أهميته) قمرًا إذا ما قيس بشمس الأفكار، أو بالتصورات الكبرى للحياة والكون .. وإليها أغذّ السير بعون الله.

القراءة الحقّة رحلةٌ في العقول، عديدةُ الدروب، مدادُها الكتاب والعُمر .. تؤتي أُكُلَها كلّ حين .. لكنّها لا تخلو من عثرات..

وبعض الكتب دواءٌ يهتف بالإنسان يقول:

إنّ بارقاتِ الأمل على طريق التحديات إشاراتٌ تدعو لاستكمال المسير .. فهلمَّ إلى رياض الفكر وأُنسِ القلوب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى