المدونة

وترجل البطل الشهيد

آن للفارسِ أن يصلَ إلى وجهته الأخيرة، وآن له أن يستريح في ظلِّ الكرامة عند مليكٍ مقتدر، وآن له أن يلتحقَ بركب الأولين من النبيين والصديقين والشُّهداء وحسن أولئك رفيقًا.

ابتداءً من سيرة عابرة في أحد مخيمات اللجوء كانت بدايته البهية رياضيًّا نشأَ على عين المجاهد الأول الشيخ أحمد ياسين، ومرورًا بانخراطه في صفوف الجهاد منظِّرًا ومقاتلًا وخطيبًا مفوهًا، تهز كلماته الأبية مضجع أمَّة طال سباتها، ويترقب بحذر تخطف الأيَّام للقيادات حوله، ورغم أنَّ خاتمة الجهاد الأزلية هي الشَّهادة، إلا أن رهبة الموت وحزنه قد تبعثر رباطة الجأش في كثيرٍ من الأحيان.

ما زال ذلك الفجر يقظًا في ذاكرة الأمَّة، يوم لم يتبق سوى عجلة الكرسي المتحرك من الشيخ أحمد ياسين بعد اغتياله، الرجل المقعد الذي لم يكن يحرِّك إلا رأسه بصعوبة أقض نومَ الظَّالمين، فعاجلوه بأحد الحسنيين، وظنوا أنهم قد قضوا على الرَّأس، وأنَّ ذيلَ المقاومة سيخفت بعده، لم يدركوا أنه لا رأس للمقاومة، وإنما هو سنام الجهاد الذي يلتف حوله الكبير والصغير ممن فهموا درسَ الحياة، وأدركوا أنَّ ثمنها جنة عرضها السماوات والأرض لمن صدَقَ الله في سعيه.

بعد ارتقاء الشيخ ياسين شهيدًا أعلن عن الرنتيسي قائدًا للمقاومة، وفي غضون شهر نال الشهادة، وبقي الجميع متوثبًا في سماع اسم القائد الثالث، ولكن لم يعلن عن اسمه إلا بعد زمن ليس باليسير.

القائد الجديد لم يكن وجهًا جديدًا، بل هو من صُلب المقاومة، ومن لبها، صدق الله في سعيه وجهاده وكلماته، ولله دره من رجلٍ في زمن أشباه الرجال، قائد نافح عن مقدَّسات أمتنا، ولم يقبل إلا أن يذوق من نفس كأس العزة الغزية في أتون ملحمتها، لم يفر بأهله خارج أسوار غزة، وكان له نصيب من مصاب القوم في أرضهم، وديارهم، وأبنائهم، وما اشتكى وإنما أطلَّ بصورة مشرقة تذكرنا بمعنى العزة الغائب في زمن الذل الذي أصبح هواءً نتنفسه، حتى صار ديدننا أن ندهش عندما نرى قومًا يرفعون رؤوسهم الدَّامية كما يفعل أهل غزة العزة.

انتخب رئيسا لحماس بقطاع غزة في 2004م، وفي 2024 انضم لزمر الشُّهداء، خلال هذين العقدين سار على نهج الجهاد مقاومًا، وقائدًا ومتمثلًا قيم الصدق قولًا وفعلًا فطاب له أن يكون “من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدَّلوا تبديلًا”.

مصاب الأمَّة به جلل، ولكن الأمة التي زخرت بخالد ابن الوليد وطارق ابن زياد، وأبو عبيدة ابن الجراح، وبنور الدِّين زنكي، وصلاح الدِّين الأيوبي، وقطز وغيرهم من الهامات المشرقة، قادرة على أن تصدر غيرهم، فزمن الخيول لم ينقض ما دام بقي الظلم مخيمًا وطاغيًا، ولن تنحل عقدة هذا الأمر حتى يتحرر الأقصى كله، دون أنصاف الحلول، ودون الهدنات والمداهنات والنِّفاق العالمي الذي لن يوصل هذه الأمة بأقوامها إلا إلى الهلاك.

طبت يا أبا العبد حيًّا وميتًا، وطابت بك الدنيا نموذجًا وقدوة، وطابت بك الآخرة ضيفًا ورفيقًا، فلله درك، ودر من رسم النَّهج القسامي ابتداءً، ومن نفذه مقاومة، ومن اعتنقه فكرة وجاهد عنه ما استطاع إليه سبيلًا.

إلهام الحدابي

إلهام الحدابي باحثة - وحدة الدراسات والأبحاث في مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى