أدب

المقامة الإلغازية

أخبرَ مسلمُ بنُ عبدِ اللهِ قال: يمّمتُ البيتَ الحرام، معَ رُفْقَةٍ من الكرام، الذين تزولُ بهم وحشةُ القِفار، ويُستضاءُ بنورِهم في دجى الأخطار، فودّعْنا الأهلَ بالمصافحةِ والعناق، وركبْنا مراكبَ الأشواق، وطفقَ الطريقُ يطولُ على تباريحِ الحنين،  ولوعةِ القاصدين المحبِّين، فلما وصلنا أرضَ الحرم، وملتقى العربِ والعجم، ورأينا الكعبةَ المشرّفةَ تفترُّ بالنور؛ غمرتنا البهجةُ والسرور، وتحدّرتْ على الخدودِ دموعُ الجذَل، وصافحتِ الصبابةُ أياديَ الأمل، فلا أسرّ من ساعةِ التلاق، عند توهجِ المحبةِ والاشتياق.

فقضينا هناك مناسكَ العمرةِ فرحِين؛ طائفين وساعين، ومحلِّقين ومقصِّرين، فلما فرغنا من نُسكِنا، دلفنا إلى سكنِنا؛ لنُلقيَ العناءَ على الأسرَّة، ونغسلَ عنّا النّصبَ والمضرّة، بعد مشاقِّ الأسفار، والنأي عن الوطنِ والديار.

وبعد أنْ ذاقتِ الأجسادُ من الراحةِ ما شبعتْ، واستعادتْ قوّتَها التي فقدت؛ حملتْنا أفراحُ الروحِ إلى المسجدِ الحرام، لنقضيَ الوطرَ في السجودِ والركوعِ والقيام، والطوافِ والتلاوةِ والدعاء، والذِّكرِ والحمدِ والثناء.

وظللننا ننهلُ من منابعِ تلك اللذات، ونخلعُ عن أنفسِنا أسمالَ الضِّيقِ والمكروهات، ولسانُ حالِنا يقول:

هنا لذةُ الأرواحِ تمتدُّ والهوى

 يَعبُّ من السعْدِ الجليلِ ويرتويْ

وترحلُ آهاتُ الزمانِ وبؤسُها

 ويذهبُ حزنُ الدهرِ عنّا وينزويْ

وتُشرِقُ شمسُ الروحِ في النفسِ والسّنا 

 يهلُّ على سيرِ الحياةِ فيستويْ.

الإلغازية 6 01 المقامة الإلغازية

وبينا نحنُ على تلك الحالِ الوارفةِ الظلال، المتلألئة بأضواءِ المسرّةِ والجمال؛ إذ رأينا الناسَ وحدانًا وزرافات، متاقطرين جماعاتٍ تلوَ جماعات، حتى قعدوا بين يدي كرسيٍّ منصوب، منتظرين لحديثٍ محبوب.

وما هو إلا وقتٌ يسير، حتى أطلّ علينا شيخٌ كبير، فجلسَ على الكرسيِّ بوقار، وسلّمَ على القاعدين والنُظّار، فلما توسمتُه إذا هو شيخُنا أبو الحارثِ ذو الفقهِ والبيان، الذي سارت بفضائلِه الركبان، وأضحى يُشارُ إليه بالبنان، في جميعِ الأوطان.

وحينها وقعتْ الطيرُ على الرؤوس، ومدّ السكونُ بساطَه على الجلوس.

فابتدأَ الشيخُ بالبسملة، وثنّى بالصلاة والحمدلة، وصمتْ هنيهة منتظراً من الحضورِ طرقَ بابِ الأسئلة؛ إذ كان ذلك المجلسُ قد أُعدّ لذلك الغرض، وعلى ذلك يبقى وينفض.

فوقف-ساعتئذ- شابٌّ تبدو عليه سيما النبوغِ والنباهة، ويعزبُ عنه العيُّ والفهاهة، فأنشأَ يقول: ائذنوا لي بإلقاءِ سؤالات، وطرحِ مسائلَ عليَّ مشكلات، قد قرأتُها في رجزِ أبيات، وقد خفيَ عني فيها الجواب، وجهلتُ في مجاهلِها الخطأَ والصواب، وأنا طالبُ عربية، وقارئُ كتبٍ نحوية.

فقالَ الشيخُ: سلْ فمثلُكَ يُجاب، ولا يُصدُّ عنه ولا يُعاب.

فقالَ الشابُّ:

ما كِلْمةٌ في الجمعِ والإفرادِ 

لم تختلفْ عند أُهيلِ الضادِ

إلا إذا ميّزها الضميرُ 

وأنتَ-شيخي-العالمُ النحريرُ

فقالَ الشيخُ:

هيَ دِلاصٌ في الدروعِ يا فتى
 ومثلُها فُلْكٌ لديهمُ أتى

فقالَ الشابُّ:

وكِلْمةٌ تقلُّ في المعاني 

 بزائدٍ من أحرفِ المباني

وإنْ أتتْ بحذفِ ذاكَ الحرفِ 

 زادتْ معاني اللفظِ عندَ العُرْفِ

فقالَ الشيخُ:

أقولُ تلكَ تمرةٌ وتمرُ 

ومثلُ ذاكَ جمرةٌ وجمرُ

ونحوُ هذا عندهمْ قدْ وردا 

 وهْو كثيرٌ في الكلامِ عَددا

فقالَ الشابُّ:

وأيُّ لفظٍ إنْ أتى منفيا 

 غدا لإثباتِ اللُّغى حريّا

وإنْ بدا بحُلّةِ الإثباتِ 

 نفى المقالَ سائرَ الأوقاتِ

فقالَ الشيخُ:

فإنّه في النحوِ “كاد” فافهمِ 

 على خلافٍ للنحاةِ فاعلمِ

فقالَ الشابُّ:

وأيُّ حرفٍ يرفعُ الوضيعا 

ويخفضُ العليَّ والرفيعا

الإلغازية 2 01 1 المقامة الإلغازية

فقالَ الشيخُ:

إذا أردتَ عِلمَ ذا فإنّهُ 

 لامُ ابتداءٍ فاسمعنَّ شأنَهُ

فإنْ أتى ديارَ “ظنَّ” علّقا 

 نصبَ الكلامِ وبهذا وضعا

وعندما يجيءُ فعلاً يرفعُهْ 

بشَبَهِ الأسما فيسمو موضعُهْ

قالَ الشابُّ: أختمُ بهذا السؤال، لا فارقَ فناءَكَ النّوال، ولا غادرَ سموّكَ بهاءُ العلمِ والجلال:

وأيُّ حرفٍ جاءَ ذا الكمالِ 

 فشانَه بالنقصِ والإخلالِ

وإنْ أتى العاملَ والمعمولا 

قضى بفصلٍ رامَه فضولا

فقالَ الشيخُ:

النونُ إنْ خفّتْ من الإثقالِ

 ودخلتْ مضارعَ الأفعالِ

فإنْ عنيتَ الذِّكرَ للتوكيدِ 

أنقصتَهُ عن رتبةِ التمجيدِ

وإنْ جعلتَ النونَ للوقايةِ 

 فإنها تفصلُ في النهايةِ

ما بينَ معمولٍ وعاملٍ وذي 

 أجوبتي لما طرحتَ فاحتذِ

الإلغازية 5 المقامة الإلغازية

فلما سمعَ الشاب، صائبَ الجواب قال للشيخِ: لا عدمناك منهلاً رويّا، وسحابًا بالغيثِ نديّا، وزادَ اللهُ مدَّ معارفِكَ السَّنيِّة، ورفعَ آفاقَ سنائِك العليّة.

قال الراوي: ثم وقفَ رجلٌ تلوحُ عليه أعلامُ الفقهاء، وتظهرُ عليه حِليةُ أهلِ القضاء، فقالَ: أيها الشيخُ الكريم، والغيثُ العميم، أشكلتْ على أحدِ جُلّاسي مسائلُ فقهية، وقضايا تشريعية، فسألني فلم أُحِرْ عنها جَوَابا، ولم أدرِ فيها صوابا، فادخرتُها لك؛ لعلمي بطولِ باعِك، وكثرةِ اطلاعِك، وشهرةِ اضطلاعِك بحلِّ المشكلات، وفكِّ عُقدِ المعضلات، وقد عهدناك قبلةَ السائلين، ومُزنةَ الممحلين.

فقال: اعرضْ ما لديك من الإشكالات، فلعلَّ الله يُلهمُني فيها سدادَ الإجابات؛ فهو المُعين، ولولاه ما كنتُ أُبيْن.

فقالَ الرجلُ: ما الوضوءُ الذي يخلو من غسلِ عضوٍ  ظاهر، ولا ضرورةَ تمنعُ من تركِ غسلِه للمقيمِ والمسافر؟

فقالَ الشيخُ: هو غسلُ الرجلين عند الاغتسال، فيؤخرُ ذلك إلى نهايةِ الغسلِ مع بقاءِ الاتصال.

قالَ الرجلُ: ما مَيْتةٌ يحلُّ أكلُها بلا جُناح، ولا اضطرارٍ في مساءٍ أو صباح؟

فقالَ الشيخُ: هي ميتةُ السمكِ والجراد، وتلك نعمةٌ من اللهِ على العباد.

قالَ الرجلُ: ما شيءٌ يجوزُ أكلُه، وإهداؤه وبذلُه، ولكن لا يجوزُ لصاحبِه أنْ يبيعَ جزءًا من أجزائِه، ولو بولغَ في ثمنِ إعطائِه؟

فقالَ الشيخُ: هو الأضاحي إن ذبحتَها، طبختَ لحومَها أو تركتَها، فلا يجوزُ بيعُ شيءٍ من ذلك؛ لأنها قد جُعلتْ للهِ المالك.

قالَ الرجلُ: ما تقولون في رجلٍ صلى وفخذُه بادية، وصحتْ صلاتُه في الحاضرة والبادية؟

فقالَ الشيخُ: مرادُهم بالفخذِ العشيرة، صغيرةً كانت أو كبيرة، وعنوا ببادية، السكنَ في البادية.

قالَ الرجلُ: ما المكانُ الذي تجوزُ فيه صلاةُ النافلةِ اتفاقا، ولا تجوزُ فيه صلاةُ الفريضةِ وفاقا؟

فقالَ الشيخُ: ذلك المكانُ المقدسُ المنيف، هو داخل الكعبةِ زاداها الله  من التعظيمِ والتشريف.

قالَ الرجلُ: مسلماتٌ حرائرُ بالغات، ولسنَ للرجلِ من القريباتِ المحرمات، ولكنْ لا يجوزُ له أن يتزوجَ إحداهن، صغراهن كانت أو كبراهن؟

فقالَ الشيخُ: هنّ أمهاتُ المؤمنين، زوجاتُ خيرِ المرسلين، وعقيلاتُه في الدنيا ويوم الدين.

قالَ الرجلُ: رجلٌ صلى صلاةً واحدةً إلى عدةِ جهات، وصحّتْ صلاتُه كصلواتِه الأخريات؟

فقالَ الشيخُ: ذاك رجلٌ مسافرٌ صلى نافلة، واختارَ لها ظهرَ الراحلة.

قالَ الرجلُ: يومٌ من أيامِ البيضِ لا يجوزُ فيه الصيام، ويجوزُ في سائرِ الأيامِ في العام؟

فقالَ الشيخُ: ذاك اليومُ الثالثَ عشرَ من أيامِ التشريقِ للمقيمين، كما ورد في سنةِ سيد المرسلين.

قالَ الرجلُ: رجلٌ حصلَ له في صلاتِه سهوٌ ظاهر، غيرَ أنه لا يجوزُ له سجودُ السهوِ مع أنه قادر؟

فقالَ الشيخُ: ذاك سهوٌ في الصلاةِ على الأموات؛ لأنها صلاة ليس فيها ركعاتٌ ولا سجدات.

قالَ الرجلُ: ما صلاةٌ من الصلواتِ الخمسِ هي سرية، وقبلَها أربعُ صلواتٍ جهرية؟

فقالَ الشيخُ: هي صلاةُ العصرِ المعهودة، في يوم الجمعةِ المشهودة.

قالَ الرجلُ: قال رجلٌ لزوجتِه: أنتِ طالقٌ إنْ ولدتِ ولدينِ حيين، أو ولدتِ ولدينِ ميتين، أو ولدتِ ذكرين، أو ولدتِ أنثيين، فولدتْ ولدين فلم يحصلْ لها طلاق، وما جرى بينها وبين زوجِها فراق؟

فقالَ الشيخُ: تلك امرأةٌ ولدتْ بأنثى وذكر، فماتَ أحدُهما وتأخرَ الآخر.

فلما وعى الرجلُ إجاباتِ الشيخِ الصحيحة، وأقوالَه المحررةَ الرجيحة؛ قال: شكرَ اللهُ لكم أيها الشيخُ الجليل، ومنحَكم الأجرَ الكثيرَ الجزيل؛ فقد كشفت لي المعمّى، وأزحتْ عني شدةَ الغُمّى، فلا زالَ بحرُك زاخراً بالعلوم، وسماؤكَ مشرقةً بأنوارِ الفهوم.

قال الراوي: ثم انفضّ ذلك المجلسُ الصالح بالدعوات، والفوائدِ الجمةِ الكثيرات، وعُدنا إلى رحلِنا بهذه النعمةِ مغتبطين، وعلى سحبِ المسرةِ محمولين، وعقدنا العزمَ على لزومِ ذلك المجلسِ المباركِ مدةَ بقائِنا في البلدِ الحرام، في جميعِ الليالي والأيام، حتى نعودَ إلى مرابعِ الوطن، وديارِ الإقامة والسكن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى