أدب

تهذيب كتاب “مصادر الشعر الجاهلي، وقيمتها التاريخية” ج2

الباب الثالث: الرواية والسَّماع

الفصل الأول: اتصال الرواية من الجاهلية حتى القرن الثاني (1) (34 صفحة)

الدلالة العلمية والأدبية المعهودة في لفظ “الرواية” تأخَّرت عن غيرها من مدلولات لغوية للكلمة. فكانت الدلالة الأُولى للكلمة هي حَمْل الماء، والرَّوايا من الإبل: التي تحمل الماء، واحدتُها راوية. ثم دلَّتْ كلمة الرواية على مُطلَق الحمل. ثم انتقلت اللفظة بالمجاز إلى حمل الدِّيات، كما أُطلقتْ على سادة القوم؛ لأنهم يحملون أعباء غيرهم.

ثم استقرَّتْ في آخر معنى مجازي، على مرحلتين: الدلالة على حَمْل الشعر وحفظه (الحمل الأدبيّ)، ثم في آخر القرن الأول الهجري وبداية الثاني دلَّتْ على حَمْل الحديث النبويّ (الحمل العلميّ). فصارتْ في طورها الأخير الأكمل، تدل على مجموع معايير: الحفظ، والنقل، والضبط، والإتقان، والشرح، والإسناد. قامت فيه مجالس العلم على دعامتَيْ: القراءة من الكتاب، والسماع من الشيخ.

ثم نوَّه الأسد أن حديثه عن الكتابة والتدوين فيما سبق، يحتاج إلى ثلاثة أمور مُحدِّدة. هي:

1-   أن الأصل في انتقال الشعر هو الرواية الشفهية، وأن المكتوب المُدوَّن لم يكن ديوان القبيلة أو ديوان الشاعر كلَّه، بل بعضه أو مفردات منه. وأن النُّسَخ الموجودة كانت نادرةً، قد تقتصر على نسخة أمٍّ واحدة (2). وأن الإنشاد الناشئ عن الإعجاب هو الناشر لأي ديوان.

2-   رُواة الشاعر يقومون على ديوانه كتابةً وحفظًا، كذا ينشدونه في المجالس. وهنا ذكر الشاعر جريرًا حينما أمَرَ “الحسين” راويَه المُلازمَ له، أن يعدَّ ألواحًا ودواة، ليهجو بني نُمير هجاءه المشهور، وكانا في جُنح الليل. فكتبه وحفظه ثم ناما.

3-   هؤلاء الرواة كانوا يروون الأشعار حفظًا من صدورهم، لا عن الكُتب وحسب (3). فكانت الرواية بالطريقين. وضرب أمثلة لهذا التنوع، منها أن ثعلبًا لم يُرَ في يده كتابٌ، وأن مُعاصِره أبا سعيد السكري كان كثير الكتابة جدًا. وأن الرواة قيدوا ما ألقى إليهم الأعراب أثناء وفادتهم عليهم في المدن، أو رحلة الرواة إليهم في الصحراء؛ فكان أبو عمرو الشيباني يُفني الحبر الكثير متى دخل البادية للرواية، وكذا نقلوا عنهم شفاهةً وحفظًا.

ثم ينتقل إلى تفنيد كلام ابن سلَّام الجُمحي، الدائر حول الموضوع (4). ويقسِّمه ثلاثة أقسام: قسم حق: وهو أن المنقول عن الجاهلية أقلُّ القليل، وضاع أكثره. وقسم باطل: أنهم لم يعودوا إلى ديوان مُدوَّن أو كتاب. وأبطل هذا القول من الجمحي لأنه تعميم واسع، ذاكرًا ثلاثة أمثلة من كتاب الجمحي نفسه تبطله (5):

أ‌-  أن الجمحي عاب على بعض علماء القرن الأول أخذَهم من كتاب، لا من أهل البادية، دون أن يعرضوا ما أخذوه على أهل العلم به.

ب‌- أنه أثبتَ للنعمان بن المُنذر ديوانًا قيَّدَ فيه أشعار الفحول، ومدائح الشعراء له.

ت‌- أنه نفسه رأى كتابًا للشعر الجاهلي، كتبه يوسف بن سعد، منذ أكثر من مائة عام من عصره.

أما القسم الثالث فيحتاج إلى بيان وتوضيح؛ وهو قوله بالتهاء العرب عن الشعر بالإسلام والفُتُوح، وأنهم عادوا إليه بعد هلاك كثير من العرب. ويحتاج إثبات هذا الكلام لاستقراء تاريخي، حتى منتصف القرن الثاني. لكنَّ الأسد حمل هذا الكلام على محمل مجازي، هو التحسُّر لقلة مَن يفهم الشعر في زمن عودتهم إليه. مثل شكوى وتحسُّر أبي عمرو بن العلاء من قلة ما يُضاهي الشعر القديم في عصره. ثم تمَّمَ استدلاله بسوق أمثلة لعناية العرب برواية الشعر حتى منتصف القرن الأول. فذكر الأصمعي أن بني أمية حينما يختلفون في بيت من الشعر أو خبر، يرسلون إلى العراق استفسارًا واسترشادًا من غيرهم، أو يسألون قتادة (ت 118) وكان أجمع الناس. كما ذكر استفسارات الحجَّاج لقتيبة في بعض المسائل، واستشهد بأناس تعلموا النسب والأمثال (6) من النسَّابين والرواة، منهم: عبد الرحمن بن الأشعث (ت 84)، ومصعب (ت 73). كذا قول عبد الملك بن مروان لمُؤدِّب أبنائه: “رَوِّهم الشعر يمجدوا وينجدوا”. وهو نفسه قد وجَّهَ الحجَّاج بالبحث عن عالِم بالأشعار والأخبار والحلال والحرام، فبعث له الشعبيّ.

وكان لمعاوية مُعاونون يكتبون الأحاديث في دفاتر ويقرأونها، وله مجالس إنشاد الشعر. وكان للكثير من الأشراف مجالس للشعر والأخبار. منها مجلس والي المدينة سعيد بن العاص الذي ظنَّ فيه الشاعرَ الحُطيئةَ شحَّاذًا متطفِّلًا لرثّ ثيابه. وكان ابن عباس معروفًا بروايته الواسعة للأشعار الجاهلية. وخلُص الأسد من هذا كله إلى إثبات اهتمام العرب بالشعر الجاهلي، إنشادًا ومُدارسةً وتعليمًا.

ثم عاد الأسد زمنًا؛ ليُبين أن الرسول ﷺ كان يستنشد الناس الشعر والأخبار في المسجد، ويُعيده ويستحسنه. ومن ذلك سماعه مائة بيت من شعر أُميَّة بن أبي الصلت من الشريد بن سُويد. وقال عنه: آمَنَ شِعرُهُ وكفَرَ قلبُه. وقد يَنهى عن بعض الشعر، منه نهيه عن تحريض أمية بن أبي الصلت على المسلمين. وكانت السيدة عائشة وأختُها أسماء من رواة الشعر. وكان الصحابة يتقارضون الشعر، كما أخبر الحسن البصري. وكذا امتدَّ الأمر في خلفائه؛ فكان أبو بكر راوية يتمثَّل بالشعر في مواقف حياته، وكان من أشهر نسَّابي العرب. وكان عمر بن الخطاب يستنشد الشعر في الحل والسفر، وله أحكام نقدية نُقلتْ عنه، منها تفضيله زهير بن أبي سلمى على غيره. وكان عثمان بن عفَّان يقدم أبا زُبيد الطائي لمعرفته الأخبار والأشعار. ودخل غالب بن صعصعة على علي بن أبي طالب، يقدم ابنه (الشاعر الشهير الفرزدق) له، ويبلغه حرصه على إروائه الشعر والأخبار ليصير شاعرًا (7).

ثم انتقل لذكر النسَّابين؛ وغالب عملهم وثيق الصلة بالشعر، لارتباط الشعر بالقبائل وأنسابها. ونجد في بعض أقدم كتب الأنساب “نسب قريش” لأبي عبد الله المُصعب الزبيري كثيرًا من الأخبار والأشعار. ومن نسَّابي القرن الأول: دغفل بن حنظلة، زيد بن الكيِّس، النخَّار بن أوس العذري. ويبدو أن الناس على عهد عمر بن الخطاب كانت تتعلم الأنساب، وكانت للعصبية القبلية دور في تغذية هذا العلم، ولذا نهى عمر عن تعلمها. وقد استعان عمر نفسه بالنسَّابين لإرساء عطاءات المسلمين بديوان العطاء. وكان من النسَّابين: عقيل بن أبي طالب (الأخ الكبير لعلي بن أبي طالب)، وجبير بن مطعم، وقد أخذ الأنساب عن أبي بكر، وأخذ عنه سعيد بن المُسيب.

وخلص الأسد إلى أن رواية الأخبار والأشعار والأنساب لم تنقطع أبدًا؛ بل ظلَّتْ متصلةً مُحكمةً حتى عهد الرواة العلماء كثيري التدوين في القرن الثاني. ولا يمكن قبول قول ابن سلام بتشاغُل العرب بالجهاد والغزو عن الشعر، وعودتهم له بعد الفتوح. إلا في حال تأوُّل كلامه على أنه يقصد الرواية العلمية المنظمة ذات الضبط والتدقيق والتحري(8).

H تهذيب كتاب "مصادر الشعر الجاهلي، وقيمتها التاريخية" ج2

الفصل الثاني: طبقات الرُّواة (32 صفحة)

قسَّمَ الأسد الرواة إلى ست طبقات (9). على الوجه الآتي.

1- الشعراء الرواة

وهم طائفتان (10): مَن لازموا شاعرًا بعينه مُلازمةً؛ حتى يتعلموا منه ويكتسبوا خصائص تأليفه المميزة له. وبذا يُكوِّنون مدرسة شِعريَّة -كما سمَّاها طه حسين-. وطائفة لم يخصُّوا شاعرًا بالمُلازمة، بل رادوا مناهل شتَّى. وقد عرَّفَ النقَّادُ القدماءُ الشعراءَ الفحولَ بأنهم الشعراء الرواة.

ومثَّل للطائفة الأولى بالمدرسة المتَّسِمة بطول مُراجعتها أشعارها، والتي تبدأ (11)من أوس بن حجر، ثم زُهير، ثم كعب بن زهير، ثم الحُطيئة، ثم هُدْبة بن خَشْرَم، ثم جَميل بن مَعْمَر، ثم كُثَيِّر بن عبد الرحمن الخُزاعي. ويلتقون جميعًا في مُخالفة مذهب المطبوعين، وانتقاء الكلمات والقوافي؛ ممَّا أهَّلهم ليُمثِّلوا “مدرسة الصنعة” عند شوقي ضيف. كذا امتازوا بصلة الرحم التي كانت تصل شعراء آخرين أيضًا، مثل الأعشى الذي كان راوية خاله المسيَّب بن عَلَس.

أما الطائفة الثانية فهي كثيرة، ولها قيمة في اتصال رواية الشعر الجاهلي؛ فجميعهم من شعراء القرن الأول الهجري، وقد رووا شعر سابقيهم وحكموا عليه، واعتمد رواة القرن الثاني أحكامهم؛ وبذلك مثَّلوا حلقة وصل. ومنهم الطِّرمَّاح، والكُمَيْت، ورُؤْبَة بن العَجَّاج، وذو الرُّمَّة.

ثم أتى على ذكر جرير والفرزدق اللذين رويا الكثير من سابقيهم، وأخذ عنهم علماء القرن الثاني الكثير. وكانا يُضمِّنان الشعرَ الجاهليَّ أشعارَهما. فقال عنهما أبو عبيدة: “أخرجا مثالب بني تميم وعيوبهم، وكانا أعلم الناس بعيوب الناس”. أما جرير فكان يأخذ علم العرب عن جدِّه حذيفة بن بدر. وروى أبو عبيدة عن جرير الكثير، وروى عن ابنته نقلًا عنه. وكان خلفاء بني أمية يسألونه عن الشعراء الجاهليين والإسلاميين، فيخبرهم ينقد أشعارهم. وأما الفرزدق فقد رُبِّيَ ليصير شاعرًا؛ فكان كثير الرواية لامرئ القيس يعرف أخباره عن جده، وله أحكام نقدية على الكثير من الشعراء. قال عنه يونس بن حبيب: لولا شعر الفرزدق لذهب نصف أخبار الناس.

وذكر الأسد قصيدة له فيها ذِكرُ كثيرٍ من الشعراء، أتبعها بأخرى تذكر الكثير منهم أيضًا لسُراقة البارقيّ. واستنتج وجود أمثال جرير والفرزدق في معرفة شعر العرب وروايته.

وأول قصيدة الفرزدق:

وهَبَ القصائدَ لِيْ النوابغُ إذْ مَضَوا 

وأبو يزيدَ وذو القُرُوح وجَرْوَلُ

والفحلُ عَلْقَمَةُ الذي كانت له 

حُلَلُ المُلوكِ، كلامُه لا يُنحَلُ

النوابغ هم النابغة الذُّبْيَانيّ، والجَعْدِيّ، والشَّيْبَانِيّ. وأبو يزيد هو المُخبَّل السَّعديّ. وذو القُرُوح هو امرؤ القيس. وجَرْوَل هو الحطيئة. وعلقمة الفحل شاعر جاهلي مشهور.

2- رواة القبيلة

كانت القبيلة أحد أعظم معاقل الازدهار الشِّعري؛ فاهتمامها بالشاعر وتغنِّيها بالشعر لا مثيل له. حتى نال بني تغلب الهجاءُ لشدة تعظيمها وترديدها لمُعلقة عمرو بن كلثوم. وعليه، فقد انصبَّ جهد بعض العلماء الرواة في القرن الثاني على القبائل، ورواية أفرادها لأشعارها المنقولة بينهم. وكان الرسول ﷺ يستنشد الشريد بن سويد شعر أمية بن أبي الصلت، لأنه من ثقيف. واستنشد عبد الملك بن مروان رجلًا من جديلة شعرَ ذي الإصبع العَدواني. وروى ابن الكلبي بعض أخبار حاتم الطائي قائلًا “حدَّثني الطائيون”. وكذا نقل أبو حاتم السجستاني عن أشياخ قبيلة المعمَّر في كتابه “المعمَّرين من العرب”.

وكان خاصةُ أهل القبيلة اهتمامًا بالشعر أبناءَ الشعراء. وقد عاش كثير منهم في الإسلام، وبعضهم عُمِّرَ طويلًا، ووفد بعضُهم على خلفاء بني أمية، وأنشدوهم شعر آبائهم، وأخذ عنهم العلماء الرواة. وقد أنشد سَعْية ابن الشاعر السَّمَوْأَل بن عادياء شعرَ أبيه لمعاوية. وكان عَدِيّ بن حاتم الطائي يروي أخبار أبيه. ومن ذلك أنْ زادَ إبراهيم بن متمم بن نويرة في أشعار أبيه لينال إكرام الناس باستضافتهم إياه للرواية (12). وقد نقل الأسد في الهامش كثيرًا من أبناء الشعراء: القاسم بن أمية بن أبي الصلت، وعقبة بن كعب بن زهير، عبد الرحمن بن حسان بن ثابت.

عربي يكتب الشعر تهذيب كتاب "مصادر الشعر الجاهلي، وقيمتها التاريخية" ج2

3- رواة الشاعر

قد كان للشاعر -خاصةً الفحول الكبار- راوية مُلازم، لا يبرح الشاعر، يروي أشعاره وأخباره. ومضى الأمر سُنَّةً في شعراء العصور الإسلامية. كان للفرزدق -مثلًا- رواة، منهم مَن يروي شعره كلَّه، ومنهم مَن يروي شعر هجائه فقط. وبقي من أسماء رواة جرير الحسين. وكان الرواة يناطحون بعضهم؛ أيٌّ من شعرائهم أشعر وأجود. ثم شكا الأسد من شُحّ المصادر في الإعراب عن أسماء الرواة، وذكر القليل الموجود؛ مثل عبيد الذي كان يصحب الأعشى، كما ورد في “الشعر والشعراء” لابن قتيبة. وذكر الأصفهاني راوية له يُدعى يحيى بن متى، ورى الجواليقي في “المُعرَّب” أن اسم راويته يونس بن متى. ثم رجَّح الأسد أن هذا راوية واحد، لا ثلاث رواة (13).

4- رواة مُصلحِون للشعر

وهؤلاء ليسوا طبقة مخصوصة؛ بل ساهَمَ فيها غالب الرواة (14). وقد حاول الأسد رصدهم من ثنايا سطور المدونات الأدبية. فجاء من أمثلتهم برواية دخل فيها شيخ من هذيل على رواة الفرزدق، فوجدهم يُقوِّمون شعره، ويهذِّبون قوافيه، وكذا كان الحال مع رواة جرير. ومن ذلك رصده رواية إسحاق الموصلي لبيت ذي الرمَّة بالتحريف إلى الأصوب بعدما كان خطأ، قائلًا: نحتال لصوابه. ومنه حادثة بين الأصمعي وخلف الأحمر، أصلح فيها الأخير خطأ معنى ظاهر في شعر جرير، وقال خلف: “فقد كانت الرواة قديمًا تُصلِح من أشعار القدماء”. ثم يسوِّغ الأسد هذا بقلَّة تنقيح الشاعر شعرَه (15).

5- رواة وضَّاعون

وهنا يضرب الأسد عن النقاش في صلب الطبقة؛ لأنها من محلات البحث الأصيلة التي سيعود إليها. لكنه يركز على أسباب الوضع، ومن أهمها القصص وأحاديث السمر. وقد اهتمَّت الدولة الأموية بهذه المجالس، وكان البعض يتطاول فيها، مثل معاوية الذي كان يسامر غير واحد، حتى يكون في فسحة اختيار بينهم. ونصحه عمرو بن العاص باستقدام عبيد بن شَرِيَّة الجرهمي، فصار سميرَ لياليه، لشدة علمه بالعرب وأنسابها وأخبارها. وكانت القصص شائعة عند العامة، فاشتهر القصَّاصون والوعَّاظ والمُسامِرون، وصاروا يخلطون الوعظ بالقصص والأحاديث وأخبار الماضين.

ويُعنى الأسد بمَلْمَحَيْن من هذا الأمر: الأول أن المُتصدِّرين للتفسير في المساجد اهتموا بالعرب وأخبارهم، كأبي علي الأسواري، الذي فسَّر في البصرة 36 عامًا، وكان شديد الاهتمام بالقصص والأخبار. والثاني أن هؤلاء طوائف القصَّاص كانوا يزاوجون الأخبار بالشعر الجاهلي.

وقد بدأت جهود القُصَّاص باكرًا في حقبة الإسلام، فكان منهم الأسود بن سريع التميمي، وكان صحابيًّا. وقد روى عبيد بن شَرِيَّة الشعر الصحيح والمنحول، من مثل الشعر الذي نسبه إلى عاد وثمود وطَسْم وجَدِيس ولُقمان. وهو شعر غثّ يُضاف لزيادة قيمة وبهاء المَرويّ في نظر العامة. ولا عجب أن تضمَّن الأشعار في القصص، لكن العجب أن تصير هذه القصص مادةً تاريخية تدخل كتب المغازي والسِّيَر والتاريخ. مما دعا الرواة العلماء إلى التصدي لهذه الظاهرة؛ فكشفوا المنحول الذي أدخله ابن إسحاق في سيرته، والواقدي في مغازيه، وإنْ كان نبَّهَ إلى وضعه في مواطن من كتابه (16).

أما الموضوع الثاني فهو الأنساب؛ فكان بعض العرب يحرصون على إثبات نسبهم العربي في أشعارهم، وكان بعض الرواة ينحلون الشعر لنسب بعض ذوي السلطان والمال، لما لمسألة النسب من أهمية عند العرب. ومن ذلك نحل شعر لقُضاعة لتنتسب إلى حِمْيَر، وكذا صنعوا أبياتًا في نسب جُذام ولَخْم وعاملة. أما الموضوع الثالث؛ فهو أيام العرب في الجاهلية. هذا وتتصل الموضوعات الثلاثة في كثير من الوجوه.

6- رواة علماء

العلماء من الرواة مُنبثُّون في كل طبقة. وعلم أكثر رواة الطبقات الثلاث الأولى كان محصورًا في شاعر بعينه أو قبيلة بعينها، وعلم الطبقة الخامسة دار على المنحول من الشعر؛ وهذا ما قصده بالرواة العلماء الذين اختصوا بدرس الموضوعات والمنحولات (17). وهم قوم أخذوا الصناعة عن أستاذ ونُسَخ مكتوبة، في مدرسة من مدارس علم الشعر، وفي المجالس والحلقات التي كانت تُعقد في المساجد ومنازل الشيوخ، يُحصِّلون علمهم عن شيوخ مشهود لهم بالحفظ والرواية. وتقوم الدراسة العلمية على خطوتين: قراءة ديوان الشاعر أو القبيلة، مع متابعة التلاميذ في نسخهم، وما يلقيه الأستاذ من تصحيحات وتفسيرات. ويضاف إلى النمط العلمي في هذه المرحلة الرحلة إلى البادية والاستماع إلى الأعراب.

ويُرجِّح الأسد أن أول المدرسة أبو عمرو بن العلاء (ت 154)، وحمَّاد الرواية (ت 156). وأخذ عنهما مَن تلاهما، مثل: ابن الأعرابي، ومحمد بن حبيب، وأبو حاتم السجستاني. وأخذ عن هؤلاء السكري وثعلب وأضرابهما. وانقسم هؤلاء العلماء مدارسَ: مدرسة البصرة، والكوفة، والمدينة، وبغداد. وكان أتباع كل مدرسة يتعصبون لشيوخهم ويجرحون (18) شيوخ المدارس الأخرى، ويتهمونهم بالوضع والنحل. وكانت هذه الطبقة من العلماء الرواة محطَّ الاحترام من النقاد التالين لهم. فيصفهم -مثلًا- ابن سلام الجمحي بأنهم أهل العلم، ويسمي غيرهم رواة باللفظ المطلق عن قيد العلماء.

DALL·E تهذيب كتاب "مصادر الشعر الجاهلي، وقيمتها التاريخية" ج2

الفصل الثالث: الإسناد في الرواية الأدبية (28 صفحة)

يخالف الأسدُ الرأيَ العامَّ بأن الإسناد الأدبي تأثَّرَ بالإسناد الحديثي، كما قال غالب المُحدَثين، ومثَّلَ لهم بالأستاذ مصطفى صادق الرافعي. ويرى الأسد أن الإسناد الأدبي نسيج وحده، غير متأثر بالإسناد والرواية الحديثيين. بل الرواية الأدبية أقدم من الحديث وتناقله، ممتدة من العصر الجاهلي؛ فكان رواة الشعر والأخبار والنسَّابون يأخذون عن شيوخهم الأقدمين. كما أورد -تدعيمًا لرأيه- أن الرواية سلوك طبيعي لأية أمة وفي كل عصر، حتى مع انتشار الكتابة، بينما رواية الحديث أمر طرأ على العرب بعد الإسلام. وخلُص إلى أن الرواية الحديثية، إنْ لم تكن متأثرةً بالأدبية؛ فهُما نمطان مستقلان، وأصلان منبثقان عن الحاجة الطبيعية.

تفصيل مسألة الإسناد الحديثي والأدبي (19)

1-   لا نعرف -على وجه الضبط والتدقيق- متى بدأ الإسناد في رواية الحديث؛ فنرى -مثلًا- بعض التابعين لا يسند حين التحديث. رُوي عن ابن سيرين: “لم يكونوا يسألون عن الإسناد، حتى وقعت الفتنة؛ فلمَّا وقعت الفتنة نظروا مَن كان من أهل السنة أخذوا حديثه، ومن كان من أهل البدع تركوا حديثه”. وكان قتادة يقول بلغنا عن النبي ﷺ، وبلغنا عن عمر، وعن علي، ولا يكاد يسند. حتى قدم حماد بن أبي سليمان البصرة وأسند، فبدأ قتادة يخبر بالإسناد (20).

2-   علماء القرن الثاني كانوا يسندون الحديث، فيرفعون بعضه ويرسلون بعضه (21). وكثير من رواة الأدب كانوا رواة حديث أيضًا، لكنْ غلبت عليهم الرواية الأدبية. وكانت الرواية للحديث والأدب تمتاز بالإسناد المتصل -إلى الرسول أو الصحابي في الحديث، أو إلى قائلها في الأدب-، وفي كثير من الأحيان تنقطع وتُرسل (22). لكن المتأخرين قد احتذوا مناهج المُحدِّثين والفقهاء، وقلدوا الحديث والفقه بعد نضوج المنظومات العلمية، ووضوح مسالك التدقيق في السند والمتن. مثل ذلك ما فعله أبو البركات الأنباري في كتابه “الإنصاف في مسائل الخلاف” بإيراده خلاف مدرستَيْ البصرة والكوفة في النحو، كما يُورد خلاف الشافعي وأبي حنيفة، وكما فعل السيوطي في “المُزهِر” و”الأشباه والنظائر في النحو”(23).

ثم يسأل الأسد: إذا كان الحال على ما ذهبنا؛ فلِمَ التزمتْ رواية الحديث الإسنادَ في الغالب، ولم تلتزمه الرواية الأدبية إلا في النادر؟! ويقصد بالإسناد هنا الإسنادَ المتصل المرفوع لا المرسل. فإن جميع مرويات القرنين الثالث والرابع ذات إسناد مرفوع إلى علماء القرن الثاني (مثل أبي عمرو بن العلاء، وحمَّاد الراوية، وخلف الأحمر،….). ويجيب أن الإسناد المتصل في الحديث قام عليه عاملان: الأول داخلي يتمثل في اتِّقاء الراوي الكذبَ على الرسول، وإرادته بلوغ طمأنينة النفس فيما ينقله عن النبي ﷺ، وتقسيم تبعة نقل الحديث على سلسلة السند كلها وصولًا إلى النبي ﷺ. والعامل الآخر خارجي؛ أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن، وإكساب هذا المصدر ثقةً موقوف على كونه صادرًا عن الرسول ﷺ بسند متصل.

ومن أثر هذا الشعور بثقل المنقول وعظم مسئوليته؛ كان كثير من المُحدِّثين من الصحابة والتابعين يتخفَّفون من أعباء الحرج باللجوء إلى الشعر وإنشاده. ومن ذلك قول عمران بن حصين: “إن لكم في المعاريض لَمندوحةً عن الكذب”، وقول شعبة حينما روى الأشعار للناس بدل الأحاديث: “أنا -والذي لا إله إلا هو- في هذا أسلم مني في ذاك”. ولذلك أيضًا كان الأصمعي يتحرَّج في تفسير القرآن والحديث، ولم يرفع إلا أحاديث يسيرة.

ثم يسأل الأسد: هل كان على حق في ذهابه إلى عدم وجود إسناد متصل في الرواية الأدبية للأشعار الجاهلية؟ ويعرض في سبيل الجواب بعض ما ورد بالسند المتصل. وهو قسمان (24) :

DALL·E 2024 02 29 20.22.23 Visualize an ancient Arab poet reading to his students who are gathered around him in a circle in the setting of the old Arabian era. The poet cent تهذيب كتاب "مصادر الشعر الجاهلي، وقيمتها التاريخية" ج2

- القسم الأول: ما اتصل بالشاعر الجاهلي نفسه

وكان لحسان بن ثابت نصيب الأسد في اتصال السند إليه ضمن الشعراء الجاهليين؛ ذلك لكونه أحد الصحابة المشاهير ذوي الصلة بالرسول ﷺ، فنُقلتْ أخباره وأشعاره باتصال إليه. وثاني الشعراء المتصلة روايتهم هو الأعشى. وقد سبق الحديث عن راويه المُعمَّر “عبيد”، كما نقل الأسد روايتين من “الأغاني” و”شرح شواهد المُغنِي” للسيوطي فيهما اتصال سند للأعشى؛ يدوران حول حفظ قرين الأعشى من الجن قصائدَه عن ظهر قلب، واسم الجني مسحل بن أثاثة. ويعلق الأسد في الهامش بعدم قدح أسطوريَّة المتن واستحالته في السند المتصل، وبأن العرب كانوا يظنون هذا الظن في شعرائهم الجاهليين وبعض الإسلاميين.

والشاعر الثالث ذو السند المتصل امرؤ القيس، أورد له رواية مُسندة من طريق رُؤبة بن العجَّاج، وأضاف في الهامش أن بعض الشعراء المعمَّرين المسلمين أدركوا امرأ القيس، مثل ربيع بن ضبع وعمرو بن مسبح الطائي. والشاعر الرابع هو سعية بن غريض، وهو ابن الشاعر السموأل بن عادياء، وقد أدرك الإسلام، وروى عن شعراء جاهليين آخرين غير أبيه. والخامس الحُطيئة، والسادس النابغة الجَعْدِي.

- القسم الثاني: ما اتصل بالعلماء الرواة في القرن الثاني

العلماء الرواة تتصل إليهم غالب الروايات الأدبية. وهم طبقتان: الأولى من مثل: أبي عمرو بن العلاء، وحماد، وخلف، والمُفضَّل،…. وطبقة التلاميذ، من مثل: الأصمعي، أبو زيد، أبو عبيدة، أبو عمرو الشيباني، ابن الأعرابي، محمد بن حبيب، أبو حاتم السجستاني، محمد بن سلام، وغيرهم (25).

ثم أورد بعض روايات يروي فيها هؤلاء عن شيخ من الأعراب الذين كانوا يتلقون منهم الشعر واللغة، وندرة منها مرفوع إلى جاهلي. منها رواية الأصمعي: “حدَّثني مَن رأى مساور بن هند؛ أنه وُلِدَ في حرب داحِس، قبل الإسلام بخمسين عامًا”. ومنها رواية المُفضَّل الضبي: “وكان من قصة هذا اليوم -يوم أعشاش- ما حكاه الكلبي، عن المفضل بن محمد، عن زياد بن علاقة التغلبي، أن أسماء بن خارجة الفزاري حدَّثه بذلك قال: أغار بسطام….”.

ثم ركَّز الأسد على ثلاث روايات عن أبي عبيدة والكلبي، منها حديث أبي عبيدة عن أبي عمرو: “كانت عامة أخباره عن أعراب قد أدركوا الجاهلية”. ثم أورد بعض روايات ليثبت صحة النقل الأخير من رواية أبي العلاء عن مُعمَّرين عاشوا الجاهلية؛ مثل أبي رجاء العطاردي، وأبي طفيلة. ثم -ليكمل الإثبات- أدرَجَ بعض أسماء المعمَّرين الذين عاشوا حتى آخر القرن الأول، وأول الثاني الهجريين. من مثل: عرام بن المنذر بن ربيعة، وشُريح بن هانئ، ومنهم شعراء مثل أرطأة بن سُهيَّة. مع إيراده ملحظ الجاحظ ببعض المُبالغة في أعمار هؤلاء. وقد صرَّح الأسد أنه أثبت في هذه المسألة ما يقبله العقل، ويصح في الفهم (26).

وفي الهامش أثبت خطأ مصطفى صادق الرافعي في “تاريخ آداب العرب”، الذي خطَّأَ فيه الرواة في مسألة أخذ أبي عمرو بن العلاء عن عرب أدركوا الجاهلية؛ بما أورده سابقًا من روايات مُثبتة لذلك (27).

· صعوبات الروايات المُسنَدَة إلى الجاهلية (28)

وبحثُ مِثلِ هذه الروايات المُسنَدَة إلى ما قبل علماء القرن الثاني؛ صعبٌ عسير غير كبير جدوى في نظر البحث العلمي المعاصر. للأسباب التالية:

1-   لأنها قليلة لا تكاد تقيم ما نستطيع بحثه (29).

2-   كثير منها مُجهَّل الإسناد، يُقال فيه: (عمَّن أدرك فلانًا، حدَّثني مَن رأى فلانًا، عن رجال أدركوا الجاهلية).

3-   بعضها منقطع لا يذكر فيه إلا رواية واحد قبل هؤلاء العلماء.

والثقة بهذه الأسانيد لا سبيل إلى تحقيقها. لكنْ ما يُرجِّحه البحث العلمي الدقيق هو وجود الإسناد في الرواية الأدبية، وأن الرواة العلماء أخذوا الشعر الجاهلي روايةً عمَّن قبلهم. ثم يستدل الأسد بروايتين للأصمعي. يقول في أولهما عن بعض الشعر الهُذَليّ: “سألتُ ابن أبي طرفة عن هذا فلم يعرفه، ولم يكن عند أبي عمرو فيها إسناد”. ويقول في الأخرى، عن قصيدة للنابغة: “ليس عندي فيها إسناد، وهي له حقًّا”. فيقرر أن الرواة كان لهم إسناد، لكنْ لم يلتزموا ذكره. وكانوا يكتفون بالتنويه على عدم وجوده متى لم يكن لهم.

· لماذا توقَّف الإسناد عند هؤلاء العلماء؟ (30)

يُعلل توقف إسناد الروايات الأدبية عند طبقة العلماء الرواة، إلا في النادر، بأمرين:

1-   أخبار الجاهلية وأشعارها قبل القرن الثاني كانت رحمًا عامةً بين الجميع، يفيد منها أهل العلم الديني في تفسير النصوص والكشف عن دلالاتها، ويتعلمها أبناء الخلفاء والأمراء والوجهاء من مُعلِّميهم، ويتسامر بها الخليفة والولاة في دواوينهم. ولم تبدأ الرواية العلمية بمعناها الدقيق إلا في القرن الثاني؛ فأخذها مَن جاء بعدهم منهم موثقةً صحيحةً، ثم صار الإسناد في القرنين التاليين إليهم.

2-   الشعر الجاهلي من أمور الدنيا التي يتمتع بذكرها الناس، ويرتزق بها البعض، ولم يكن فيها إعنات إظهار السند كما في الحديث. لذا كان للناس مُتنفَّس في عدم ذكر الإسناد؛ بل بعض المتأخرين كان يضيق بالإسناد رغم قصره ووجازته، مثل المُبرّد؛ فكان يحذف الإسناد كليةً، ويستخدم “يُروى، قِيلَ، ذُكر”، وأحيانًا يذكر شيخه المباشر فقط، وأحيانًا أخرى يذكر الإسناد. وقد حذف أبو بكر الصولي الأسانيد في كتابه “أدب الكتاب” للاختصار.

ويستنتج الأسد أن الإسناد -حتى في القرنين الثالث والرابع- لم يكن أصلًا ثابتًا في الرواية الأدبية، ولا أساسًا يُحتكَم إليه في الاستشهاد على صحة الرواية، وأن الإسناد كانت مهمته الأصيلة؛ أنه قرينة دافعة لتهمة النقل من صحيفة دون التلقي عن شيخ. أما مَن اتُّهِمَ بالكذب أو الصحفيَّة فيطالبه العلماء بالإسناد في روايته. لذا لا نجد علم جرح وتعديل أدبي، حتى التجريحات كانت تُلقى إلقاءً مُجرَّدًا عن دليل -في الغالب-.

الهوامش:

[1] قد يسأل القارئ: كيف يتناول الأسد هنا عنصر الرواية، بعدما أثبت الكتابة؛ والأخير أصعب وأشق في الإثبات، وإثباتها مُغنٍ عن إثبات الرواية؟ ورغم وجاهة هذا الرأي؛ إلا أن الأسد لم يقف في هذا الباب على إثبات الرواية الشفهية للشعر الجاهلي، بل على تثبيت دعائمها، وتأصيلها، وتوضيح مسالكها، ورسم خريطة للإسناد الشعري الجاهلي. فهو بهذا الباب يضيف أساسًا بالغ الأهمية في تدعيم بيان مصادر الشعر الجاهلي، وقد استخدم كل هذا التقعيد في الباب الرابع الذي يرد فيه على قضية انتحال الشعر الجاهلي.

[2] الندرة هنا نسبية، ولها مُحدِّدات. فهذه النسخ مرتبطة بالمجتمع العلمي، والمجتمع المهتم بالأدب والاحتفاظ بأصول منه للاشتغال أو الهواية. كما أن هناك مراكز علمية، لا يعزب عنها شيء من العلم متى وجدتْه، تهتمُّ بكل حرف قالته العرب. وكل الشعراء الناشئين نشأوا على أشعار سابقيهم ودواوينهم، يحملونها في صدورهم وفي صحائفهم؛ ليتعلموا منها ويُنشِئوا على منوالها. فإشارة الأسد هنا بالندرة تُحمل على النسبية، لا على معنى الندرة المطلقة.

[3] هنا أنوه إلى أن الأسد ظلَّ يُعاني في جمع الأدلة وتركيبها فيما سبق؛ ليثبت أن الرواة كانوا يكتبون، لا يروون شفاهة وحسب. ثم أراد هنا إثبات رواية الرواة شفاهةً. وهذا من تحصيل الحاصل. والأَوْلَى التنبيه هنا فقط.

[4] الكلام المقصود هنا واقع في ج1، صـ25، من نسخة “طبقات فحول الشعراء” المعروفة الآن، بتحقيق السيد/ محمود محمد شاكر.

[5] هذا طريق في الرد بالإفحام، بطريق الرد على الخصم من كتابه أو من كلامه. ولا يعني هذا أن إثبات عودة حركة التدوين الشعري للكُتب والمدونات تتمثل في هذه العناصر وحسب.

[6] سيأتي على ذكر تعلُّق الأنساب بالشعر بعد قليل.

[7] هذا يؤكد ما سقته سابقًا من أن طبقات الشعراء المتوالية كانت من أهم وسائل حفظ الشعر؛ حيث لا يتعلم الشاعر الشعر إلا من أعمال الشعراء. وهنا أستأنس بكلام لأنيس منصور، في كتابه “عاشوا في حياتي”، يقول فيه إن الموسيقيَّ لا يتعلم الموسيقى من زقزقة العصافير، بل من معزوفات السابقين، كذا الكاتب يتعلم من أعمال سابقيه.

[8] وفي الحق، كلام ابن سلام محمول على الأكثرية والتحسر -كما عرض الأسد-، رغم أنه اعتبر وجه حقيقة الكلام، وخاض في الرد عليه. ومن ترجيح وجه الأكثرية في الكلام قراءة بقية كلام ابن سلام؛ فيقرر -رغم ما أورده- إلى أن الشعر صنعة لها العارفون العالمون الذين لا تفوتهم فائتة فيه، ولا ينطلي عليهم خداع فيه. غير كلام كثير عن الصنعة النقدية، التي تدل على التحسُّر على السياق العام الذي يكون -غالبًا- مُتخَمًا بالمغفَّلين السطحيين، لكنه يقصد أن هذا لا يعني خلو العرب عن الناقدين الأفذاذ الذين يعرفون الزائف من الحقيقي، كابن سلام نفسه. وهذا سمت معروف عند المؤلفين الأفذاذ في حديثهم عن المغفلين الذين يسطون على الساحة في كل زمن.

[9] الكلام التالي في أقصى درجات الأهمية في توثيق الشعر الجاهلي؛ فإنه بمثابة ثبت العلماء، الذي يثبتون فيه طريق وصول العلم إليهم ممن سبقهم. ومنه يقدر القارئ الاطلاعَ على جواب سؤال: كيف وصل إلينا الشعر الجاهلي في مرحلتَيْ الفتوح واستقرار الدولة؟

[10] هنا كلام يُرسي ما سبق سوقُه؛ من أن الشعراء أنفسهم أوثق طرق الإبقاء على الشعر وتداوله؛ للتعلم منه، والمُحاكاة على مثاله.

[11] كل حديث عن البدء -هنا أو في موضوع الأدب الجاهلي عامةً- متعلِّق بالمنقول وحسب، وصاحبه يقصد قصدًا مُضمَرًا البدء فيما نعلم ونُقل إلينا. وهذا لا يعني -بالضرورة- أن هذا أول استخدام أو ظهور فعلًا.

[12] معنى ظاهر هذا الخبر اكتشاف المنحول من غيره، وإلا ما جاء الخبر ابتداءً. هذا تنويه وحسب، حتى لا يسارع أحد في الظن الخطأ.

[13] هذه العملية -رغم عدم أهميتها للقارئ العام- تنبئ عن استخدام الأسد لبعض خطوات المنهج التاريخي، التي تستخدم لسدّ بعض الفجوات التاريخية، والتسبيب لبعض الأحداث، أو لتصحيح بعض المشكلات الظاهرية. فقد جمع بين رواية ثلاثة مصادر أدبية لراوية الأعشى، ثم لحظ أن الراوي الثاني في كل الروايات عن تفسير لفظ في بيت للأعشى هو “سماك بن حرب”، ثم أفاد من بعض الروايات أن الراوي عبيدًا هذا كان نصرانيًّا عِباديًّا، ثم افترض فرضًا منطقيًّا في استنتاج تحوير اسم الراوي بين: عبيد، يحيى، يونس. فكان اسمه الأقدم -تخمينًا- يوهانس أو يوحانس، ثم استخدم مرة بالترجمة فكان عبيدًا، ومرة بالتعريب فصارت يوهانس إلى يونس، وصارت يوحانس إلى يحيى. قام يحل بهذا الفرض إشكالًا رآه. وهذه الخطوة المنهجية يستخدمها المؤرخون كثيرًا في سد الفجوات وحل المشكلات. وكما هو واضح هي خطوة خطيرة، محفوفة بالزلل، تستلزم الكثيرَ من الروابط المنطقية ذات التسويغ المستقيم الواضح في دلالته -على اختلاف أنواعها-، وكثيرًا من الإقناعية. ورغم هذا، فهي من خطوات المنهج العلمي في إعادة بناء المشاهد التاريخية الكلية.

[14] يقصد الأسد أنهم ليسوا مخصوصين بأفرادهم وذواتهم، بل مجموعون بصفة من صفاتهم. وهذه الطبقة تدل على شدة اجتهاد الأسد في الجمع، ودقة نظره أثناء القراءة، ونباهة عقله.

[15] وهذا لا تثريب عليه في العرف الشعري العام، دون زيادة تدخُّل قادحة في نسبة الشعر لشاعره. فاللحظة الشعرية الحقيقية لحظة مُذهلة عن أمور وأشياء قد لا تبدو للشاعر، حتى إن كرَّرَ وأعاد؛ فقد يكون متقوقعًا داخل لحظته الشعرية، ذاهِلًا  بها عن غيرها. وقد يكون معطوبًا في العروض وموسيقى الشعر بعض العطب، فيأتي مَن يعالج هذا العطب القليل.

[16] سيعود الأسد لتناول هذا تفصيلًا في الباب الرابع.

[17] من ضمن ما يقصد إليه الأسد هنا أن هذه الطبقة وما يليها اكتمل لديهم التأهيل النقدي، بأدواته الجمَّة؛ وصبوا جهودهم على تنقية الجسد الشعري العام من هذه الموضوعات التي دسَّها البعض بين ثنايا الصحيح. ومعنى هذا أمران: انتقضاء زمن التدوين عن الجاهلية، فلم يعد أحد يدَّعي جديدًا منسوبًا إلى الجاهلية، ومعناه اكتمال التأهيل النقدي الذي به يكشف الناقد الأدبي عن الحقيقي والزائف. وتأهيل النقد الأدبي الحق بالغ الصعوبة، دونه خرط القتاد -كما يقولون-. وإن صنعة الأدب من أصعب الصناعات المعرفية وأعقدها.

[18] الجرح مصطلح يخص مجالات الرواية عن الأقدمين، سواء في الحديث النبوي أو الأدب. ويعني رمي شخص بعيب يعيب قبول الرواية منه. والتجريح ضده التعديل، والعدالة تعني أهلية الراوي للرواية عن طريق حيازة شروط بعينها.

[19] هذا العنوان من إضافتي. كما أن التنسيق التالي من إضافتي إبانة عن المقصد الذي ذكره الأسد دون هيكلة، وقد يمر على القارئ دون إفادة.

[20] هذا الكلام يُدخل الوهم على القارئ، فالأمثلة التي أتى بها عن تابعيَّيْن كبيرين “ابن سيرين، وقتادة”؛ وهذا حد زمني متقدم جدًا، ولفظ ما أورد عن “السؤال عن الإسناد” لا عن “الإسناد”. وما أورده يحمل إسنادًا بالفعل، به تابعيُّ يسند إلى صحابي (عمر، علي،…). أما الكلام الوارد (أننا لا نعرف متى بدأ -على وجه الضبط والتدقيق- الإسناد في رواية الحديث)؛ فهو فاسد فسادًا بيِّنًا لكل طالب علم وصل لمرحلة المتوسطين في منظومة العلوم الإسلامية. فالحديث كان به إسناد منذ عهد الصحابة، وعقب وفاة الرسول ﷺ. ومن هذا، الأثر المتعلِّق بما دار بين أبي موسى الأشعري وعمر بن الخطاب -أثناء خلافته-، في مسألة التوجيه النبوي في مسألة الاستئذان: مَن استأذن ثلاثًا ولم يرد فليرجع. فعجب عمر كيف غاب هذا التوجيه النبوي عنه، وطلب من أبي موسى شاهدًا أيْ إسنادًا آخر، أو طريقًا أخرى لحديث النبي. ونلحظ هنا أن الإسناد موجود، رغم أن هذه الطبقة هي طبقة الملاصقين للنبي ﷺ، المتعاملين معه مباشرةً. إلا أن المُباشرة لا تعني إلا اللقاء الفردي أو الجماعي المباشر، ولا تعني معرفة “كل الصحابة” بـ”كل الأحاديث”. فكان يسأل الصحابيُّ الصحابيَّ ممَّنْ سمعتَ؟ يقصد هل سمعت من الرسول ﷺ مباشرةً أم من صحابي سمع من الرسول ﷺ.

وهذا كلام معروف، ومنهج لا يخفى -كما قلت-، بل إن بداهة العقل تفترضه دون نقل؛ فما الحال وهو النقل، وما الحال وهو من مناهج المُحدِّثين من الصحابة؟! وما الحال والأصل أن مناهج التحديث -التي من أصولها الأساسية الإسناد- قد بدأت أيام الرسول؟!

وللتدليل الإرشادي، ولخطورة الكلام وضرورة إيضاحه؛ سأنقل هنا -مجرد تمثيل، وإلا فالكلام يطول- من كتاب متخصص، هو “مناهج المُحدِّثين”، د/ أحمد عُمر هاشم (دار المعارف، 2014م). حيث أورد (في عنوان “منهج الصحابة في الرواية”، من مبحث “مناهج المُحدِّثين في القرن الأول الهجري”)؛ أن “أول مَن وضع قوانين الرواية فيهم أبو بكر الصديق، وسائر الصحابة” صـ9. وأقرَّ ثلاث طرق للتثبت من الحديث فيما بينهم -أيْ في أوائل الشهور بعد موت الرسول ﷺ، وفيما بعد-. هي:

1-      أن يروي الحديث أكثر من واحد.

2-      يشهد البعضُ مع راوي الحديث.

3-      يُستحلَف راوي الحديث. (صـ10)

ولا يغيب عن اللحظ أن الطريقين الأوليين إسناد مباشر صريح، والثالثة إسناد من قبل الصحابي نفسه، بالسند المباشر السماعي بينه والرسول ﷺ، مع قرينة هي الحلف. فكيف لا ندري متى بدأ الإسناد؟! غير أن الأحاديث كانت شائعة كل الشيوع بينهم، مكتوب بعضها -كما سلف في تعليق لي سابق-، لذلك لم يشترطوا شرط الإسناد في الرواية، وهذا تفسير بعض ما اختلط على الأسد؛ فوهم منه أننا لا نعلم متى بدأ الإسناد في رواية الحديث. فلمَّا كثرت العوامل والتنازعات بدأوا في “اشتراط الإسناد”، لا في “الإسناد”. وفارق بين السماء والأرض يقع حائلًا بين المعنيين. مع ملحظ آخر؛ هو تعديلهم الصحابةَ وعدم القدح فيهم.

ويوضح د/ رفعت فوزي عبد المطلب بعض الحقائق عن نقل السنة بين الصحابة. منها: اهتمامهم الشديد بتداول السنة بينهم، وسماعها. ومنها التعديل العام للصحابة، ثم يقول: “ومن مظاهر التشدُّد في أخذ السنة أن بعضهم حرص على ألَّا يأخذ حديثًا منقطعًا، لم يسمعه ناقله من رسول الله ﷺ، إلا إذا بيَّنَ سلسلة الرواة الذين يوصلون الحديث إلى رسول الله ﷺ … ومن هنا نشأت بذور الإسناد، والحرص على بيان سلسلة من نقلوا الحديث عن رسول الله ﷺ” (المدخل إلى مناهج المحدِّثين، الأسس والتطبيق – صـ29 – دار السلام – طـ1 – 2008).

ولا أقصد بالحديث إلا دفعًا لوهم القارئ الكريم. ولا يقدح ما أوردت في الأستاذ الأسد، فالعلم أكبر من كل أحد؛ لذا هو رحم بين الجميع.

[21] قال الإمام السيوطي: المرفوع “وهو ما أضيف إلى النبي ﷺ خاصةً”، والمُرسَل هو “قول التابعي الكبير: قال رسول الله ﷺ كذا، أو فعَلَه”، يقصد دون معرفة الصحابي الذي أخبر التابعي بقول النبي أو فعله. وفي عُرف الفقهاء أن كل ما رفع إلى النبي ﷺ دون سند التابعي والصحابي فهو مرسل. (انظر تدريب الراوي، جلال السيوطي، ج1، صـ185، 195، مكتبة دار التراث، طـ2، 1972). ولعل الأسد هنا يستخدم الاستخدام الأخير، لا الأول؛ فيقصد بالمرسل ما سقطت وسائطُ تلقيه عن النبي ﷺ (سلسلة السند)، ويقصد بالمرفوع ما أسند موصولًا حتى النبي نفسه ﷺ.

[22] كلام مُلقى على عواهنه كسابقه. ويرجع إلى بعض المواطن السابقة لاستقاء الصحيح. ولا أزيد لأنه ليس من صلب الموضوع، ولأن ما سبق كافٍ في التدليل على التوسُّع في تقريرات الأسد عن الحديث النبوي، وقلة معرفته بالموضوع كليةً، فلا يؤخذ منه، ولا يعول على كلامه فيه.

[23] نلحظ أنه تمثَّل بكتب في النحو واللغة، لا في الأدب. وهذا ليس مثالًا على موضوعه. ولو مثَّل بكتاب كالموازنة بين الطائيين (البحتري وأبي تمام) لأبي القاسم الآمدي توفي 371هـ؛ لكان أدخل في باب الأدب.

[24] نلحظ هنا أنه يصنع خريطة لطرق الرواية، بعضها متصل بالجاهليين أنفسهم، وبعضها وسيط يتصل بالطبقة الأبرز “العلماء الرواة” الذين كان لهم كل الفضل في التمحيص الدقيق في المرويات، ونقدها، ورد الزائف منها، وشرح الصحيح، وتفسير غريبها. من خلال كثير من التأهيلات التي توفرت لهم، من تعلُّم على أثبات الشيوخ، ولقاء مباشر بالأعراب الحاملين للأدب الجاهلي والنقل عنهم، وإعمال كثير من آليات النقد الأدبي، ومقابلة ما يروونه مع آراء المجتمع العلمي في المدارس المختلفة.

[25] سيعود على ذكرهم كثيرًا في البابين التاليين بالتفصيل.

[26] ما يقبله العقل هنا المقصود به العادة، لا العقل بالفعل. فإن العقل قابل أن يعمر الإنسان ما شاء الله له أن يعمر؛ لعدم تعارض هذا مع ثابت فيه. لكن العادة أن أقصى مدة التعمير تتراوح حول 120 عامًا. لذا وجب التنبيه على كلامه.

[27] الأسد كثير التخطئة للأستاذ مصطفى صادق الرافعي. لكن يبدو أنه ليس تتبعًا شخصيًّا؛ لأنه سيلخص رأيه في الباب التالي، ويثني على عمله.

[28] العنوان من إضافتي، كذا وضع العناصر تحته. وفي النص كلام مرسل. وعلَّمته للأهمية.

[29] معنى هذا السبب أنها روايات قليلة لا يمكن استنباط معرفة مُعمَّمة منها.

[30] العنوان من إضافتي للأهمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى