أشتات

الحركة الإسلامية السودانية وتحديات إدارة الدولة: تحدي الحرب والسلام (3-4)

ظلت قضية الحرب والسَّلام في جنوب السُّودان من التَّحديات الأساسية التي واجهت الحركة الإسلامية السودانية في إدارتها لدفة الحكم، بل كانت من الدواعي والأسباب التي جعلتها تقوم بتنفيذ الانقلاب العسكري في 30 يونيو 1989. السيد محمد الأمين خليفة عضو مجلس قيادة الثورة ورئيس وفد الحكومة لمفاوضات السلام مع الحركة الشعبية ورئيس مؤتمر الحوار الوطني حول قضايا السلام وثق عملية مخاض السلام منذ تفجر ثورة الانقاذ الوطني وحتى اتفاقية نيفاشا. يقول عن البدايات: “لقد ظل تحقيق السَّلام هاجس الثورة الأول، وأولويتها المقدمة. وقد يعجب بعض النَّاس من القول بأنَّ هذا كان هاجسها، وهي ما تزال في رحمِ الغيب، ذلك أنه كان من البواعث الأولى في تفجير الثورة، ومحور من محاور التقاء من التقت عزيمتهم على تفجيرها. فكان إيقاف الحرب، ونشر رايات السَّلام السبب الأول الذي دفع إلى استخلاص السلطة من الأيدي التي عجزت عن مجابهة قضايا الوطن، وبددت أمنه، وشتت أهله مما أصاب نظام ذلك العهد السياسي من انفلات أمني، يلد كل صباح محوراً جديداً للفرقة والشتات ” .

ويؤكد محمد الأمين خليفة أنَّ ثورة الإنقاذ جاءت من أجل السَّلام ومنذ يومها الأول: “لقد أعلنت الثَّورة منذ اليوم الأول لتفجيرها في الثلاثين من يونيو وعبر بيان الثورة الأول (أنها جاءت من أجل تحقيق السلام العادل لجميع السودانيين، السلام الذي لا يكون على حساب مواطن، أو قبيلة، أو دين، أو معتقد، ولا على حساب إقليم من أقاليم السودان على الآخر، السلام الذي لا يكون فيه مظلوم أو مغبون، ولا غالب ولا مغلوب على أمره فالسلام أولوية قصوى، وكان دافعاً أساسياً لتفجير الثورة) “.

وحتى يتحول هذا الكلام إلى واقع عملي، وقول يصدقه العمل – على حسب كلام محمد الأمين خليفة – فقد: “اتخذت الثورة عددًا من الاجراءات لتهيئة المناخ السليم لإجراء مفاوضات موضوعية مع الحركة الشعبية نوجزها في الآتي:

1\ إعلان العفو العام عن كل من حمل السلاح لأسباب سياسية منذ عام 1983م.

2\ إعلان وقف إطلاق النار من جانب واحد والالتزام به بعد أربعة أيام فقط من انطلاقة الثورة، وتجديده كل شهر إلى أن خرقته الحركة بعد أربعة أشهر، في التاسع والعشرين من أكتوبر 1989 م باحتلالها لمدينة الكرمك.

3\ الموافقة على استمرار تدفق الإغاثة عبر برنامج شريان الحياة “.

وكان من التحديات أيضًا التفاوض مع الدولة التي تستضيف الحركة الشعبية وهي أثيوبيا، حتى تكون مساهمة ومساعدة في عملية السلام، وكذلك في التفاوض المباشر مع الحركة الشعبية:

“وعلى طريق تهيئة المناخ الملائم للتفاوض والحوار كثف السودان اتصالاته بإثيوبيا لشرح أهداف الثورة وسعيها نحو تحقيق الأمان، والاستقرار، والسَّلام، ولتصويب العلاقات السودانية الإثيوبية لأهميتها في ذاتها، وبحسبانها مدخلًا لقضية السَّلام”.

وكان من نتائج هذه الاتصالات مع أثيوبيا الجلوس المباشر على مائدة التفاوض مع الحركة الشعبية في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا بعد أقل من شهرين من قيام الثورة: “ثم خطت الحكومة خطوة أخرى عملية وجريئة، وذلك بقيامها بالالتقاء مع الحركة الشعبية، وإجراء مباحثات مباشرة في أديس أبابا في أغسطس من عام 1989 طلباً للسلام ونبذاً للحرب الأهلية التي ليس فيها منتصر”.

ولكن يرى الكثيرون أن مشكلة الجنوب قد تطورت ونحت مناحي أخرى وتشعبت في الوقت الذي أصبحت إدارة الدولة بيد الحركة الإسلامية منذ يونيو 1989، يقول المحبوب عبد السلام (موثق العشرية الأولى للإنقاذ): “جاءت ثورة الإنقاذ الوطني في يونيو (حزيران) 1989 وقد تبدلت مشكلة الجنوب السوداني عن جوهر أطروحتها الأولى بوصفها وجهاً من وجوه أزمة الحكم الاتحادي (الفدرالي)، إذ كانت ذروة سنام مطالب الجنوبيين بين يدي استقلال السودان في 1956 م هي إقرار حق الجنوب في التمتع بوضع فدرالي ضمن إطار السودان الواحد. لكن عند أوان ثورة الانقاذ كانت قضية الجنوب قد عبرت الحنث الأول وتطورت ثورة مسلحة يهديها طرح سياسي لأحزاب ناشئة تُطالب بتمام الاستقلال لوطن جنوبي منفصل، وبعد أن كانت تمرداً لكتيبة عسكرية تحركه الرِيب في زُرقة فجر الاستقلال، وأصبحت يومئذ حركة تدعو إلى (سودان جديد) يُحفِزها للمقاومة طرح سياسي مبين”.

d2c5f22a5b الحركة الإسلامية السودانية وتحديات إدارة الدولة: تحدي الحرب والسلام (3-4)

لذا يمكن أن نقول أن الحركة الإسلامية السودانية في إدارتها للبلاد من 1989 وحتى 1999 واجهت تحديات كثيرة ، ولكن كان أهمها وأخطرها هي الحرب في جنوب السودان، لـتأثيرها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والخارجي، ويؤكد ذلك المحبوب عبد السلام بقوله : ” لقد كانت قضية الجنوب بالفعل التحدي السياسي الأساسي للثورة الوليدة “.

وحدث تحول كبير في قضية الجنوب من قبل الحركة الشعبية، ورؤيتها للحرب والسلام : ” في المقابل كانت الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة العقيد جون قرنق دي مبيور قد قطعت أشواطها في التحوُل الجذري بأطروحة الحرب والسلام، نحو منفستو بيان للحركة يعتمد عقيدة الماركسية اللينينية بالكامل ويصل عبر منهاجها إلى تحليل جديد للأزمة، أفضى إلى عقيدة جديدة في السياسة السودانية “.

وعلى ضوء هذه العقيدة الجديدة – حسب المحبوب عبد السلام – قسّمت الحركة الشعبية الساحة السياسية السودانية إلى قسمين: قسم تعتبرهم أقرب إليها وإلى أفكارها: “أما أولي القربى في الكلام والسلام فهم عناصر اليسار السوداني الماركسي المنتمين إلى الحزب الشيوعي أو إلى روافده الديمقراطية أو هم الاشتراكيون الديمقراطيون أو العناصر اللبرالية ذات الثقافة الغربية أو التوجه الغربي “.

والقسم الآخر فهم في معسكر الخصومة والأعداء، وكان على رأس هذا المعسكر بالنسبة للحركة الشعبية هي الحركة الإسلامية وذلك منذ ايام الجبهة الإسلامية القومية أي قبل انقلاب 30 يونيو 1989 : ” أما الحركة الإسلامية لا سيَما تمثُلاتها الأخيرة في الجبهة الإسلامية القومية 1985 – 1989 م فهي تُمثِل خط المواجهة الأول للثقافة التي حملت الحركة الشعبية السلاح لمقاومتها، لا تستشعر سوى الخصومة تجاه رموزها وشخصياتها وعناصرها “.

ومع جملة التعقيدات هذه، والرغبة في حل معضلة التحدي الأكبر للدولة الوليدة، شرعت الحركة الإسلامية في محاولة الحل، وذلك استنادا لتاريخها وخبرتها الطويلة : ” ولكن حيوية الحركة الإسلامية وشبكة علاقاتها السياسية والاجتماعية سُرعان ما عبَرت عن نجازتها برؤية تقترح ملء الفراغ السياسي الذي أعقب الانقلاب بفتح منابر الحوار للناس كافة، على نحو ما أسلفنا في طرح فكرة مؤتمرات الحوار “.

وبما أنَّ الحرب والسَّلام هي التَّحدي السِّياسي الأكبر فكان لابد أن يكون المؤتمر الأول عن قضايا الحرب والسَّلام: “وبالطبع كانت قضية الحرب والسَّلام أو قضية الجنوب هي الأولى في سُلَم الأولويات، وكان (مؤتمر الحوار الوطني حول قضايا السَّلام) هو الأول انعقادًا في 9 سبتمبر (أيلول) 1989 م، أي بعد أقل من شهر على عودة وفد الثورة من المفاوضات مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، والتي أفضت إلى نتائج محدودة توشك أن تؤول إلى الصفر “. (المحبوب : الحركة الإسلامية السودانية دائرة الضوء وخيوط الظلام).

ويؤكد ذات الرؤية الدكتور سليمان حامد وهو يرصد تجربة الإسلاميين في الحكم: “لما كانت قضية السَّلام من القضايا التي تمس العصب الحسَّاس لشعب السودان بأكمله، ويتطلب تحقيقها مشاركة القوى السياسية كافة باعتبارها مسألة قومية بالدرجة الأولى، فقد يممت الإنقاذ وجهها شطر الشَّعب ودعته إلى الائتمار في حوار وطني مداره قضية السَّلام، كأول نشاط تبتدر به نهج المؤتمرات وإشراك الآخرين”.

وناقش المؤتمرون أسباب المشكلة في جذورها ومروا على المعالجات السابقة وبحثوا في آثار الحرب والحلول النَّاجعة لها: “كانت المحاور التي بحثها المؤتمرون هي جذور مسألة الجنوب وخلفياتها التاريخية، وبحثوا إلى جانب ذلك المعالجات السابقة، كما تعرضوا بالبحث لآثار الحرب التي أفرزتها، ثم انتهوا إلى مقترحات الحلول للمشكل “.

وتوصل المؤتمرون لمقررات وتوصيات أصبحت هي برنامج الإنقاذ للسلام وبشّرت به في المحافل المحلية والإقليمية والدولية: “ومن بين أهم المقررات والتوصيات التي خلص إليها المؤتمرون كان اعتماد النظام الرئاسي والفدرالي، وقد صارت تلك المقررات والتوصيات هي مدارالحراك السياسي، والبرنامج التفاوضي للحكومة، ووسيلتها للتعبئة، ونشرت تلك التوصيات على أوسع نطاق كما أضحت هي مادة خطابها الإعلامي في المحافل الدولية والإقليمية على حد سواء”.

وتمت الدعوة للمؤتمر من كل أنواع الطيف السياسي ومثَل المؤتمر انفتاح لدولة الانقاذ على كافة المجتمع، وعلى رأي المحبوب عبد السَّلام فقد: “مثَلت دعوة الإنقاذ لأعضاء المؤتمر من ألوان الطيف كافة أول فرصة للثورة للتواصل مباشرة مع قطاع جديد من النخبة غالبه من خارج الصف الملتزم للحركة الإسلامية، فمن بين أعضاء المؤتمر والبالغ عددهم (106) عضواً لم يزد أعضاء الحركة الإسلامية المعروفين عن (10) أعضاء، وإذ استشعرت الأغلبية طمأنينة ومودة وصدقاً لا سيما من رئيس المؤتمر رئيس لجنة السلام بمجلس قيادة الثورة (العقيد يومئذ : محمد الأمين خليفة)، وتعرّفت عبره لأول مرة على وجه جديد إيجابي للإنقاذ وراء الأسماء المبهمة والرُتب العسكرية المتباينة”.

وكذلك كسبت الانقاذ تعاطفاً جديداً من أوجه مختلفة من المجتمع، اهدوا لها خبرتهم وتجاربهم وظهرت في ثنايا التوصيات وحولتها الإنقاذ إلى برنامج للسَّلام تُفاوض وتحاجج به: “وبذات القدر أو أكثر كسبت الإنقاذ تعاطفًا ومددًا جديدًا من وجوه المجتمع وأساتذة في الجامعات ومثقفين وفقهاء في القانون وعلماء تقليديين، أكملوا جميعاً عملهم عند التوصيات الختامية وقد زوَدوا ثورة الإنقاذ الوطني ببرنامج للسلام أعاد الطمأنينة للوفد المفاوض للجولة التالية، إذ ذهب إلى لقاء الحركة الشعبية وهو يستشعر أنه أضحى يتوفر على مادة جيدة، وعلى أفق للحل بدا يومها قريبًا”.

وبعد محادثات أديس أبابا المباشرة بين الحكومة والحركة الشعبية في أغسطس 1989 م، تواصلت الجولات والمفاوضات والإتفاقيات، ورصدها الدكتور العقيد محمد الأمين خليفة (مفاوض الانقاذ الأول) في كتابه (خطى السلام خلال عهد الإنقاذ من أديس أبابا 1989 وحتى نيفاشا 2005): “فكانت جولة المفاوضات الثانية في نوفبر – ديسمبر 1989 م بالعاصمة الكينية نيروبي تحت رعاية الرئيس الأمريكي جيمي كارتر. وجولة المفاوضات الثالثة في يناير 1992 م في مدينة فرانكفورت الألمانية، وظهر فيها بند الاستفتاء وحق تقرير المصير. ثمَّ جولة المفاوضات الرابعة في مايو 1992 م في العاصمة النيجيرية أبوجا تحت رعاية الرئيس النيجيري إبراهيم بابنجيدا. وجولة المفاوضات الخامسة في مارس 1993 م في العاصمة اليوغندية كمبالا تحت رعاية الرئيس موسفيني. وجولة المفاوضات السادسة في أبريل 1993 م بالعاصمة النيجيرية أبوجا مواصلة للجولة السابقة. وجولة المفاوضات السابعة في مايو 1993 بالعاصمة الكينية مع الفصيل المتحد. ثم كانت مبادرة (الإيقاد) وتمت لقاءات على أثر تلك المبادرة في مارس – مايو – يوليو وسبتمبر من عام 1994 م بالعاصمة الكينية نيروبي “.

وأيضًا لخّص الدكتور سليمان حامد جهود الانقاذ المتعلقة بشأن مسألة الجنوب في كتابه (تجربة الإسلاميين في السودان) فكتب:

“مضت جهود الانقاذ باتجاهين، فبينما كانت ساحات القتال تشهد تكثيفًا لنشاط القوات المسلحة مدعومة بالمجاهدين من قوات الدفاع الشعبي، مما أدّى لاضعاف وجود الحركة العسكري، ونتج عن ذلك تحرير بعض المدن، بينما كان الحال كذلك على جبهات القتال، كان العمل السياسي يبحث عن حلول جذرية للمسألة إذ أقرت الحكومة النظام الفدرالي عام 1991م، ومنحت الولايات بموجبه حق إصدار القوانين التي تلائمها في حال رفضها القوانين الإسلامية “.

ثم تطورت الأحداث الميدانية وكانت في صالح القوات المسلحة والمجاهدين مما جعل الحركة الشعبية تغير من استراتيجيتها وتستعين بالخارج والمعارضة الشمالية : ” لعل الحركة أحسَت ضعفاً في موقفها العسكري والسياسي مما دفعها إلى التطواف في أوروبا واسرائيل لشرح موقفها العسكري، وربما لذات الأسباب لجأت الحركة إلى التنسيق مع المعارضة الشمالية (التجمع) وربما كانت العوامل الأهم التي دفعت باتجاه العمل المشترك هي مساعي الولايات المتحدة وبعض الدوائر الغربية لتنسيق الأدوار بين المعارضة ودول الجوار (يوغندا، إثيوبيا، وإريتريا) “.

ثم غيرت المعارضة خططها التكتيكية بعد فشلها في إسقاط النظام : ” ولما لم تفلح المعارضة في احتواء النظام اتجهت نحو تغيير نهجها التكتيكي، ففي يونيو 1995م، عقد التجمع مؤتمراً في أسمرا اتفق المؤتمرون بموجبه على الآتي :

• منح الجنوب والمناطق المهمشة حق تقرير المصير.

• اعتماد العمل العسكري لإسقاط النظام.

• قيام نظام ديمقراطي تحظر فيه الأحزاب ذات التوجه الديني “.

وبين مؤتمر أسمرا الأول في يونيو 1995 وأسمرا الثاني في يناير 1996 حدث أمران ذات أهمية قصوى لتطور الأوضاع في السودان، وكانا على قدر من الأهمية : ” وقوع محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك في إثيوبيا في يونيو 1995 م، واتهام السودان بالضلوع فيها، والإعلان عن إجراء الانتخابات لاختيار المجلس الوطني ورئيس الجمهورية في مارس من عام 1996 م، في إطار التحول من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية أي التحول من نظام عسكري شمولي إلى نظام مدني “.

وأكبر تطوير لعملية السلام هو ما عُرف ” بـمشروع السلام من الداخل، ففي العاشر من أبريل 1996 جرى توقيع الميثاق السياسي للسلام بين الحكومة السودانية من ناحية ومجموعة حركة استقلال السودان بقيادة د. رياك مشار، ومجموعة بحر الغزال بقيادة القائد كاربينو كوانين بول، وشهد القائد أروك طون أروك التوقيع. ومضى السعي في ذات الاتجاه لتنضم مجموعة جبال النوبة بقيادة محمد هارون كافي، ويونس دومي كالو، وتطور الميثاق في خاتمة أمره ليصبح اتفاقية للسلام الشامل في السابع عشر من مارس من عام 1997 م، تضاف إليها اتفاقية جبال النوبة، ثم فشودة مع الدكتور لام أكول أجاوين “.

وتم توقيع رسمي لهذه الاتفاقية في القصر الجمهوري وتم تضمينها من ضمن مواد دستور 1998م لتصبح من ثوابت الدستور ولا تُلغى إلإ باستفتاء من عامة الشعب : ” وُقعت اتفاقية الخرطوم للسلام في القصر الجمهوري في الحادي والعشرين من شهر أبريل 1997م، وكانت الآلية التي اتفق عليها لإدارة شئون الجنوب هي مجلس تنسيق الجنوب برئاسة د. رياك مشار، وتضمنت الاتفاقية فترة انتقالية مداها أربع سنوات، ولم يقتصر الأمر على إجازة المرسوم الدستوري الرابع عشر الذي تضمن الاتفاقية، بل أدرج في مسودة الدستور المطروحة للتداول يومئذ، وأجيزت لاحقاً في عام 1998 ضمن مواد الدستور “.

3 2 الحركة الإسلامية السودانية وتحديات إدارة الدولة: تحدي الحرب والسلام (3-4)

تحديات الإدارة والاقتصاد

ومن أهم التحديات التي واجهت الحركة الإسلامية في السودان، كيفية إدارة الدولة وطريقة الحكم. لأن نظم الإدارة قد تطورت في الدولة الحديثة. وأهم ملفات الإدارة – والمؤثرة جداً – هو الملف الاقتصادي، لما له من كبير الأثر في شكل الحكم ونوعيته، وما يمكن أن يحقق مكاسب للدولة تنعكس على الوضع السياسي والإجتماعي في آن واحد.

ومعروف أن طريقة (الإدارة التنظيمية) لدى الأحزاب السياسية تختلف كثيراً عن إدارة الدولة، والتي أصبحت – في هذا العصر – معقدة جداً. ويمكن أن تكون بارعاً جداً في إدارة أي عمل تنظيمي أو سياسي في جامعة أو مدينة أو ولاية أو على مستوى البلد كلها، وتفوز في الإنتخابات وتنجح في التعبئة والاستقطاب لحزبك أو برنامجك المعين، ولكن أن تدير دولة لها سيادة وحكومة وأرض وشعب وحدود ولها علاقات دولية وتقاطعات خارجية، وتدير ملفات اقتصادية واجتماعية وثقافية ورياضية وعلاقات سياسية بين مختلف القوى السياسية، وأجهزة رسمية وشعبية ومؤسسات مدنية وعسكرية، كل هذا مختلف جداً ويحتاج لخبرة ودراية وخارطة طريق. فماذا فعلت الحركة الإسلامية في تحدي الإدارة والاقتصاد ؟

ومعروف أن الدولة السودانية سادها اضطراب وفوضى قبل مجيئ الانقاذ وذلك في كل المجالات، وعدم الاستقرار هذا أدّى لتشكيل الحكومة ثلاث مرات في ثلاث سنوات. وكتب دكتور محمد محجوب هارون في كتاب (المشروع الإسلامي السوداني : قراءات في الفكر والممارسة) وتحت عنوان: (تحديات الواقع . . طريق الأشواك) : ” على أبواب ثورة الانقاذ كانت الدولة في أجهزتها المختلفة أسيرة لضعف الفاعلية أو انعدامها أحياناً. وكانت في كوادرها – إلى حد كبير – مصفدة بضعف الكفاءة ومتهمة – في بعض الاحيان – في ذمتها “.

وأيضًا: “خسر جهاز الدولة التشريعي – الجمعية التأسيسية – وهو عصب أي نظام تعددي، صلاحياته لصالح الجهاز الحزبي. وتركت الجمعية التأسيسية – التي فقدت دورها الرقابي على الساحة – حكومة فوق المحاسبة، فيما استأثرت الحكومة بهذا الوضع لتفعل ما تريد استرخاءاً وفسادًا ودنو همة على نحو ما قلنا سالفًا”.

وظهر هذا الأمر جلياً في الحكومة التنفيذية والتي كان الأداء فيها ليس بأفضل حال من الجهاز التشريعي: “لم يكن جهاز الدولة التنفيذي استثناءاً على جهازها التشريعي. انفضت الوزارة وائتلفت خمس مرات في ثلاث سنوات، وكانت بذلك أوضح الأدلة وأقواها على عدم استقرار الحكم”.

وحسب ما جاء في البيان الأول لثورة الإنقاذ الوطني فإن من أسباب قيامها الأساسية التدهور المريع والمخيف في الملف الأمني والإقتصادي، وكانت هذه التحديات في انتظارالثورة الوليدة، يقول هارون:

“وهكذا استقبلت (ثورة الإنقاذ الوطني) – أول ما استقبلت في قاعة الانتظار – غير قليل من التحديات. وكان الأمن والاقتصاد أكثر المهام إلحاحاً وأدعاها للمعالجة المستعجلة. كما يمكن أن يستشف من خطاب رئيس مجلس قيادة الثورة والوزراء في افتتاح اجتماعات مجلس الوزراء، في تموز (يوليو) 1989”.

والسؤال الموضوعي إذن، ماذا فعلت (ثورة الانقاذ) تجاه تلك التحديات خاصة فيما يتعلق بتحدي إدارة الملف الاقتصادي ؟ ويقول المراقبون إن الانقاذ اشتغلت في عدة محاور مختلفة لمجابهة تحدي الاقتصاد حيث:

” بدأت (حكومة الانقاذ) مجهودها في حقل انقاذ الاقتصاد على عدة محاور شملت ملاحقة الفساد الذي خلفته حكومة السيد الصادق المهدي، وضبط وعدالة توزيع السلع التموينية وتوفيرها، وتشجيع الاستثمار “.

وكان لابد من رفع شعار يُمثّل رؤية وأطروحات الحكومة الجديدة لملف الاقتصاد، فكان ما عُرف ببرنامج (الاعتماد على الذات) خاصة وأن الحكومة تعرف أنها وبخلفياتها الإسلامية ورفع شعاراتها ستكون في مجابهة المجتمع العالمي والذي سيحرمها من امتيازات الدعم والقروض الميسرة، كما هو ديدن المنظمات المالية الدولية وأهمها البنك الدولي وصندوق النقد ” وكان أشهر الشعارات التي طرحتها (ثورة الانقاذ الوطني) هو شعار (نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع) والشعار دعوة صريحة للاعتماد على الذَّات وتحقيق الكفاية الذاتية”.

وحدث اضطراب في بداية الثورة خاصة فيما يتعلق بالسياسات والقرارات الاقتصادية : ” يكاد المهتمون يجمعون – لا شك أن من بينهم القائمون على إدارة الاقتصاد أنفسهم – على عدم استقرار السياسات الاقتصادية للثورة “.

وتمثل عدم الاستقرار والاضطراب في أن بداية الثورة كانت الدولة تتدخل في النشاط الاقتصادي وتسعى لضبط الأسواق وتحديد الأسرار مما يُثبت (هيبة الدولة) كما يعتقد بذلك القائمون على الأمر خاصة في مجال الاقتصاد : ويُؤكد ذلك محمد محجوب هارون بقوله:

“بدأت الثورة أكثر ميلاً إلى فلسفة اقتصادية تقوم على تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي وضبطها لحركة السوق، لكن ما انفكت هذه السياسة أن أفسحت مكانها لسياسة تقوم على اقتصاديات السوق، بلغت أوجها في تبني تحرير سعر الجنيه ورفع الدعم عن سلع أساسية كالخبز والوقود والدوء”.

وفي البدايات كونت الحركة الإسلامية عدداً من المجالس المتخصصة لتجابه بها المشكلات الطارئة والقضايا اليومية، وكتب المحبوب عبد السلام باباً في تقييم تجربة الإسلاميين في مجال الاقتصاد تحت عنوان (اقتصاد الانقاذ من الفلسفة إلى الفوضى) وأول شيء ذكره هو موضوع تأسيس المجالس: “كان المجلس الاقتصادي هو أول أجهزة الحركة الإسلامية الداخلية التئاماً بعد نجاح عملية التغيير في يونيو (حزيران) 1989 م، لا يُماثله في ذلك إلا مجلس الإعلام، فقد انتصبت التحديات في مجاليهما مع ساعة الصفر وانفتحت تتضاعف مع تقدم الأيام في عمر الثورة، بل إنهما عبرا بجهود المسارعة لتكوينهما عن مدى التحول التنظيمي الكبير الذي ارتسم في الحركة الإسلامية مع تمام خطة التمكين، وخروج الحركة من التصدي المباشر اليومي لقضايا عملها في المجتمع إلى مشكلات إدارة الدولة “.

ومعروف أن الانقاذ في بداياتها واجهت واقعاً اقتصادياً صعباً نتيجة لتراكمات من العهود والحكومات السابقة ومن ضمنها توقف الدعم الخارجي وكذلك مجموعة من الظروف الطبيعية تمثلت في الفيضان والجفاف معاً : ” واقع الأمر واجهت ثورة الإنقاذ مع فجرها أوضاع اقتصادية بالغة التعقيد، فقد توقف أغلب العون الأجنبي الذي كانت تدفع به المؤسسات الدولية منذ شهر قبل سقوط الحكم الحزبي بالإنقلاب بسبب تراكم الديون. ثم الجفاف الذي أعقب عام الفيضان بما لم تشهده البلاد منذ عام المجاعة الأسوأ في عام 1984 م “.

لذلك كان التحدي الأساسي هو تجنب المجاعة المتوقعة نتيجة للحصار السياسي، مما تطلب التوجه نحو الزراعة باعتبارها المخرج الوحيد من كارثة المجاعة : ” كان هدف السياسة الاقتصادية لأول الأمر هو تجنيب مهددات المجاعة بعد أن لاحت أشباح الحصار السياسي، ومن ثم فقد اتجه أكبر الهم لإنجاح الموسم الزراعي المطري والمروي، وإذ أن غالب عائدات المواسم السابقة كانت متدنية فقد احتاجت الثورة لدفع مادي ومعنوي يُحرّك الطاقات المعطلة نحو الزراعة، فارتفع عفواً شعار (نأكل مما نزرع) موصولاً بروح الثورة التي استشعرت استقلالاً وعزة “.

4 الحركة الإسلامية السودانية وتحديات إدارة الدولة: تحدي الحرب والسلام (3-4)

ومن التحديات الأخرى كانت الطاقة، حيث كان توفيرها من الخارج معضلة كبرى وذلك لأسباب الحصار، وأيضًا مدى توفر العملات الصعبة لذلك: “كانت الطاقة (البترول) هي أكبر التحدي، كما هي أكبر بند في موازنة الدعم الحكومي”.

ووضع البترول في سلم الأولويات وفي أوائل التحديات وذلك لأهميته في دعم القطاعات الأخرى لاسيما الزراعة : ” كان البترول هو المجال الثاني المهم منذ أول استراتيجية الحركة، كأنه يوازي كل كتلة الاقتصاد الباقية، فرغم أنه يقوم فرعاً للإقتصاد لكنه في حالة السودان يمثل شرطاً حتى لنهضته الزراعية عبر أراضيه الشاسعة ولبقية البنيات الأساسية اللازمة للتنمية “.

ويسرد السر سيد أحمد وضع البترول عندما تسلمت الانقاذ الحكم في السودان وكيف تعاملت مع هذا الملف بأعلى المستويات، ففي كتابه (سنوات النفط في السودان) يقول: “عندما تسلم نظام الانقاذ السلطة في يونيو 1989 ووجه بمشكلة توفير الإمدادات النفطية المزمنة، ولهذا كانت زيارة السعودية من أولى المهام التي اضطلع بها نائب رئيس مجلس قيادة الثورة وقتها الزبير محمد صالح، كما استمر الجهد المحلي لتوفير شيئ من العملات الصعبة الشحيحة واللجوء إلى بعض الأساليب مثل الدفع المؤجل وغيرها، إلا أن وضع الإمدادات ظل حرجاً ومن اليد إلى الفم في افضل الأحوال، وهذا ما دفع إلى التفكير في تعامل مختلف مع ملف النفط وكيفية تحقيق اختراق في مجال استغلال ما تم اكتشافه فعلًا”.

وتحدث عن أهمية النفط حتى يحقق للنظام الجديد شيئ من الاستقلالية وتم التخطيط لها مبكراً، وأورد هذا الكلام على لسان الأمين العام للحركة الإسلامية في السودان الدكتور حسن الترابي: “وقال الدكتور حسن الترابي الذي أُعتبر المهندس الرئيس للإنقلاب أن ملف النفط احتل أولوية من البداية لتأسيس شيئ من الاستقلالية للنظام الجديد، وأنه حتى زيارة وفد من الجبهة القومية الإسلامية بقيادته إلى الصين في العام 1987 كان من بين اهدافه فتح الطريق للتعامل مع الدولة الصينية مستقبلًا “.

ومعروف أن الظروف السياسية بالبلاد بعد انقلاب يونيو 1989 قد منعت كثيراً من الشركات الأجنبية عن التنقيب في السودان، ولكن الدولة لم تقف مكتوفة الأيدي بل سعت للتواصل مع شركات أخرى وإن كانت صغيرة الحجم، يقول محمد درار الخضر في كتابه (إقتصاديات البترول في السودان): “ورغم الظروف السياسية التي أدت إلى إحجام الشركات الأجنبية عن التنقيب في السودان، إلا أن الدولة سعت إلى استقطاب شركات صغيرة منها شركة روم بترول للتنقيب في منطقة شارف وأبوجابرة وشركة إيستيت الكندية للبحث في منطقة هجليج بالإضافة لشركة الخليج للعمل بحقل عدارييل “.

ولكن الدولة حاولت تجاوز الحصار الذي فرضته الدول الغربية فاتجهت إلى الجهة الشرقية من العالم ووطدت علاقاتها الاقتصادية معها ويُؤكد محمد درار ذلك بقوله : ” ولقد حاولت الدولة كسر حاجز الحصار الذي فرضته الدول الغربية على شركاتها بعدم التنقيب في السودان فاتجهت شرقاً واستقطبت شركات من الصين وماليزيا كما استعانت بخبرات بعض الدول الشقيقة كإيران والعراق في مجال التدريب والاستشارات الفنية ومتابعة الاتفاقيات وتنفيذها، كذلك استقطبت إحدى الشركات الكندية للعمل سوياً مع الشركات الصينية والماليزية “.

وحاولت الدولة معرفة الاحتياطي لذا ركّزت على العمل في الحقول المكتشفة قديماً، ومن ثم تعاقد مع إحدى الشركات الصينية، وطرحت مساحات معتبرة من السودان للتنقيب فيها : ” وفي فترة التسعينيات تم التركيز على الحقول القديمة لمعرفة الاحتياطي المؤكد ولم تشهد هذه الفترة أي تنقيب خارج الحقول، ولقد قامت الدولة بمنح الشركة الصينية الوطنية للبترول (C.N.P.C) حقوق امتياز للتنقيب في العديد من المناطق داخل السودان، كما طرحت 50% من مساحة السودان للتنقيب فيها عن البترول”.

وكذلك التصدي لمشكلات إدارة الدولة فتح الباب واسعاً للحديث عن إدارة الدولة نفسها ومن ثم الحديث عن إدارة الملفات الأكثر أهمية وعلى رأسها الملف الاقتصادي. فقد كتب دكتور الهادي عبد الصمد عبد الله تحت عنوان : (تراث الحكم والإدارة): “منذ أن أُرسيت قواعد الدولة الحديثة في السودان ظل نظام الحكم يتأرجح بين مركزية قابضة من حاضرة البلاد وتفويض محدود أو تخويل متسع لأقاليم البلاد حسبما تستوجبه توجهات الحكم القائم ومقاصده وظروف البلاد الاقتصادية في ذات الأوان”.

واجهت ثورة الانقاذ الوطني في السودان في أيامها الأولى تحدي الإصلاح الإداري، مستخدمة قوة الدولة و(شرعيتها الثورية)، يقول المحبوب عبد السَّلام:

“وسمت كذلك ثورية الأيام الأولى موضوعة الإصلاح الإداري، إذ رُفع شعار يبغي الرشد والفاعلية لجهاز الدولة ويُطهّره مما ران عليه من فساد وترهُل وخُمول، وكُونت لجنة عُليا في مجلس الوزراء كان ينبغي أن تنظر في جُملة تجارب الإصلاح الإداري التي تطورت في العالم وأصبحت خبرتها علماً، ولكن طغى الشعار المباشر البسيط على المهمة العميقة المعقّدة “.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى