أشتات

المقامة التَّعدُّدِيَّة

قال مسلمُ بنُ عبدِ اللهِ: جلستُ إلى أحدِ أصفيائي، وفردٍ من خِيرةِ أصدقائي، فداراتْ كؤوسُ الأُنسِ علينا، وتجاذبنا أطرافَ الحديثِ بيننا، وحلّقنا في آفاقٍ شتى، وقضينا في الجولانِ فيها وقتا، وتوافقنا في كثيرٍ من الآراء، والتقتْ رؤانا على عددٍ من الأشياء، لكننا تباينا في موضوعٍ واحد، ولم تفصل بيننا فيه كثرةُ الحججِ والشواهد، فمضى زمانٌ والحججُ في سجال، وحبلُ الخلافِ ممتدُّ الاتصال.

فقلتُ لصاحبي: لو فزعنا إلى حَكمٍ نعلمُ حصافةَ آرائِه، فنرضى بحكمِه وقضائِه، فقال: ذاك أبو الحارثِ المعهودُ بالحكمةِ والبيان، وطولِ المراسِ في كلِّ ميدان.

فقلتُ: لقد أحسنتَ الاختيار، فإليه البدارَ البدار.

فانطلقنا إلى منزلِ أبي الحارثِ الذي شطّتْ به النَّوى، وضمّتْ رحابَه الناحيةُ القصوى.

فلما وصلنا إلى باب مسكنه، وموضعِ موطنِه، هفتْ إلى أسماعِنا جلبةٌ تشتد، وعراكٌ زوجيٌّ محتد، فقلنا: لقد أخطأنا المجيءَ هذه الساعة، وخشينا القفولَ بلا بضاعة، فيذهبُ عناؤنا أدراجَ الرياح، ويبقى ليلُنا الداجي بلا إصباح، وعزمنا على امتطاءِ الأوبة، والرجوعِ بالحسرةِ والخيبة.

غيرَ أن الخلافَ ما لبثَ أنْ خبتْ نارُه، ولهبَ الأصواتِ خمدَ استعارُه، فاخترنا الانتظارَ قليلا، وصبرنا عليه صبراً جميلا.

ثم طرقْنا البابَ على استحياء، وطمعنا أن لا نُردَّ بعد الشّقةِ والعناء، ففتحَ لنا أبو الحارثِ بابَه، وأنزلنا بكرمِهِ رحابَه، فحيّا بنا وبيّا، وبسطَ لنا بشاشةَ المُحيّا، وقال: أهلاً بضيوفٍ كرام، وأوِدّاء عِظام، على الرحبِ والسعةِ نزلتم، وعلى السهلِ والأهلِ حللتم.

فقابلنا ترحيبَه بالإعظامِ والتبجيل، والثناءِ الوافرِ الجميل.

فقلنا: يا أبا الحارثِ الحكيم، لقد جئناك لأمر عظيم، نرومُ أن نسمعَ فيه رأيَك العادل، وحكمَكَ الفاصل؛ فأنت ذو رأيٍ جزل، وقضاءٍ عدلٍ فصل؛ حتى أعودَ وصاحبي إلى الائتلاف، بعد التنازعِ والاختلاف.

فقال: فضّ ختامَ قضيتِكم، فأنا أذنٌ مصغية لكم.

فقلتُ: لقد اختلفتُ مع صديقي هذا على القولِ في تعددِ الزوجات، وأيّ الرأيين هو أولى في هذه الأوقات.

قال أبو الحارث: اسمعا مني، وخذا القول عني، ولعلكما قد أصغيتكما إلى أصواتنا قبل أن تلجا، وسمعتما حديثًا مزعجا؛ فإن لي امرأةً تكثرُ الخلاف، وتديمُ إلى الشجارِ الاختلاف، ولو كنتُ أعتمدُ على عصا الغضب، لقلتُ: إن الزواجَ على مثل هذه قد وجب، لكنني سأقضي في هذه القضيةِ بالقولِ الراجح، وأشيرُ فيها بالرأي الصالح، ولعلها تنصتُ الآنَ إلى الحديثِ المقول، وتتشوفُ لما سأبينُ وأقول، فألقوا نحوَ ما أقولُ السمع، وانتظروا البيانَ والنفع.

قال الراوي: فأنشأَ أبو الحارثِ يقول: إنّ تعددَ الزوجات، من النعمِ الجزيلات، والمواهبِ السَّنِّيات، والتشريعاتِ الحكيمات، تفضلَ اللهُ على الرجالِ والنساءِ بإجازتِه، وأكرمهم بتشريعِه وإباحتِه؛ لما له من كثرةِ الفوائد، وحَسنِ العواقبِ والعوائد.

فهو طريقٌ إلى تكثيرِ عددِ الأمةِ المحمدية، وتوسيعِ دائرةِ أتباعِ الشريعةِ الإسلامية، لا سيما ورحى الحروبِ مازالت تطحنُ الرجال، وتكثرُ عددَ الأراملِ ويتامى الأطفال، والعزةُ إنما هي للكاثر، والبقاءُ لقطارِ الإيلادِ السائر.

والتعددُ سبيلٌ إلى تمامِ العفافِ والصيانة، وإبقاءِ أنوارِ الطهرِ ناصعةً على جبينِ الديانة، فالنساءُ كثير، والشرُّ مستطير، وكم حبستْ العنوسةُ بين جدرانِها، وجرّعتْ نزيلاتِها همومَها وأحزانَها، وساقتْ إلى الانحرافِ ضعيفاتِ الإيمانِ والحياء، واستغلّهنّ الرجالُ اللؤماء الخبثاء، ولذلك كم امرأةٍ راضيةٌ اليومَ بربعِ زوجٍ حياتَها، قبل أن تلقى حِمامَها ووفاتَها.

ألا تنظرونَ إلى الأرامل، اللاتي ذهب عنهن العائل، وفُقد الراعي والكافل، وبين أيديهن صبيةٌ ضعفاء، قد لا يجدون من يضمُّهم من الرحماء، ومتى بقوا عند أمهم جاعوا، وربما انحرفوا وضاعوا، فكم بالتعددِ سعدتْ امرأةٌ محرومة، وشُفيتْ به أخرى مهمومةٌ مكلومة.

والتعددُ سبيلٌ إلى الكفايةِ والثراء، وسببٌ لانتفاعِ الوالدِ بكثرةِ الدعاء، فمتى ما تعددَ زرعُه، ونما نسلُه وفرعُه، زادَ له الداعون، وكثر له الشافعون، وربَّ منزلةٍ علاها في الجنةِ بصلاحِ ولد، ما كان يُبلِّغُه إياها أحد.

وكم بالتعددِ عزَّ الرجلُ وتقوّى، وبلغَ من الأماني ما يهوى، واشتدَّ شأنُه بتعددِ أصهارِه، وامتدادِ أعوانِه وأنصارِه.

ولو كان التعددُ شراً لما حاربَه أعداءُ الفضيلة، وشوهَه خدناءُ الرذيلة، فصارَ الانحرافُ الجنسيُّ اليومَ حريةً شخصية، وأصبحَ التعددُ مخالفةً قانونية، أو خروجًا عن العاداتِ المجتمعية!.

ويكفي التعددَ فضيلة، وكونُه خصلةً جليلة، أنه من سننِ المرسلين، وعملِ السالفينَ الصالحين، الذين ضربوا المثلَ في تعددِ النساء، وكثرةِ البناتِ والأبناء، وهم القدوةُ الصالحةُ في الرجال، والمثلُ الأعلى في الأعمالِ والأقوال.

أفلا تدري الزوجاتُ أن التعددَ خيرٌ لهن، وحصولُه يفيدُهن وينفعُهن، إذا كان على نهجٍ رشيد، وفكرٍ دافعٍ سديد؛ فالزوجةُ تعرضُ لها الأوجاعُ والأسقام، وتنتابُها المكارهُ والآلام، وهذه العوارضُ قد تُخبِيْ وهجَ الحبِّ والوئام، وتولِّدُ التباغضَ والخصام، وتدفعُ غيرَ المتقين إلى الحرام.

وبعضُ الأزواجِ قد يحتاجُ إلى عنايةٍ كبيرة، وجهودِ متعددةِ كثيرة، والزوجةُ الواحدةُ قد تضعفُ عن تلك الحاجات، أو تعجزُ عن تلبيةِ كلِّ تلك الطلبات، ولو كان لزوجِها زوجةٌ أخرى أو زوجات، لحملتْ عنها كثيراً من المشقات.

قال الراوي: ثم أنشأَ أبو الحارثِ يقول:

قلِ للرجالِ إذا أزمعتْ نُصحَهمُ

خذوا الحقيقةَ عنّي دونما دجَلِ

وحكِّموا العقلَ والإيمانَ واجتنبوا

حكمَ العواطفِ والتلبيسِ والوجلِ

لم يشرعِ اللهُ حكمًا في شريعتِه

إلا له حكمةٌ مهديّةُ السُبُلِ

إنّ التعددَ في الزوجاتِ منقبةٌ 

وزينةٌ في سماءِ العزِّ للرجلِ

ومغرسٌ يُنبتُ الخيرَ الكثيرَ وفي 

قطوفِه قرةٌ في الناسِ للمقلِ

كمْ كُربةٍ ذهبتْ فيه وكمْ شُفيتْ

في أُفْقِهِ أنفسٌ ظلّتْ على عِللِ

وأسعدَ اللهُ في أفياءِ واحتِه

 وردَّ للطهرِ من قدْ كانَ في زللِ

وبلَّغَ المرءَ ما يرجو وأورثَه 

نُعمى القناعةِ والراحاتِ والجذَلِ.

قال الراوي: ثم إنْ أبا الحارثِ التفتَ إلى صاحبي وقال:

إنّ الزوجةَ الواحدة، إذا كانت صالحةً مساعدة، تطاوعُكَ، ولا تنازعُك، وتعاضدُكَ ولا تعاندُك، وتكفيك ما تريد، وتنتهجُ في البيتِ الدربَ السديد؛ فهي خيرٌ لك من إضافاتٍ إليها، وضراتٍ يجئن عليها.

فبالزوجةِ الواحدةِ يدومُ الوفاء، ويقلُّ العناء، وتندرُ المشكلات، وتنقصُ الخلافات، ويحصلُ تمامُ الأمنِ الداخلي في المنزل، وتكونُ الفوضى والخروجُ على الحاكم في معزل، ويسودُّ البيتَ الاستقرارُ والسكون، ويقلُّ الحسدةُ والواشون، ويبقى البيتُ مصونًا من كيدِ المرأةِ ومكرِها، وانتصارِها لغيرتِها وشرِّها، وتقلُّ معَ الزوجِ التحقيقات، وتسليطُ المراقبينَ والمراقبات، ولا يكثرُ التجسسُ على المكالمات، والاطلاعُ على الصورِ والرسالات.

ومع الزوجةِ الواحدةِ تقلُّ النفقات، ولا تكثرُ الحاجاتُ والطلبات، ولا تزالُ الزوجةُ حريصةً على الاكتفاءِ بالقليل، وتركِ الإسرافِ وطلبِ التبديل.

ومع الزوجةِ الواحدةِ تصبحُ أسرارُ الزوجِ في أمان، فلا يمتدُّ إليها علمُ الأقاربِ والأصحابِ والجيران.

ومع الزوجةِ الواحدةِ يضحي الزوجُ حراً في أوقاتِه، غيرَ محاسبٍ على تأخرِه وتنقلاتِه.

وفي ظلِّ الزوجةِ الواحدةِ يراقبُ الوالدُ الأولاد، فيعرفُ الرائحَ منهم والغاد، والعابثَ والجاد، فلا يغيبُ عنهم فيغيبوا عن الرشاد، ويتنكبوا طريقَ الخيرِ والسداد. ثم أنشد قائلا:

واحدةً من النِّسا بلا عددْ 

 إذا أردتَ عيشةً بلا نكدْ

ورُمتَ رأيًا للعقولِ ذا سددْ

 يهديك في نهجِ الزواجِ للرّشَدْ

في ظلِّها تُحلُّ أسبابُ العُقدْ 

 وينطفيْ حَرُّ الهمومِ والكَمَدْ

ويستقيمُ عندَها شأنُ الولدْ

ويسهلُ الدواءُ إنْ داءٌ وردْ

فلا يُغامِرْ في النسا يومًا أحدْ

إلا إذا قدرتَه حقًا وجدْ

فإنْ رأى صلاحَه مع العددْ

 مضى، وإلا مَرأةٌ إلى الأبدْ.

قال الراوي: فلما رآنا، وتوسّمَ في مرآنا، عرفَ أننا لم نظفرْ بحاجتِنا التي رُمنا، ولأجلِها وفدنا عليه وجئنا؛ فقال: لعلكم تطلبون الفصلَ في المسألة، والخروجَ برأي في هذه المعضلِة، فخذوا الرأي بإيجاز، بعيداً عن التعميةِ والإلغاز، والتكنية والمجاز، فأنا لستُ مع القائلين بالتعددِ لكلِّ أحد، ولا المزهِّدين منه لمن قدرَ عليه ووجد، بل أنا مع التعددِ لمن كان عليه قادرا، ورأى له في نفسه سببًا داعيًا ظاهرا، وغدا التعددُ في حقِّه فضيلة، وسمةً حسنةً جميلة، وكان له دِينٌ يحجزهُ عن الميلِ والعدوان، وقلبٌ يتسعُ للصبرِ على النسوان.

أما إذا كانَ مع الواحدةِ سعيدا، ودجى المنغصاتِ عن بيتِه بعيدا، وزوجتُه حسنةُ التبعُل، ساميةُ الوفاءِ والتجمل، وقدرتُه لا تسعفُه على المزيد، وركوبِ قطارِ التعديد، أو كانت رغبتُه في التعددِ عن طفرةِ طيش، وعجلةٍ تحت سحابةِ رغدِ العيش، أو كانَ لمجاراةِ قريبٍ أو صديق، أو وثبةِ رحمةٍ على امرأة من قلبٍ شفيق؛ فإن التعددَ في حقِّه قد يصيرُ عناء، ويصبحُ على حياتِه ألمًا وشقاء، فقد يفقدُ بالزواجِ الجديد، عيشَه الماضيَ السعيد، ويهدمُ ما بنته السنونَ من السعادة، وتصعبُ عليه المراجعةُ والإعادة، فلا هو بالذي حافظَ على الجميلِ السابق، ولا بالذي سعدَ بالزواجِ اللاحق.

قال الراوي: فلما سمعنا هذه الخلاصة، العريّةَ عن البخلِ والخصاصة، النديّةَ بالرأي السديد، والنصحِ الأمينِ الرشيد؛ شكرناه على ما بذلَ من حديثِه الشيِّق، وكلامِه المهذَّب المتأنّق، وودّعناه بالدعاء، وفارقناه بالمدحِ والثناء.

23/6/1444هـ، 16/1/2022م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى