المدونة

الأديب الزّيّات في أمرين

أنا أُحبُّ أحمد حسن الزّيَّاتَ (1885 – 1968)؛ أحبّه في أدبهِ الرَّفيع، وفي سمته الرزين، وأُحبّه في “الرسالة” (1933 – 1953) التي أنشأها فكانت لسانًا عربيًّا مُبينًا؛ وهو، من بعدُ ومن قبلُ، مَعْلَمٌ باذخٌ من معالمِ النَّهضة الأدبيّة في القرنِ العشرين؛ ردّ على العربيّة، مع رصفائه، رونقَها وبهاءها وجعلها في صميم العصر من دون أن يَسقط شيءٌ من أصالتها. قلتُ عنه، قبل سنين، حين درستُ أدبَ المقالة عنده: إنّه من أكتبِ أهل العصر ولولا طه حسين لقلتُ أكتبهم!

وإذا كان من أقرانه من زاول السياسة وانغمس فيها، وتولّى أشياء من خيرها وشرّها فإنّ الزّيّات ظلّ بمنأى عن غَمَراتها، قاصرًا نفسه، في جملة الحال، على الأدب وما هو منه بسبب؛ يحاذرُ أن تزلّ قدمُه؛ ولكن من أين يجيءُ التمامُ وقد بُني الإنسان على النقص، وجُعل بين جنبيه منازعُ قوّة وضعف! فقد مالت به كفّة الميزان مرّةً أو مرّتين، وانزلق القلمُ من يده، واحتطب في غير حباله، فلامس رجالَ القصر في أوهن موضع منهم!

كان ذلك حين توفّي الملك فؤاد الأوّل، وتهيّأ ابنُه فاروق لتولّي الأمر من بعده؛ فمدّ بصره إلى القصر، وكتب في شهر أيّار من سنة 1936 مقالة بعنوان: “الملكُ العالمُ فؤاد الأوّل “صبّها في رثاء الملك وتمجيده؛ جاء فيها: “كان الملكُ فؤاد رحمه الله من مظاهر القدر في الأرض، يجلس على عرش من أعرق العروش نسبًا في الملك، ثمَّ يأمر فيُطيع شعبٌ، ويقول فيسمع عصرٌ، ويعمل فيسجّل تاريخٌ، ويضع حكمه موضعَ الإرادة السماويّة فيكون شريعةً لا تُخالف، وعقيدةً لا تنكر. “ثمَّ مضى بها على هذا النَّحو من التَّمجيد والتبجيل حتّى أتمَّها.  ولكنّ كلامه في الملك المتوفّى، على أيّة حال، مقتصدٌ إذا قيس بكلامه في ابنه الذي سيتولّى العرش بعده؛ فقد كتب، بعد أيّام، مقالة بعنوان: “صاحب الجلالة فاروق الأوّل “أدارها على تمجيد فاروق وإعظام شأنه؛ فقال في مستهلّها: “لم ترَ مصر في أرجح الظنّ قبلَ احتفالها بمقدم الفاروق قلبَها يخفقُ بالحبّ عن إخلاص، ونفسَها تفيضُ بالإجلال عن حقيقة، ولسانَها يجأر بالدعاء عن عقيدة، وسوادَها يتسابق إلى الاحتفال عن طواعية. “وقال في أثنائها: “إذا كان من الحقّ أنّ بعضَ الأسماء ينزلُ من السماء؛ فإنَّ اسم فاروق وضعه القدرُ وضعًا لهذه الساعةِ المشهودةِ من تاريخ مصر، ولعلّها أشبهُ بالساعة التي لقّب فيها الرسولُ (صلى الله عليه وسلم) صاحبه عمرَ بالفاروق.” ثمَّ قال: “ذلك هو مليكُنا العظيمُ بعقيدته السَّليمة، ونفسيّته الكريمة، وخطّته الواضحة. “ثمَّ كتبَ في آب سنة 1937 مقالتين في  التتويج؛ الأولى: “أسبوع التَّاج”، والثَّانية: “جلالة الملك فاروق الأوّل بمناسبةِ تتويجه”، وكلتاهما مسرفةٌ في تمجيدِ الملك والثَّناء عليه  بما يخرجها من حيِّز الصَّواب، ويُلقي بها في  حيِّز لا يحسنُ بالزيَّات أن يدنو منه؛ قال في الأولى: “كانت مصر كلّها طوالَ الأسبوع الماضي،  من صباح أحده إلى مساء سبته، في سكرة من الطرب النشوان، وفورة من الحماسة المضطرمة… لمقدم الفاروق، ولتتويج الفاروق، ولمواهب الفاروق…[ لقد ] انفعلت قلوبُ النَّاس بما أجنّته للمليك الشاب من الإعجاب والحبّ والأمل. “وقال في ختامها: “ومخايل الفاروق ودلائل الحال، تؤكّد أنّه سيكون في عهده السعيد المجيد موئلَ الدستور، وملاذَ الحريّة، وحارسَ الدين وراعيَ الشعب. “وقال في الثانية: “اجتمع لجلالةِ الفاروق – أعزَّ الله نصره – ما لم يجتمع لملكٍ قبله من المزايا والخصائصِ فأحببناه أكثر من أخ، وأجللناه أكثر من ملك… لا جرم أنَّ فاروقًا هو أوّلُ ملك في تاريخ مصر القديم والحديث نشّأته الأمّةُ على طبعها وحسّها، وأعدّته لعرشها بنفسها، وتوّجته بطوعها ورضاها.” وحين تزوّج الملك في سنة 1938 كتب الزيّات مقالة بعنوان: “الزواج الملكيّ السَّعيد” غلا فيها بالقول، ونأى عن القصد، ووقع فيما يَشينُ قائلَه؛ قال: “مولاي، يا زينَ الشَّباب! لنعم المثلُ العالي لناشئة الجيل أنت!… مولاي، يا أميرَ المؤمنين! لنعم الإمامُ العادل لدولة الإسلام أنت!”.

كلُّ هذا الكلام قاله أديبٌ كبير في الثالثةِ والخمسين من عمره لفتى ناشئ في الثَّامنةَ عشرةَ من عمره!

ولو أنّه بقي على قوله فيه ولم يتحوّل إلى ضدّه لقال الناس: أديبٌ أحبّ ملكًا فغلا في التَّمجيد والثناء، وغفل عن النقائص والعيوب! ولكنَّه انقلب عليه بإظهار المعايب كلّها والجهر بها حين قام تموز 1952 فأسقط الملك وأزال دولته! وقد كتب جملةَ مقالات في ذلك؛ منها ما كتبه في كانون الأوّل سنة 1953 تحت عنوان: “من عهد إلى عهد”؛ فقد قال: “كانت مصر في العام الماضي قد دبَّ في حسّها الوعي، من طول ما وخزتها الأقلام، وأرمضتها الآلام وقرعتها القوارع؛ فأدركتْ أنَّ فوق عرشها ملكًا خليعًا قد جعل نصفه البهيميّ للزنا والميسر والدعارة، ونصفه الآدميّ للربا والنهب والتجارة”!

ذلك ما وقع فيه الزيّات إذ انقلب من حال إلى حال؛ وكلا الحالين ليس من ثياب الأديب ذي الفكر والبيان! فمثلُه في مكانته الرفيعة لا يصحّ أن يجعلَ قلمه في حاشية ذي سلطان؛ يزيّن أفعاله، ويخدع الناس عن سوآته!

لكنّ ما قام به الزيّات من مدح السلطان، على جوره وظلمه، شيءٌ ممّا درج عليه الأدب حتّى قال شيخ المعرّة:

وما أدبَ الأقوامَ في كلّ بلدةٍ 

 إلى المَينِ إلّا معشرٌ أدباءُ

بل حريٌّ بصاحبِ القلم أن يحفظَ على القلمِ شرفَه بالصّدق والإخلاص والحقّ المبين…!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى